هل يفتش بديعي/ همايون إرشادي، بطل فيلم "طعم الكرز_1997"، في الهوامش والضواحي عن مشارك يقبل مهمة إهالة التراب على جثته، أم يسعى إلى اختبار قناعته وموقفه الوجودي، والإقرار_عمليا_بضرورة التناغم مع إيقاعات الطبيعة والكون، رغم مرارات الحياة وصعوبات التكيف مع أحوالها؟
هل يبحث بديعي/ همايون إرشادي عن رادم لقبره، أم عن شاهد على موته؟ هل يبحث عن شاهد يخرج موته من دائرة المجهول والغفلية إلى دائرة المعلوم والمدرك؟ ألا يسعى_في العمق _ إلى طقسنة أو أنسنة موته؟

_سيناريو الانتحار وأدوار الشريك: I

يطوف بديعي/ همايون إرشادي، في ضواحي وهوامش طهران، ويتفحص الوجوه والهيئات وكأنه يبحث عن عمال مياومين. والحال أنه يبحث عن مشارك، في فعل محفوف بالمخاطر، قانونيا، والرذولة، أخلاقيا، والمخاوف، نفسانيا.
تطغى فكرة الانتحار تبعا لسيناريو دقيق على بديعي/ همايون إرشادي. فقد اختار مكانا ووقتا محددين، وخطة مرسومة بدقة للانتحار.
تستحوذ على ذهنه ووعيه، خطة وحيدة، يسعى بكل الطرق لتنفيذها، ويسعى إلى إيجاد شريك يهيل عليه التراب إن مات، لقاء مبلغ مالي مرتفع نسبيا.
يتعلق الأمر هنا برغبتين اثنتين: الرغبة في الانتحار يأسا من الحياة، والرغبة في الانتحار وفق سيناريو محدد. صار بديعي/ همايون إرشادي، في الحقيقة، رهين هوسه بالسيناريو المحدد، والخطة المرسومة. فهو لا يحيد عن مسار وحيد، يحاول، بالترغيب غالبا، إقناع مخاطبيه بالانخراط فيه.
إنه متمسك بالإنجاز وإجراءاته، وتتالي العمليات، وترتيب الأفعال؛ ولذلك حرص على إخبار محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري، في مكان عمله (متحف التاريخ الطبيعي) بتفاصيل دقيقة، لا بد من الحرص عليها لإنجاح المهمة وفق تصوره.

يبحث بديعي/ همايون إرشادي عن شخص عملي متعدد الأدوار:
_دور الإنقاذ: سيتكلف بإنقاذه، إن لم يمت، ومساعدته على الخروج من الحفرة/ القبر؛
_دور رادم القبر: سيتكلف بإهالة التراب على الجثة، إن تأكد من موته؛
_دور الشاهد على تحقق الموت.

_سمات شخصية بديعي/ همايون إرشادي: II

يتميز بديعي/ همايون إرشادي بالسمات التالية:

1_محدودية الكفاءة التواصلية:
خرق بديعي/ همايون إرشادي كل مقتضيات التواصل، أثناء حديثه الغريب مع الشاب الخارج من مخدع الهاتف. فقد أراد استمالة الشاب المرتاب أصلا في نواياه، بالاستفهام عن مشاكله المالية، دون تمهيد أو مقدمات، أو خلق جو سليم للتبادل والتفاعل الإيجابي، فما كان من الشاب الرافض أصلا خدماته (توصيله بالسيارة/ المساعدة المالية)، الا أن هدده بالفتك.
وحيث إنه منحصر في ذاته، فإنه لا يهتم كثيرا بفهم الآخر، واستكشاف بنية تفكيره، وفحص المضمر في خطابه. فبينما أظهر الجندي/ صفر علي مرادي قلقه وتردده وتحفظه على مبادرة بديعي/ همايون إرشادي (شكه وعدم إحساسه بالأمان ورغبته في العودة ومبارحة الطريق الصخري) وامتناعه القطعي والكلي عن المشاركة في المهمة الجنائزية (رفضه الخروج من السيارة ومعاينة الحفرة)، فإنه يحاول إغراءه بالمال من جهة، واستمالته عاطفيا(التأكيد على الصداقة والبنوة )، والضغط عليه من جهة أخرى.

2_ضعف المرونة:
يظهر بديعي/ همايون إرشادي كثيرا من التصلب في محاورة الجندي و الطالب الأفغاني، ويفتقر_إجمالا _إلى المرونة في التعامل (تجاهله الكلي العامل وتحذيراته وتنبيهاته في موقع العمل/ تجاهله كلام العمال المياومين/ اكتفاؤه بأخذ صورة للعاشقين دون تودد أو مجاملة / شكره العمال ببرود ظاهر/ الضغط على الجندي/ التعالي المبطن على الطالب الأفغاني ).وبذلك لا يريد الإنصات إلى حجج ومسوغات الطالب، ولا فهم تحفظ وتحرز الجندي الكردي، ولا يدرك قيمة ودور الضيافة في دعم العلائق (رفض شرب الشاي الأفغاني وأكل العجة).
وبينما، يغوص بديعي في الاكتئاب و يقاسي ويلات الحيرة الفكرية والوجودية ويجوب وحيدا أو مصحوبا بمشارك مفترض متاهة صخرية جرداء ومقفرة، ينعم الآخرون، بالمتع المتاحة، وبالمباهج الممكنة، ويتطلعون إلى كينونة ممتلئة في رحاب اليقين التداولي.يكتفي الآخرون باقتناص لحظات الفرح، رغم بؤس المكان (لعب الأطفال في مكان موحش)ومشاق الكسب( ربح مبالغ بسيطة من بيع أكياس البلاستيك/ حصول الجندي على راتب محدود) والإحساس بالغربة والاغتراب وقحولة المكان(استماع حارس الأمن الأفغاني إلى أغنية أحمد ظاهر:"خدا بود يارت/ الله هو حاميك") وثقل المسؤوليات العائلية (إصابة ابن محنط الحيوان بفقر الدم).

