في سبعينيات القرن الماضي، وفي معارك البيشمركة مع جيش النظام السابق، أسقطت قوات البيشمركة عدة طائرات عمودية ومقاتلات، مما أفقد النظام وإعلامه توازنهما، وأوقعهما في هستيريا ثقافة المؤامرة، التي دفعتهما إلى اتهام إيران وإسرائيل وأميركا بتزويد البيشمركة بمدافع متطورة مضادة للطائرات. وأفردت وسائل الإعلام في حينها مساحات واسعة من الدعاية السطحية الساذجة، متناسية أن تلك القوات كانت تقاتل لأجل قضية وطنية مقدسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشرف الشخصي للمقاتل وانتمائه للوطن والشعب. ولهذا كانت تقاتل بضراوة وتحقق انتصارات باهرة بأسلحة عادية جداً، لا يصدق النظام وأمثاله أنها تحقق الهدف، لسبب بسيط: أن تلك الأسلحة بأيدٍ تدافع من أجل أبنائها وبناتها وتحافظ على عائلاتها، وليست أجيرة أو مجندة بالقوة أو بالقوانين، بل كانت تطوعية، يحمل فيها المتطوع قلبه على كفيه وهو يقاتل من أجل أسرته.
لقد تأملنا خيراً بانتهاء حقبة الاحتراب ومحاولة إلغاء الآخر أو إذلاله بعد 2003، لكن للأسف، يبدو أن تلك الفيروسات البشرية ما زالت تعشش في عقول وقلوب تلك المجاميع المصابة بالهوس العنصري والطائفي. وما زالت تنشد "احنا مشينا للحرب"، لتحرق في ماكينة حروبها الأخضر واليابس، متناسية ما انتهت إليه مثيلاتها في 2003 وما قبله، حيث تساقطت كل الأنظمة التي حاربت، وعادت كوردستان وأهلها، وانتصر الكورد، ورُفع غطاء الكذب والدعاية الرخيصة عن منجزات هذا الشعب العظيم. هذا الشعب الذي حقق في أقل من عقدين من زمن الحرية المحدودة، ما عجزت عن تنفيذه كل الأنظمة العراقية منذ تأسيس كيان العراق الملكي وحتى نظام الميليشيات الحالي، حيث أصبحت كوردستان عروس العراق وملاذه الآمن المزدهر، الذي يرى فيه العراقي وجوده وكرامته وحريته.
قوات البيشمركة تأسست بقرار من الشعب، وليس من شخص أو دولة أجنبية أو حكومة. هي قوات من الثوار حملوا قضية شعبهم وحريته وكرامته على أكتافهم منذ قرابة المئة عام، تصدت خلالها لأعتى الأنظمة الاستبدادية وأكثرها مالاً وسلاحاً وعدداً. وانتصرت دائماً لأنها كانت تمتلك سلاحاً آخر افتقدته تلك الجيوش المعادية، ألا وهو سلاح البسالة والإيمان بقضية هذا الشعب دون مقابل أو هدايا أو تكريم. البيشمركة قوات نظمت نفسها بأروع تنظيم، وحرّمت على مقاتليها أي تصرف خارج منظومات قوانين الحرب والفروسية في التعامل مع العدو ومخرجاته من الجرحى والأسرى. ويشهد الذين وقعوا في أسر تلك القوات كيف كانت تتعامل معهم البيشمركة، وكيف كانت تلك القوات تُخلي جرحى العدو قبل جرحاها لمعالجتهم حتى الشفاء، وتخيرهم بين البقاء معززين مكرمين مع البيشمركة في المناطق المحررة، أو العودة سالمين إلى ذويهم.
إقرأ أيضاً: احذروا (عجايا) السياسة!
هذه القوات لم يسجل عليها عبر تاريخها أي عملية إرهاب أو اغتيال أو تفجير وسط مدنيين أو عمليات خطف أو تصفية حتى للأعداء خارج حالات المعارك. بل كانت تذعن لأي نداء لإيقاف الحرب، ومنح القوات المتحاربة هدنة للراحة ووقف إراقة الدماء، لسبب بسيط لا يفقهه العدو، وهو أن واجبها ليس الحرب، بل الدفاع عن السلام والحرية والكرامة. ولعل الكثير يتذكر كم هدنة وافق عليها أو طلبها الزعيم ملا مصطفى البارزاني في أوقات كانت القوات العراقية في أتعس ظروفها وأضعفها. وكان يعترض العديد من قادة البيشمركة على تلك الهدنة بسبب ضعف القوات المقابلة، لكن البارزاني كان يؤكد أن القتال لم يكن من أجل القتال، بل من أجل السلام. التفاوض والحوار ألف عام أفضل من القتال لساعة واحدة!
إقرأ أيضاً: العراق و(كوتا) الشعوب الأصيلة!
منذ 2005 والحكومة العراقية تتعامل مع هذه القوات بذات عقلية الأنظمة السابقة، فمنعت عنها رواتب أفرادها، بل ومنعت عنها التسليح والتدريب، رغم أن الدستور ينص على اعتبارها جزءاً مهماً من المنظومة العسكرية الوطنية. ولا تنسى هذه القوات مواقف البعض من تأخير تسليم الأسلحة التي كانت تمنحها إياها الولايات المتحدة والتحالف الدولي في مخازن التاجي في أدق أيام الصراع مع داعش. كانت تُحرم من الذخيرة والأسلحة الممنوحة لها، ولعل صفقة الأسلحة الأخيرة وهي مدافع هاوتزر عيار 105 ملم التي اعترض عليها أفراد من بقايا مجموعة "علي كيماوي" خير مثال على هذه السلوكيات المنحرفة. هذه الصفقة كانت قد عُقدت قبل سبع سنوات، وتم حجزها وتأخير تسليمها حتى قبل شهرين فقط من اليوم. ولولا الضغط الأميركي وحكومة الإقليم لما تم تسليمها. وحينما سلمت، وبعد شهرين، فاق "نايمو الضحى" من المتسلقين على أكتاف الميليشيات واعترضوا عليها، أملاً في ولوج مناصب بروتوكولية!
فعلاً، كما قلناها في مقالنا السابق: احذروا أيها العراقيون الأصلاء من عجيان السياسة، فهم آفة الفساد والإفساد!
التعليقات