إيلاف من عمان: معادلة نادرة، يحققها المخرج الإيراني أصغر فرهادي، الأكثر شهرة بين صانعي الأفلام في بلده، والأكثر حصدًا للجوائز العالمية، بتقديم أفلام شديدة المحلية، لكن انسانية في الآن نفسه، ماهرة في التنقيب عن خبايا النفس البشرية، من خلال الشخصيات الباحثة عن أخلاقيات وقيم ندر وجودها في مجتمعه، لكنه يصل بها إلى العالمية.



"عن إيلي"، و"البائع"، و"انفصال نادر وسمين"، و"المدينة الجميلة" وغيرها، أفلام آسرة ارتبط بها اسم أصغر فرهادي، الذي حل ضيفًا على مهرجان عمّان السينمائي الدولي، قسم "الأول والأحدث"، حيث تحدث عن نفسه وأفلامه وأحلامه خلال "ماستر كلاس". نقدم لكم في "إيلاف" أبرز ما جاء في الحديث.

"انفصال": نجاح غير متوقع!
خارج نطاق طهران، انتشر صيت أصغر فرهادي، بعد نجاح فيلم "عن إيلي"، إلا أن الصدى الأوسع كان من نصيب "انفصال نادر وسمين"، أول فيلم إيراني يجمع بين أهم جائزتين سينمائيتين، هما الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية عام 2012، والدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي.

كشف أصغر فرهادي خلال ندوته بعمان أنه لم يكن يتوقع البتة هذا النجاح الكبير لـ"انفصال نادر وسمين"، وعاد إلى ذكريات تحليق الفيلم الى العالمية قائلًا: "قبله كنت أخرجت فيلم "عن إيلي"، ولاقى نجاحًا ساحقًا خارج إيران، وحصد العديد من الجوائز، ثم بدأت بالعمل على "انفصال"، وبعد الانتهاء من كتابته، عرضته على أسرتي وأصدقائي ممن أثق في آرائهم، فأخبروني بأن قصته جيدة جدًا لكنها شديدة المحلية، متسائلين عن سبب تمسكي به بعد نجاح "عن إيلي"، فكان ردي أنني أريد صنعه الآن، فلا يزال المستقبل أمامي لأصنع أفلاما أخرى أكبر".



أضاف فرهادي: "كنت أعلم في داخلي أن ذلك العمل هو محلي بالفعل، لذلك لم أخصص له ميزانية كبيرة، وكذلك لم أرَ أن هناك سببا يدعو إلى وضع ترجمة نصية له، لكن حدث ما لم أتوقعه!".

كان القدر يخبئ لفرهادي ما لم يتوقعه لفيلمه، حيث تواصلت معه سيدة من مهرجان برلين السينمائي، وأخبرته بأنها ستحضر إلى إيران، لاختيار فيلم يشارك في المهرجان، وتريد مشاهدة فيلمه الجديد بعد النجاح الكبير لـ"عن إيلي"، لكنه قال لها إنه لم يترجمه، فطمأنته بأن لديها مترجما خاصا. وعندما اختارت الفيلم، سألها بتعجب ما إذا كانت متأكدة من قرارها، لافتا إياها إلى أنه فيلم محلي من وجهة نظره، فأجابته بالإيجاب، ليبدأ العمل على ترجمته، وتبدأ معه مسيرته في حصد الجوائز.

صناعة السينما ليست مسألة رياضية
تعقيبًا على مسيرة "انفصال" الحافلة بالمفاجآت، قال فرهادي إنه لم يصنع فيلمًا عالميًا، بل اهتم بصناعة الفن. ذلك أن الفن من وجهة نظره ليس نوعًا من الرياضيات، ولا يقوم على الحسابات، واستطرد قائلًا: "لو كنت أخبرت نفسي في البداية بأنني أريد صناعة فيلم ساحق النجاح لما كنت قدمته بهذا الشكل".