3_البرودة العلائقية:
يفتقر بديعي/ همايون إرشادي، بسبب استغراقه في عالمه الذاتي وبحثه عن حل لمعضلته الوجودية، إلى القدرة على الجذب والعطاء والتداول الإيجابي.
وحيث إنه يفتقر إلى الدفء العاطفي والنضارة الوجدانية، فإن علاقاته بالآخرين مطبوعة بالفتور واللامبالاة (تصوير العاشقين المحتفلين بالحب وقوى الحياة بلامبالاة ظاهرة/ إجراء حوار بارد مع الأطفال وهم في لحظة لعب وفرح/ اكتفاؤه بتحية شكر باردة للعمال بعد تفضلهم بمساعدته/ رفضه شرب الشاي الأفغاني/ عدم تجاوبه مع تنبيهات وتحذيرات عامل مصنع الإسمنت.)
لا يريد بديعي/ همايون إرشادي الإفصاح عن مسوغات رغبته في الانتحار، بدعوى عجز مخاطبيه عن تقمص حالته وجدانيا.فطالما بقي المخاطب في دائرة الفهم والاستيعاب، وعجز عن التقمص الوجداني للحالة الشعورية والوجدانية، للشخص المكتئب، فإنه سيعجز عن فهم شرعية الطلب(دفن الجثة بعد التأكد من موت المنتحر).والحقيقة، أنه لا يظهر عناية كبرى بالتقمص الوجداني، بدليل سعيه إلى إقناع الجندي/ صفر علي مرادي والطالب الأفغاني/ مير حسين نوري، بالمشاركة في انتحاره، دون أن يسبر عالمها الشعوري والوجداني بل يمعن في خرق كل شروط الفهم، حين سعى إلى إقناعهما بجدوى العملية استنادا إلى ما يلي:
_الكسب المالي:
لا تبرر الحاجة إلى المال في اعتبار مخاطبيه المشاركة في مهمة محفوفة، بالمخاطر والمحاذير، قانونيا و أخلاقيا واجتماعيا وتربويا.تغيب النظرة المركبة في تعامل بديعي/ همايون إرشادي مع مخاطبيه، ولذلك لا يستحضر البعد المركب والخلفيات والمعايير التداولية المتحكمة في قراراتهم ومواقفهم، ويتغافل عن الأبعاد الرمزية والثقافية للشخص البشري.فهو يصر على الفصل بين العمل والأجر واختزال العامل في بعد واحد (البعد الاقتصادي والتقني )، فيما يتمسك الجندي/ صفر علي مرادي بالربط بينهما، واستحضار الأبعاد الثقافية والرمزية والأخلاقية للأفعال مهما كانت طبيعتها.
_خصوصية وضعه الاجتماعي –الثقافي:
يملك بديعي/ همايون إرشادي زمام المبادرة، بالنظر إلى وضعه الاجتماعي_الثقافي، المتميز بالقياس إلى وضع مخاطبيه.لا تخطئ عيون مخاطبيه دلالة العلامات (امتلاك سيارة رباعية الدفع/ الثقة في الذات/ السمت والهيئة/ طرق إدارة الحوار/ تصفيف الشعر/ التكوين والثقافة ) و لا تغيب عن فطنتهم الفوارق الاجتماعية والثقافية وما تفرضه من تحفظ وحذر وتودد(اعتذار محنط الحيوانات عن ثرثرته وحرصه على إرضائه واحترام مقامه.).
_التلاعب النفساني:
يحاول استمالة الجندي من خلال التشديد على الصداقة والبنوة وشجاعة ومظالم الأكراد.
من البين، أن بديعي ينظر إلى الجندي إما كإنسان فقير تحركه المادة (الأجرة)، أو كشاب غر لا يمكن إقناعه إلا عاطفيا أي عن طريق التلاعب النفساني.
- استثارة الشفقة:
حين يخفق في استمالة مخاطبيه وإغرائهم بالمال، وسهولة أداء المهمة، فإنه يلجأ إلى استثارة الشفقة، وقلب الدلالات، وتقديم دليل أخلاقي معكوس (التأكيد على أخلاقية موت يبعد الشقاء عن الآخرين).

