يُطلق مخرج فيلم "شاي أسود" العنان لخياله، متناولًا قصة لقاء بين ثقافتين مختلفتين: أفريقية وآسيوية.


إيلاف من برلين: يرفض المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو أن يُحصر في قوالب محددة، فهو يُطلق العنان لخياله في رحلة عابرة للثقافات، ليُقدم ضمن فيلمه الجديد "شاي أسود" قصة لقاء بين ثقافتين مختلفتين؛ الأفريقية والآسيوية.

لقب "شاعر السينما الأفريقية" الذي اكتسبه سيساكو لم يأت من فراغ، فهو مخرج متعمق في المشاكل والصعوبات والأحلام والخيبات التي تلم بثقافة القارة السمراء، وقد عالج في أعماله مواضيع متنوعة بينها الهجرة والفقر والاستعمار والفراغ والإرهاب.

يضع المخرج الموريتاني في "شاي أسود" أفريقيا بثرواتها الطبيعية وفقرها أمام آسيا بثرائها وتنوعها. ويعثر على نقطة لقاء بين الثقافتين الآسيوية والأفريقية المتباعدتين الواحدة عن الأخرى. إنه الشاي الذي يربط بين بطلي فيلمه الذي تنافس على "دب" مهرجان برلين الذهبي في دورته الأخيرة.

آية، بطلة الفيلم، تهرب إلى الصين من زواج قسري في بلدها الأفريقي، لتلتقي برجل يكبرها سناً ويدعى ثاي، فتعمل معه في مقهاه، وتتعرف من خلاله على ثقافة الشاي في بلاده.

"إيلاف" التقت سيساكو في برلين، وحاورته عن "شاي أسود"، وأفريقيا، والصين، وعن فلسفته الحياتية والسينمائية وغير ذلك من المواضيع المثيرة التي تطرق اليها الحوار.

الإبداع يكسر القوالب
يرفض سيساكو أن يؤسر في إطار معين، كأن يوضع في قالب جامد، بحيث يتوقع منه الآخر شيئاً متعارفا عليه انطلاقا من هذا القالب وذاك الإطار. ويرى مخرج "شاي أسود" أن قولبة المبدع تمثل خطأ جسيما، فصانع الأفلام غير مقيد بأي عامل. ويوضح "أدرك أن هذا الفيلم قد يبدو مختلفاً، لكن يجب أن تتوقع من صانع الأفلام ما لا يمكنك توقعه من أي فنان آخر، وهذا يعني أن صانع الفيلم ليس مقيدًا بجغرافيته أو بأي شيء آخر، إلا احترامه لتجربته وحمايته لقيمه".

23 عامًا من الانتظار
استغرقت فكرة "شاي أسود" 23 عامًا لتتحول أخيراً إلى فيلم سينمائي. وأوضح سيساكو أن موضوع الفيلم ظل مطروحًا منذ العام 2001، من خلال مشهد في فيلمه "في انتظار السعادة" لامرأة أفريقية تتناول العشاء مع رجل صيني.

العالم برأي المخرج "عبارة عن لقاءات بين أشخاص مختلفين، وعن هجرات يمكن أن تكون مميزة وأخرى قد تكون متعبة. خذ الهجرة إلى بلد كالبرازيل على سبيل المثال، لها جانب إيجابي وآخر سلبي، وقد تكون نتائجها إيجابية ومختلفة، وهنا يكمن دور الفنان الذي ينبغي له أن يتنبأ بما قد يحدث من خلال التأمل في متغيرات العالم في وقتنا هذا". 

وجهة نظر أخرى
يُؤمن سيساكو بأن العالم يتغير، وأن أفريقيا أمة قوية "فمن جهة، تعتبر بلادنا فقيرة، ومن جهة أخرى إنها مليئة بالثروات لذا من الطبيعي أن تحتاج أوروبا وآسيا إلى أفريقيا". ويُشير إلى أن الصين والهند تشكلان قوة آسيوية وعالمية حقيقية "لذا هناك عالم جديد يتشكل". ويُضيف أن العالم يتغير، وأن أوروبا متفاجئة من ذلك، لكنها لا تستطيع رؤية هذا التغير. ويقول سيساكو إنه "في الجزائر، يتم الاحتفال بعشرين ألفًا من الزيجات بين الجزائريين والصينيين سنويًا، وهذه ظاهرة لم نشهدها طوال قرن من الاستعمار الفرنسي، وهي تخبرنا شيئًا عن العالم في وقتنا هذا؛ شيئا لا تراه أوروبا. فأوروبا متفاجئة، وعندما تتفاجأ أوروبا تخاف، لكنها لا تستطيع رؤية أن العالم يتغير".