أضاف: "مشكلة صنّاع الأفلام الشائعة في كافة أنحاء العالم، أنهم يضيعون الوقت في مثل تلك الحسابات، ونحن من الأساس لا نعلم حقًا ماذا سيحدث في المستقبل، ولا نعلم هل ستجدي نفعا أم لا، كل الجهود المبذولة لصناعة فيلم عالمي. ففي صناعة الأفلام والفن والسينما لا يمكن لأحد أن يتأكد من أنه سينجز عملا عظيما. صناعة الأفلام كقيادة السيارات، لا يمكن لأحد أن يقول أنا سائق محترف، ثم عند أول حادثة بسيطة يكتشف أنه ليس سائقا محترفا".

أردف: "لذا عندما نبدأ، نحن لا نعرف ما سيحدث. قلوبنا تحدثنا للوهلة الأولى أن هناك شيئًا ما يضطرم في داخلها، فإما أن ننساق مع اللاوعي دون التفكير في رأي المشاهدين والنقاد والآخرين وإما لا نفعل".

نصنع أفلامنا حبًا بالسينما لا بالاحتفالات والجوائز
هذه الجملة الأخيرة، تلخص موقف أصغر فرهادي السينمائي وقناعته الشخصية في كيفية صناعة الأفلام. ردًا على استفسار المحاورة في "ماستر كلاس"، حول فوزه بجائزة أوسكار ثانية عن فيلمه "البائع"، وكيف حقق ذلك، قال إنه لا يصنع أفلامًا لحصد الجوائز، موضحا: "حظيت بنجاح في بداية حياتي المهنية واستمتعت بهذا النجاح في فيلميَّ الأول والثاني، فالجوائز مهمة لكنها ليست هدفًا. إنها هدية. فنحن عندما نتزوج مثلا وننجب أطفالأ ونقيم لهم احتفالا كل عام، ويحمل معهم الأصدقاء هدايا، هذا لا يعني أننا نتزوج وننجب أطفالا من أجل تلك الهدايا".

أضاف: "بعض الناس يصنعون الأفلام كأنهم ينجبون أطفالا من أجل الاحتفال. عندما أتيت إلى هنا، كنت أحاول التحدث مع الناس لمعرفة رأيهم بأفلامي ولمعرفة نفسي. نحن هنا في هذه الحياة للتعرف الى أنفسنا. "من أنا؟"، هذا هو السؤال. إذ لا أحد يعرف من أنا، والآن من خلال السينما أحاول أن أعرف من أنا".



التفاصيل المحلية المؤثرة
أكد فرهادي أنه يبحث في الأفلام عن أشياء صغيرة وحقيقية وعن تفاصيل طبيعية، وذكر موقفًا يتعلق بابنته في تصوير "انفصال"، حيث أسند إليها دور طفلة في الثانية عشرة من العمر، هي ابنة زوجين منفصلين، قائلًا: "سأشارككم موقفًا مضحكًا عن أحد مشاهد الفيلم، حيث كانت الكاميرا تتحرك سريعًا، وبناء على طلبي قمنا بتصوير هذا المشهد مرة واحدة دون بروفات. وعندما كنت أشاهد ابنتي تمثل من خلال شاشة صغيرة، كانت الكاميرا تتحرك كثيرًا، فنظرت بإمعان، فوجدتها تبكي وتصرخ وتركل الأرض بالتوازي مع حركة الكاميرا. مثل هذا الشيء حدث في إعداد المشهد ولم نفكر فيه، فكأنه جاء بمثابة هدية. فكلما شاهدت هذا المشهد ورأيت الحركة، جعلني ذلك أفكر في أن الشيء الأهم في صنع الأفلام والإخراج، هو العثور على مثل هذه الأشياء الصغيرة".