4_الأنانية والأثرة:
يريد بديعي/ همايون إرشادي استمالة الأشخاص الثلاثة، بكل الطرائق (نفسانية و فكرية واجتماعية )، دون مراعاة وضعهم وقدراتهم واستعداداتهم. فقد سعى إلى توريطهم في معضلة وجودية ليسوا أهلا لها من حيث المبدإ، وليسوا مستعدين لتحمل تبعاتها النفسانية والفكرية والقانونية في الحال والمستقبل ( مساعدة إنسان هش نفسانيا على الموت وما سيتولد عن ذلك من إحساس بالذنب وفقدان للهناء والصفاء النفسانيين حالا أو مستقبلا. ).
ففيما يعتبر العيش إشكالا وجوديا عويصا، فإنه يعتبر المشاركة في الانتحار، فعلا تقنيا عاديا، يقاس بسائر الأعمال.
فهو يستند – هنا _إلى آليتين:
آلية التهويل:
فهو يهول مشكلاته، ويعتبر الانتحار السبيل الأوحد، لاستنفاذ نفسه واستنقاذ محيطه من الشر والأذى.
آلية التهوين:
فهو يهون من تبعات المشاركة في الانتحار، ويعتبر مهمة المشاركة في انتحار شخص مهمة مأجورة ككل المهام العادية. فقد اعتبر مساعدة شخص على الانتحار، عملا ككل الأعمال؛ ويعتمد هنا على مقايسة ذرائعية، تلغي الفوارق الكبرى بين عمل تقني أو يدوي ومهمة غرائبية(إهالة التراب على إنسان بعد التأكد من موته).
وتتجلى أنانيته في مواقف كثيرة؛ فقد عامل حارس الأمن الأفغاني، بقليل من الود(رفض شرب الشاي الأفغاني/ رفض أكل الجعة لأسباب صحية )، بعد رفضه مرافقته، لالتزامه بواجبه المهني (حراسة الموقع والآلات )وإحساسه العالي بالمسؤولية.

5_الذرائعية:
يريد بديعي/ همايون إرشادي أن ينتحر بالاستعانة بفقراء ومهمشين، ويظن أن استمالتهم بالمال ممكنة؛ إلا أنه اصطدم بتشبث مخاطبيه_رغم تفاوت خطابهم في القوة والمتانة والإقناع_ بمقررات أنثروبولوجية_ثقافية كونية(قدسية الحياة/ إمكان التكيف مع المشاق/ ضرورة مسايرة إيقاع الفصول والزمان/ تنسيب الكوارث والفواجع).

6_الهوس بالتفاصيل:
يظهر بديعي/ همايون إرشادي انشغالا مبالغا فيه بالتفاصيل والإجراءات وطرق تنفيذها؛ ويتجلى هذا الهوس في ما يلي:
_ التمسك بسيناريو انتحاري وحيد: لا يحيد عن هذا السيناريو الوحيد(ابتلاع كمية كبيرة من الحبوب المنومة والاضطجاع في الحفرة/ مجيئ المشارك في السادسة صباحا/ المناداة عليه مرتين/ رمي حجرين في الحفرة/ هز كتفه/ إهالة التراب على الجثة بواسطة المجرفة/ أخذ المبلغ المالي المقدر ب200.000تومان.)، بل يريد تنفيذه بدقة عالية.
_التركيز على التفاصيل: وتشير هنا الى تحديد الوقت ( السادسة صباحا )وعدد مرات المناداة عليه ( التركيز على مرتين)وعدد الأحجار ( التأكيد على حجرين )وإهالة كمية من التراب على الحفرة بعد هز كتفيه والتأكد من موته.

III_خصائص المخاطبين وتعقيد الاستجابة:

1_الجندي الكردي/ صفر علي مرادي:
فوجئ الجندي الكردي الشاب/ صفر علي مرادي، بغرابة سلوك بديعي/ همايون إرشادي (تغيير المسار/ طرح أسئلة شخصية/ اقتراح مهمة غرائبية/ الاستمالة العاطفية والاستفزاز/ التذكير بالوضع المهني والإثني للجندي الشاب ).لقد واجه الجندي الكردي/ صفر علي مرادي، إلحاح وأوامر بديعي/ همايون إرشادي بالبرود والتحوط والتحفظ والرفض والامتناع والهروب.).والحقيقة أن بروده الظاهر، يخفي حساسية داخلية عالية، تفصح عنها تعابير وجهه (الإرماش/ الصمت/ النظرات/ التجاهل العمدي لأسئلة بديعي/ الامتناع عن رؤية الحفرة وعن قبول المهمة / التشبث بموقفه ورأيه).