فلسفة مختلفة عن الهوية
عن نظرته إلى الهوية ومفهومها لديه، يُؤكد سيساكو أن "من المستحيل تعريف الهوية، فهي مجموع هويات متعددة. ويقول إن الهوية بالنسبة إليه "دليل على أن كل شيء يتغير ولا شيء ثابتًا". ويُشير إلى أهمية إدراك حقيقة أننا غير قادرين على تقبل عالم مختلف عما اعتدنا عليه، وأن الخوف يجعلنا ضعفاء، لكن التغلب على الخوف يمنحنا القوة تماماَ "مثلما فعلت آية في الفيلم، فآية لم تقل لا لأنها إمرأة أفريقية، بل قالت لا لشيء فرضه مجتمعها عليها".

يضيف مخرج "شاي أسود" أن "آية عثرت أيضًا على الهوية عندما ذهبت إلى الصين، والتقت أناسا آخرين، وخصوصًا سيدات يشبهنها بطريقة ما. ما فعلته في هذا الفيلم ليس تجسيدًا لامرأة أفريقية ذهبت إلى الصين، ولكن ما يمكن أن تكونه هذه المرأة في قالب هذه الشخصية، وهذا ما فعلته أيضا مع الرجل. فهو ليس كما هو لأنه صيني، ولكن لأنه يجسد هذه الشخصية من الرجال".

تجربة مختلفة
يُعلق سيساكو على وجهة النظر الأوروبية حول محاولة الصين استعمار أفريقيا، قائلًا إن ما يحدث هو شيء يخشاه البعض سياسيا "فهم يقولون إن الصين تغزو أفريقيا". لكنه يُفضل أن تُترك الصين وأفريقيا تتفاعلان وتختبران تجربة بعضهما البعض "ولنر ما إذا كانت أفريقيا ستصمد. أعتقد أن لديهما تجارب حياة متشابهة ولا أعتقد أن ما سيحدث سيكون مشابها للاستعمار الأوروبي الذي شهده القرن الماضي لأفريقيا".

المرأة الأفريقية وكسر القيود
عن أسباب التجانس بين الشخصيتين الأفريقية والصينية، وهل كان سيكتب للعلاقة قصة مختلفة لو أن آية توجهت الى أوروبا بدلاً عن الصين، يُوضح المخرج الموريتاني أن آية، بطلة الفيلم، في الصين "تُجسد ما هي عليه المرأة الأفريقية في أوروبا منذ ستين عامًا" موضحاً أنه مع انفتاح المرأة الأفريقية على العالم "تتلاشى كل الحدود، وتقوم بهدمها في ظل حركة الانفتاح" مشبهًا حالة الصين حاليًا ببطلة فيلمه آية، فهي تشهد انفتاحا كالذي شهدته آية عندما ذهبت إلى هناك، على حد تعبيره.

ويصف مخرج "شاي أسود" العلاقة بين البطلين آية وثاي بالطبيعية "فهكذا تتصرف المرأة الأفريقية بعد انفتاحها على العالم، سواء في الصين أو في أوروبا، أو في أي مكان آخر"، لافتاً إلى أن السمة المميزة للعلاقة بينهما هي "محاولاتهما كشخصين ناضجين - ولكل منهما ماض - أن يحب أحدهما الآخر ويفهمه بطريقة مختلفة وليس لأنهما امرأة أفريقية ورجل آسيوي".

سحر السينما في كسر التابوهات
يُشير سيساكو إلى أن ردود أفعال المشاهد الصيني على فيلم "شاي أسود" كانت إيجابية، وأن اختلاف لهجة البطل وأسلوب حياته عن لهجة الصينيين وأسلوب حياتهم يُجسد سحر السينما وقوتها. ويقول إن "ثاي هو تجسيد لشخصه، وللإنسان الذي فيه. هو في هذا المعنى مختلف عن مليار صيني. من وجهة نظري أنه لا يجب أن نحصر أنفسنا في الشكل المتعارف عليه بتعميم الصورة السائدة لأي إنسان بناء على جنسيته".
ويُوضح أن السبب الرئيسي لاختلاف اللهجة في الفيلم عن اللهجة الدارجة في الصين هو رفض الصين منحه رخصة تصوير العمل ما اضطره إلى تصوير الفيلم في تايوان، لهذا كانت اللهجة مختلفة". يضيف متسائلاً "ما المشكلة في ذلك؟ فهذه هي السينما وهذا سحرها وقوتها"، موضحًا أن السبب الرئيسي لرفض الصين منحه رخصة تصوير العمل، هو عدم احترام البطل ثاي لقيم الرجل الصيني حيث أنه أب لطفل بدون زواج، وكذلك لأنه وقع في حب إمرأة أفريقية، وذلك ما رفضته الصين بشدة. لكني أقول يمكنك أن ترفض ما شئت، فأنا أعرف جيدًا أنها قيم مجتمعك ولكن العالم يتغير الآن" وهذه القيم ستتغير مع الوقت.