لم أتوقع يوما الوصول إلى العالمية
كشف في حديثه عن الفيلم نفسه، أن زوجته طلبت منه تغيير النهاية، قائلًا: "نهاية الفيلم تتلخص في مشهد الزوج والزوجة وهما ينظران احدهما الى الاخر ولكن من خلال المرآة، فيظهران في النهاية وكأن الأزمة أصابتهما بالشيخوخة، ويظهران كأنهما معًا ولكنهما ليسا معًا، ولا نفهم في النهاية ما إذا كان هناك بداية أم انهما سيظلان معًا".
أردف: "لم تكن نهاية الفيلم على هذا المنوال، بل المشهد وأنا أسير في الشارع وهي ورائي تبكي، وتشتغل الموسيقى ويظهر عنوان الفيلم. عندما انتهيت من التصوير، عرضت الفيلم على أسرتي وذوي الثقة من أصدقائي، وكانوا صادقين معي بالفعل.
كانت زوجتي من بينهم تشاهد الفيلم. قالت لي إن النهاية ليست جيدة. كنت متعبًا بعد سنتين من العمل، وقد أزعجني أن يأتي من يقول لي في العرض الأول إن النهاية لم تعجبه. ذلك أزعجني جدًا، فعلقتُ قائلا بل إنها جيدة ومؤثرة، فألحّت عليّ أن أفعل شيئًا لأن النهاية كئيبة جدًا، ولا تنفتح على أفق، أو بداية. لكن كان كل شيئًا جاهزا، ولم يكن في استطاعتنا أن نفعل أي شيء سوى أن نقبل بهذه النهاية".

استطرد قائلًا: "عدنا إلى المنزل وكانت ثمة أجواء كئيبة تخيم علينا. فلم نتبادل الأحاديث. في اليوم التالي قالت لي إن هناك مشهدا يمكن أن يكون النهاية، ولن يكون عليّ سوى تغيير ترتيب المشاهد فحسب، تقديما وتأخيرا، بحيث تكون النهاية مضيئة أكثر ومؤثرة أيضًا. قمت بذلك بعد يومين بالفعل، وكان الأمر سهلا".

لو لم أغيّر خاتمة "المدينة الجميلة" لكنت كرهت هذا الفيلم طوال حياتي
هوس أصغر فرهادي بأن تخرج أفلامه على الشكل الذي يريده ويشعر به تماما، حمله على تغيير النهاية في فيلمه "المدينة الجميلة" بعد عرضه في المهرجانات ومشاهدة النقاد له، وهو الفيلم الذي حاز عددًا من الجوائز المهمة أيضًا. عن تلك الواقعة تحدث قائلًا: "كان الفيلم ناجحًا ودخل في المنافسة وكتب النقاد عنه أشياء جميلة، لكني بعد شهرين أو ثلاثة أشهر كنت أشاهده فوجدت أن النهاية لا تعجبني، علما أن الفيلم كان قد طرح بالفعل في المهرجانات وليس أمام الجمهور. تواصلت مع المنتج، وكان شخصًا مهذبًا جدًا، فصارحته بأن النهاية لا تعجبني، فاندهش وقال لي ربما يمكنك إحداث التغيير في الفيلم المقبل. ثم تواصل معي بعد يومين ليسألني ماذا عنيت بأن النهاية لم تعجبني، وسألني إن كنت مستعدًا لفعل شيء لتغيير ذلك، فأجبت بالإيجاب ولديّ فكرة محددة عن ذلك ويمكنني تصوير شيء آخر".

أضاف: "طلب مني أن أذهب إلى مكتبه فتحدثنا وأعطاني المال وقمت بتصوير النهاية كما رغبت أن أفعل. حتى أن المنزل الذي احتجته للتصوير لم توافق المالكة على التصوير فيه، ومنعتني من دخوله، فصممت مكانا للتصوير ليبدو شبيها بالمنزل القديم، وأنجزت التصوير. لو لم أفعل ذلك، لكنت كرهت الفيلم طوال حياتي".