إن شخصية الجندي مركبة؛ ولفهم هذا التركيب، لا مناص من التركيز على ما يلي:
_الأصول الفلاحية للجندي: فهو فلاح ومنتج للخيرات، بالذات، وجندي بالعرض. ولذلك فهو ينتصر، تلقائيا وبدون حجج وأدلة ومسوغات نظرية لقدسية الحياة. إن الفلاح يحرث الأرض، لتخصيبها، لا لإهالة التراب على جثة والشهادة على موت شخص مجهول.يريد بديعي من الجندي الكردي، أن يشهد على موته، فيما يكافح الكردي لإشهاد الآخرين على الحق في الحياة والوجود.لا يريد الجندي، استعمال المجرفة وانتحال صفة رادم الحفر والتجاوب مع مطلب غريب، ولذلك رفض المهمة مبدئيا، وفضل الهروب.
_خصوصية وضعه الإثني –الثقافي: حاول بديعي/ همايون إرشادي استثارة الجندي، من خلال الإشارة إلى شجاعة ومظالم الأكراد ؛ناسيا أن التأكيد على الشجاعة والمظالم التاريخية، يعضد الحرص على الحياة وقواها، والبعد عن الموت وأجوائه الجنائزية.فليس الكردي شجاعا، لتمجيد الموت، بل لتمجيد الحياة والاحتفاء بعنفوانها والاحتفال بقواها.
_الغربة: يدرك الجندي غربته الثقافية والاجتماعية واللسانية؛ ولذلك يظهر كثيرا من التحفظ والتحوط.

2_الطالب الأفغاني/ مير حسين نوري:
فوجئ طالب الشريعة الأفغاني/ مير حسين نوري، بغرابة طلب بديعي/ همايون إرشادي ومسلكه ومقترحه. وكما كان متوقعا، وظف معارفه الدينية، لإقناعه بتغيير رأيه، وإطراح فكرة الانتحار بالكلية. وقد التزم –بحكم غربته وموقعه الطبقي وخلفيته الثقافية –بقواعد اللباقة والتهذيب في المحاورة، وحاول التدليل والبرهنة على سلامة حجته دون الإفراط في المحاجة والمجادلة.
ولا تخلو شخصية الطالب من تركيب، يتجلى فيما يلي:
صعوبة التحصيل والترقي:
أصر الطالب الأفغاني/ مير حسين نوري على متابعة دراسته الجامعية، بكلية إيرانية بغية تحصيل تكوين علمي متين لا توفره الكليات والمعاهد الأفغانية في زمان الحرب. فهو يهفو إلى الترقي، معرفيا واجتماعيا وثقافيا، رغم فقر أسرته، واضطراره إلى الترميق (العمل صيفا/ ممارسة أعمال بسيطة).
الغربة: الإحساس بالاكتئاب
أحس الطالب الأفغاني/ مير حسين نوري بالغربة والاكتئاب، فاختار زيارة ابن بلده، حارس الأمن.
فرغم الاشتراك في التوجه المذهبي مع الإيرانيين والاقتناع بالنظرة الإيجابية إلى الحياة، فإن الطالب لم يسلم من الاكتئاب والاغتراب، فاختار الاستئناس بالمنابع وإعادة الوصل بالألفة الجماعية (الاستمتاع بالغناء والشاي الأفغانيين.).

3_محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري:
قابل محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري، طلب بديعي/ همايون إرشادي بكثير من التفهم والتعاطف؛ واستند إلى كثير من الخبرات والتجارب والإحالات، لإقناعه بتغيير رأيه، والعدول عن فكرة الانتحار.
المرجعيات والخلفيات:
_جمال الكون وخصوبة وكرم الطبيعة:
إن الانسان السوي شاهد على جمال الطبيعة وقدسية وروعة الحياة وكرم الطبيعة؛ إن الموت نهاية حتمية بعد مسار حياتي ووجودي طويل، وعليه فإن الانتحار نقض للمعايير ومخالفة، لمجرى الحياة والوجود.
_التجربة المعاشة:
أكد المحنط المتمرس إمكان اهتزاز يقين الإنسان واقتناعه بجمال الحياة والكون، والتفكير –استتباعا_ في الانتحار، بسبب عوارض فكرية طارئة في الغالب. فقد حاول الانتحار بعد زواجه، إلا أنه لم يتمكن من إنجاح العملية.لقد أنقذته إشراقة الشمس ولذة التوت وبهجة الأطفال، من الموت.إن شروق الشمس، كان إيذانا بإشراق شمس حياته، وكانت لذة التوت، إيذانا باللذات القادمة، في مسار حياتي حافل بالمسرات والأوجاع كذلك.
_الاعتلال الذاتي:
كما أكد إمكان حصول اعتلال نفساني في الذات، لا مناص من التغلب عليه لاستعادة البهجة والاستمتاع مجددا بمباهج الحياة دون منغصات كبرى (الإشارة إلى النكتة التركية).
لا تسلم شخصية محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري من التركيب والتعقيد.
و لذلك لا يمكن اختزال، هذه الشخصية، في بعد واحد (الإنسان المتصالح مع الحياة استنادا إلى الخبرة والمراس وإلى حس ثقافي شعبي تركي_إيراني ).فقد أفصحت هذه الشخصية عن تعدديتها وتعقيدها

في بعض المفاصل:
_المخاطب المتفاعل في السيارة: كان محنط الحيوانات أكثر تفاعلا وتفهما وتعاطفا مع بديعي/ همايون إرشادي، لإدراكه أكثر من الجندي والطالب الأفغاني، تعدد أبعاد الحياة، وضرورة التكيف مع كل مظاهرها، وإمكان الاعتلال الذاتي في لحظات مفصلية.
الموظف المتحفظ: قل تفاعل المحنط، حين فاجأه بديعي بزيارة غير متوقعة في مقر عمله في متحف التاريخ الطبيعي.
لقد أظهر هنا، كثيرا من التحفظ والشفقة، على إنسان، يصر على إضافة تفاصيل جديدة إلى بروتوكول موته.ففيما ينشغل بتحنيط الحيوانات، يطلب منه بديعي/ همايون إرشادي، الوفاء بوعده غدا، والشهادة على موته و بداية تحلل جثته وذوبانها في الطبيعة.

يتعاطف المحنط مع بديعي، في السيارة، ويشفق عليه ويرثي لهوسه بالتفاصيل(نطق اسم بديعي مرتين في السادسة صباحا، ورمي حجرين في الحفرة وهز كتفه للتأكد من موته)، في المتحف.
لا يمكن فهم نظرة المحنط وموقفه الحقيقي، دون استحضار كل مواقفه، وفهم وتأويل إشاراته وإيماءاته وهيئته. فلئن أكثر من الكلام والتودد إلى بديعي في السيارة، فإنه عبر عن تحفظه وشفقته واستغرابه، عن طريق الإشارات والإيماءات وتعابير الوجه ولغة الجسد والحركة ونبرة الصوت، حين استدعاه لإضافة بعض التفاصيل إلى الإجراءات المتفق عليها، وحثه على احترام وعده.
وكما يلازم التعقيد نظرة بديعي/ همايون إرشادي، فهو يلازم بنفس المقدار نظرة الجندي وطالب الشريعة ومحنط الحيوانات.إن المعلن والمعبر عنه، لا يلغي جملة من المنطلقات والمرتكزات والموجهات الثقافية _الأنثروبولوجية المتحكمة في السلوك والنظر إلى الحياة والموت وتدبر إشكاليات الوجود الإنساني ومشكلات الحرية والمسؤولية والمعايير الأخلاقية المعتمدة في القبول والرفض، والتصويب والتخطئة.

_الحوار غير المتكافئ واستحالة الاقناع: IV
يفرض بديعي/ همايون إرشادي المكتئب، حوارا غير متكافئ على محاوريه. ويتجلى هذا اللاتكافؤ فيما يلي:
1_المكانة الاجتماعية –الثقافية:
اختار بديعي/ همايون إرشادي محاورة وإقناع أناس بسطاء وفقراء، لأنهم أكثر قابلية للاستمالة_في اعتباره_بحكم حاجتهم إلى المال.
لقد راعى مخاطبوه في كل مراحل المحاورات، تميز وضعيته الاجتماعية –الثقافية (امتلاك سيارة رباعية الدفع واللباس والسمت والهيئة والإشارات والتكوين الثقافي). إن المحاورة غير متكافئة، من حيث المبدإ، لتفرد بديعي/ همايون إرشادي بوضع اجتماعي –ثقافي، متميز بالقياس إلى محاوريه الفقراء ( جامع أكياس البلاستيك والجندي الكردي/ صفر علي مرادي وطالب الشريعة الأفغاني/ مير حسين نوري و محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري.).
2_اختيار زمكان المحاورة:
يحاور بديعي/ همايون إرشادي مخاطبيه في فضاء غير محايد وغير مريح بالنسبة إليهم (سيارته الخاصة)؛لقد أحس الجندي/ صفر علي مرادي والطالب الأفغاني/ مير حسين نوري، بالكثير من الحرج والضيق وعدم الأمان والغرابة (صمت الجندي/ عدم رده على أسئلته/ تعابير وجهه الدالة على الضيق والتبرم / تحفظ الطالب الأفغاني.).
3_خرق ميثاق الاستيقاف:
وبدلا من إيصال الجندي الكردي/ صفر علي مرادي إلى الثكنة العسكرية، واحترام ميثاق وأخلاقيات الاستيقاف، خرق بديعي هذه المواضعات (استحضار الحياة الشخصية للمحاور/ فرض اختياره الحياتي والفكري على محاوريه/ خرق شروط المحاورة المتكافئة/ إحراج المرافق من خلال التأكيد على فقره وحاجته إلى المال/ الإحراج والإلحاح وإصدار الأوامر/ عدم مراعاة ردود الفعل السلبية )، وحاول حث الجندي على المشاركة في إيصاله إلى الموت.
4_اختيار موضوع المحاورة:
لقد فرض موضوع المحاورة، على مخاطبيه ولم يراع وضعيتهم الاجتماعية والنفسانية والفكرية واستعدادهم لمحاورته في شأن يتطلب عادة استعدادا ذهنيا كبيرا وتفكيرا معمقا، وتأملا طويلا. فهل يمكن للباحث عن استنقاذ ذاته من الحاجة والخصاصة والهشاشة الاجتماعية (الجندي –المزارع الكردي/ صفر علي مرادي) ومن الهشاشة الاجتماعية والغربة (فقر الطالب الأفغاني/ مير حسين نوري) ومن الهدر الاجتماعي (مرض ابن محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري بفقر الدم وحاجته إلى المال لمعالجته والتكفل به)، التفكير في الموت وفضائله الأخلاقية المحتملة والمكسب المالي الناتج عن الشهادة على حدوثه.؟!
إن مخاطبيه الثلاثة منشغلون بتدبر وتدبير فرص و إمكانيات الحياة ويفكرون في الطرق الناجعة لإنقاذ أنفسهم من معضلاتها وأعطابها، فيما ينشغل بديعي/ همايون إرشادي، بتدبر الموت والتفكير في الشروط الملائمة للانتحار.

V_التدليل وطرائق الإقناع:
قدم المخاطبون الثلاثة أدلة مختلفة عن شرعية الانتحار، تبعا لخلفياتهم الثقافية وتجاربهم الحياتية وموقعهم المهني ونظرتهم إلى العالم.

1_دليل الجندي الكردي/ صفر علي مرادي:
استند الجندي/ صفر علي مرادي فيما يبدو إلى دليل أخلاقي_ثقافي، مانع من التورط في مهام مرذولة في العرف الاجتماعي.من البين، أنه يمتح من معيارية ثقافية_أخلاقية صارمة، تنتصر لقدسية الحياة وتعيين الواجبات والحدود بصرامة كبرى.
لم يقدم بديعي/ همايون إرشادي، أي دليل أو مسوغ نظري أو فكري لرغبته في الانتحار، واكتفى في الحقيقة، باستثارة الجندي ودفعه إلى قبول اقتراحه الغريب. وقد اعتمد، في تليين عريكة الجندي على استراتيجية نفسانية ذهنية قائمة على: الإغراء والاستمالة والتقرب (الصداقة والبنوة واستحضار ماضيه في الجندية وطرح أسئلة دقيقة عن عائلة الجندي الشاب ووضعه المهني)، والتعنيف الرمزي (الاستفزاز والسخرية المبطنة من جبنه وتعبه).

2_دليل الطالب الأفغاني/ مير حسين نوري:
قدم الطالب الأفغاني/ مير حسين نوري، دليلا دينيا، عن تحريم الانتحار، وشدد على وجوب الاضطلاع بواجب الأمانة مهما كانت الابتلاءات والمحن.
لإقناع الطالب المتمسك بقناعاته ومسلماته ويقينه التداولي، قدم بديعي/ همايون إرشادي المسوغات التالية لرغبته في الانتحار:
_العجز عن الاستمرار وتحمل أعباء الحياة؛
_أفضلية الموت في سياق يطبعه الإيذاء (إيذاء الذات والعائلة والأصدقاء)؛
_ اتساع وشمولية الرحمة والعطف الإلهيين.
ويذكرنا موقفه _هنا _بتمييز ابن عربي بين رحمة الوجوب ورحمة الامتنان في "فصوص الحكم".
(ثم إن الرحمة تنال على طريقين، طريق الوجوب، وهو قوله تعالى: (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة) وما قيدهم به من الصفات العلمية والعملية.
والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل وهو قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء.)[الأعراف:156]..) _1_
حاول بديعي/ همايون إرشادي تكييف خطابه أمام الطالب بالتأكيد على ما يمكن أن ينشأ عن الشر الاضطراري (الانتحار)من خير (هناء وسعادة الآخرين). فهو لا ينتحر دفاعا عن نظرة عدمية للحياة أو الوجود، أو تنكرا لواجبات الأمانة، بل تفعيلا لواجب أخلاقي، يلزمه بتغليب الهناء على الشقاق، والسعادة على الشقاء، والحرية على الضرورة العمياء.
3_دليل محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري:
لم يقدم محنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري، أدلة أو براهين نظرية قوية داعمة لموقفه الرافض للانتحار.واستند في إقناع بديعي/ همايون إرشادي بتغيير مساره ونظرته إلى العالم إلى ما يلي:
_إطراح النظرة السلبية والعدمية للحياة والتسلح بنظرة إيجابية ومتفائلة لمواجهة الصعوبات والمشقات والعثرات؛
_تعديل المسار إذا تبين تعارض النهج الحياتي مع طبائع الأشياء ومعقولية العالم؛
_مسايرة إيقاع الزمان والفصول والاستمتاع بمباهج الطبيعة (شروق الشمس، ورؤية النجوم والقمر والبدر، وشرب الماء في فصل الربيع، والتلذذ بفواكه الفصول الأربعة..).
ولتعضيد أقواله، ذكر بتجربته الشخصية، وإقدامه على محاولة انتحار، باءت بالفشل، بعد استمتاعه بالتوت وشروق الشمس وفرح الأطفال.
لا يمكن تحمل مرارات الوجود في هذا السياق، إلا بتفعيل ثلاثة مبادئ :
_مبدأ التنسيب وعدم الارتباط المفرط بالأشياء والعلائق والأشخاص والواقعات (الخلافات العائلية أو الديون...إلخ)؛
_مبدأ التناغم مع الطبيعة –الكون؛
_مبدأ مراعاة معقولية وانتظام أمر العالم.
وتذكرنا أفكار وآراء المحنط/ الموظف، بالفكر الرواقي.
[وفي هذا الصدد، لا يتوقف الحكماء الرواقيون عن حث مريديهم على عدم التأسف على أحداث الماضي بشكل دائم، وعلى استنقاذ الذات من الشعور بالحنين إلى الماضي، والندم، والإحساس بالذنب، و "بالانفعالات الحزينة" حتى نتحدث دوما مثل سبينوزا.]_2_
إن الحكمة هي الترياق الفعال ضد أوجاع الوجود والخوف من الموت والارتهان بالماضي وتداعيات الذاكرة. فقد اختار بديعي/ همايون إرشادي فيما يبدو طريق الموت، وتنكب طريق التأمل المصحوب بالفعل المتوازن (تذوق طعم التوت)، وطريق الحكمة اللاحب.
(...فالحكيم هو الشخص الذي لا يحتفظ في نفسه بشيء لا يكون معقولا تمام المعقولية، مادام هو نفسه عقلا أو فعلا؛ وعليه فإنه لن يقارف خطأ أبدا ؛بل كل ما يفعله يفعله على أحسن وجه، حتى ولو كان من أتفه الأفعال؛ وكل فعل من أفعاله، مهما يكن بسيطا، يحتوي من الحكمة بقدر ما يحتوي مسلكه بتمامه ؛ولن يعرف الحكيم لا أسفا، ولا حزنا، ولا خوفا، ولا أي اضطراب من هذا القبيل ؛وسعادته كاملة ؛ووحده دون سواه سيحوز الحرية، الغنى الحق، الملكية الحقة، الجمال الحق...)_3_
اكتفى بديعي/ همايون إرشادي في الغالب بالإنصات، دون أن يعترض على أفكار وآراء وذكريات وأسلوب محنط الحيوانات في الإقناع (الجمع بين التجربة الشخصية والتأملات في الطبيعة وجمال الكون والنكتة والأغنية التركية).

شاعرية التباعد ومتاهات الحكي:_VI
يحتفل المخرج عباس كياروستمي كثيرا بالتباعد في فيلم "طعم الكرز "، لتوسيع دائرة الفكر والنظر والتأويل، واستشكال كل الوضعيات والمواقف، والإبانة عن التعقيد والالتباس الملازمين للوجود الإنساني.
ولهذا التباعد مظاهر وتجليات، نذكر منها ما يلي:

1_التمويه والتحيير:
تبعث التمهيدات الدرامية( تفرس بديعي/ همايون إرشادي في ملامح العمال وحديثه المتوتر مع الشاب الشاك في نواياه وجامع الأكياس البلاستيكية)، على الحيرة، إذ سرعان ما يكتشف المشاهد و هو مستغرق في فحص الفرضيات(فرضية البحث عن شريك جنسي) والتفكير في المضمنات والمضمرات، أن بديعي منشغل كليا بالموت وفناء الذات، والبحث عن شريك / شاهد جنائزي. يسهم التمويه والتحيير وتخييب أفق انتظار المشاهد، في تحقيق التباعد واستدعاء الوعي للتفكير مليا في إشكالية ورمزية الموت، بعيدا عن المؤثرات والموجهات العاطفية أو الوجدانية.

2_التركيز على الملفوظ واستبعاد لغة الجسد:
تستبعد في حالات كثيرة، لغة الجسد، ويتم الاكتفاء بالملفوظات والتعبيرات الكلامية. لقد استبعدت لغة الجسد في مواقف كثيرة(كلام حارس الأمن الأفغاني/ عرض جزء من الحوار بين بديعي/ همايون إرشادي ومحنط الحيوانات/ عبد الحسين باقري مرفقا بصور للحفرة وأخرى للسيارة وهي تخترق الفضاء المتاهي الموحش مثلا)، إمعانا في التجريد، واستبعادا لكل تفاعل عاطفي، ناتج عن قراءة مخصوصة للغة الجسد وتعابير الوجه ونظرات المتكلم.

3_التركيز على تعابير الوجه والتخفف من الملفوظ:
لقد عبر الجندي/ صفر علي مرادي عن تفاعلاته وتوتراته الباطنية وضيقه النفساني من خلال تعابير الوجه وحركات ونظرات العين.

4_الإيحاء بالواقعة:
لا تعرض تفاصيل التشريح ووقائعه في متحف التاريخ الطبيعي. ويتم الاكتفاء بالأصوات المسموعة، لتحقيق التباعد وتحرير المشاهد من سيولة وخدر الحكي الدرامي وتحفيزه على تأثيث المشهد وبناء تفاصيله من خلال التخييل.

5_اختيار فضاء السيارة:
لا يسمح فضاء السيارة، بالتواصل الكلي بين المتحاورين، لانتفاء قراءة تعابير الوجه ونظرات العين وحركات الأيدي، ولإمكان التأثر بالمشاهدات والمثيرات الخارجية.
إن فضاء السيارة فضاء مثالي لتحقيق التباعد، والتأكيد على الآراء المجردة، بمعزل عن الشحنات النفسانية والحمولات الوجدانية الملازمة للتعبير الجسدي عادة.

6_التراوح بين القرب والبعد:
يستعمل عباس كيارستمي اللقطات القريبة في السيارة، واللقطات البعيدة، لتصوير السيارة وهي تجوب المسار الصخري المتاهي. يتيح التراوح بين القرب والبعد، كسر الألفة والتمرس بالمقارنة ورصد المؤتلفات والمختلفات (قساوة المتاهة الصخرية وحرص الإنسان الفقير على أنسنة الحياة والوجود والبحث عن مسوغات للعيش والسعادة والصفاء الوجودي.).

7_استبعاد دوافع الانتحار:
لا نعرف دوافع رغبة بديعي/ همايون إرشادي في الانتحار، كما لا نعرف عن تاريخه الشخصي إلا نتقا يسيرة. ويستهدف هذا الاستبعاد، تجريد الوضعية من شحناتها النفسانية والتركيز على الإشكال الفكري المطروح: إشكال الاكتئاب الوجودي والرغبة في الموت ومعنى الحياة وإمكان الحرية.وبما أن البناء الدرامي للفيلم تباعدي، فإنه يرصد حالة شعورية، تستدعي التفكير والتأمل والفحص، لا حالة وجدانية، تستدعي التعاطف والانجذاب والتماهي.

8_المسار الدائري:
يوحي المسار الدائري الشبيه بمتاهة، بالتباعد والرغبة في التفكير والتأمل. وحيث إن المسار متاهي، فيجب الحذر من كل الفرضيات التفسيرية والتأويلية، مهما كانت متناسقة ومتماسكة، لأن للصورة والحكي السينمائيين في "طعم الكرز" مكرا جماليا، لا مناص من إدراكه.وكما يواصل بديعي/ همايون إرشادي سيره في درب الألم والتفكير، فعلى المشاهد أن يواصل سيره في درب التفسير والتعليل والتأويل، والوصول إلى مسار لاحب، إن أسعفه الوعي النقدي والمخيلة الجمالية، بإدراك عميق لإشكاليات وأسئلة الوجود والموت وحدود الحرية.

9_الخاتمة/ الملحق:

ألحق المخرج عباس كيارستمي خاتمة/ ملحق بالفيلم، للتأكيد على استمرار الحياة، بغض النظر عن مصائر واختيارات الأشخاص.ثمة انفصال، حكائي ودرامي وفني، بين الفيلم(احتداد الوعي بالموت/ هيمنة التراب والغبار والقحولة والأجواء الخريفية/ تواري القمر وسيادة الظلام/ غياب شروط التفاعل الإنساني بسبب الخوف والحذر والاستغراق في تدبير مشكلات العيش) والخاتمة/ الملحق(عودة الربيع والبهجة والفرح والتواصل الإنساني ) ؛وهذا الانفصال المقصود، مظهر من مظاهر التباعد.إن المشاهد مطالب، بالربط بين حكي سينمائي متوتر، منشغل عمقيا بإشكالية ورمزية الموت(دواعي التفكير في الموت/ تسويغ الانتحار/ التماس المساعدة والشهادة على الموت/ الرغبة الحارقة في أنسنة الموت عبر طقسنته)، وخاتمة/ ملحق تفصح عن انبعاث الحياة وعودة البهجة والنضارة والاستبشار إلى النفوس وإلى الصورة السينمائية نفسها(الاخضرار والبهجة).

10_ النهاية المعلقة:

يعرض الفيلم المعضلة (استشكال الحياة والرغبة في الموت والبحث عن شريك جنائزي ) دون أن يحدد مصير بديعي/ همايون إرشادي.يتم تعليق النهاية، لحث المشاهد، على التفاعل الإيجابي مع المعروض، والتفكير المتروي في المعضلة أو الإشكالية الفكرية –الوجودية ورمزية الموت، وتأمل الأدلة والمسوغات المقدمة من كل الأطراف.إن إيقاف مجرى الحكي، وتعليق النهاية، هو مظهر من مظاهر التباعد المعتمدة، في تحقيق هذا الفيلم.
تطبع شاعرية التباعد أو شاعرية المسافة فيلم "طعم الكرز " بطابعها. وتستدعي شاعرية المسافة، إقامة مساحات فاصلة بين الأشياء، للتفكير بعمق في جدارة الفكرة أو صواب الموقف أو دقة الاستبصار.

_تركيب: VII

إن مشاهد فيلم "طعم الكرز" مدعو إلى اليقظة وفحص الفرضيات التأويلية وتمحصيها، تبعا للأحداث والنقلات الدرامية، وملء الفجوات، من خلال التخييل وشحذ الوعي النقدي، والاحتياط من مفاجآت ومتاهات الحكي.
إن الفيلم في الحقيقة، رحلة في شعور إنسان، يقاسي مرارات ومكابدات قاسية، ويفكر بمعية أناس عاديين، مطحونين بالفقر والبؤس والحاجة والخصاصة، في معنى الحياة ورمزية الموت وحدود الحرية والمسؤولية الإنسانيتين. يرصد هذا الفيلم الفوارق الكبرى بين أناس يرزحون تحت وطأة الحاجة والفقر والغربة والاغتراب، ويتشبثون بالحياة، وشخص غني فيما يبدو، يرغب في الانتحار والموت ويبحث عن شاهد يسهم في أنسنة وطقسنة موته.


الهوامش:
1_محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم، اعتنى به: عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت_لبنان، الطبعة الأولى 2003، ص.166.
_2Luc Ferry، Sagesses d’hier، J’ai lu , 2015,page.160.
3_إميل برهييه، تاريخ الفلسفة –الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1982، الجزء الثاني، ص.87.