الأجوبة لا تأتي من العقل بل من القلب واللاوعي
طرحت المحاورة سؤالا مهما على فرهادي حول المواقف التي يمكن أن تكون قد ألهمته بمشهد أو بقصة لأحد أفلامه، خاصة أنه كان ألمح إلى ذلك من قبل في فيلميه "انفصال" و"البائع". قال: "أعتقد أن الموضوع يختلف بين كاتب وآخر، فبعضهم يبدأون بشخصيات تثير اهتمامهم وآخرون يبدأون بطرح أزمات. قبل أن أتخذ القرار في شأن هذين الفيلمين، كانت فكرة الأول قاسية حدّ أن الكلمات لا تستطيع ان تصف الحال. هناك مشاعر تنبع من اللاوعي ومن القلب".



أضاف: "في فيلم "انفصال نادر وسمين"، كان مشهد البداية يصور الابن وهو يساعد والده على حلاقة ذقنه، ثم يلقي رأسه على كتف والده باكيا. كان هذا المشهد عالقا في ذهني لفترة طويلة وكنت أرى أن عليّ فعل شيء بتلك الصورة التي تكونت من ذكرى رواها لي أخي. كان لديّ جدّ أحببته كثيرًا واتخذته قدوة وكان شخصًا مثيرًا للاهتمام ويحترمني. أصيب بمرض الزهايمر، ولأني كنت بعيدًا عنه، اهتم أخي به وكان يساعده على الاستحمام. في يوم من الأيام، عندما توفى جدي حكى لي أخي أنه كان يساعده على الاستحمام يومًا ويخلع سرواله. أوقفه جدي عن ذلك وقال له لا. ثم نظر جدي إليه وسأله عما يفعله هنا وهو عارٍ. فوضع أخي رأسه على كتف جدي وبكى".

تابع: "ظلت هذه الصورة عالقة في ذهني طوال الوقت، ويومًا ما فكرت أنه لا بد أن أفعل شيئًا بها، وكانت هي بداية فيلم "انفصال نادر وسمين". كنت أسأل نفسي إذا أردت انجاز فيلم بهذه الصورة، فمن يكون هذا الرجل ولماذا يساعد والده وأين تقيم عائلته وأين زوجته ولماذا ليس لديهم خدم. أرّقتني كل هذه الأسئلة لشهور عدة، لسنة. وكنت أبحث عن أجوبة. وعندما أقول "أجوبة"، أعني أنها لا تأتي من العقل والتخيل والتفكير، ولكن تأتي من القلب، من دون منطق أو سبب".

أضاف: "وضعت كل هذه الأجوبة معًا وألفت قصتي. وفي كل أفلامي اللاحقة فعلت ذلك. عندما تكون لديّ القصة ولديّ البداية والنهاية وما بين هذه السطور، وعندما يكون عندي التأزيم، لكن لا يوجد رابط بين هذه المعطيات، أبدأ بالموقف، ثم تتوالى ردود أفعال الشخصيات. ومن شأن ذلك أن يمدني بالاتجاه الذي تتحرك نحو القصة، فأسير نحوه. فالرجل في القصة، أو الزوج، يحسب كل شيء، ويكذب أحيانًا، لكنه يحب أن يبقى، وأن يواجه المشكلة الكبيرة، ولا يهرب منها. وعندما يقف أمام المرأة، أمام الزوجة، يراها تحب أن تذهب في الاتجاه الآخر المعاكس، وأن لا تبقى ولا تواجه. والمشكلة هنا أنها تريد الذهاب في حين أنه هو يريد البقاء والمواجهة".


"بطل".. عمل مختلف
في نهاية الحوار، تطرق أصغر فرهادي إلى فيلمه الأحدث، "بطل"، فقال إنه يختلف كثيرًا عن أفلامه السابقة، لافتًا إلى أن فكرته جاءت من مسرحية "غاليليه" للكاتب برتولت بريشت، وتحديدًا من سطر في المسرحية: "بئس المجتمع الذي بحاجة إلى بطل".
"كانت هذه هي الفكرة عندما قررت إنجاز فيلمي، "بطل". هذا يحدث كثيرًا وفي كل مكان. يقول شخص شيئًا ما في أحد الأيام، وبين ليلة وضحاها يصبح بطلًا، وفي اليوم التالي يصبح، هو أو هي، محط أنظار الناس، وبعد يومين ينساه الجميع. هذه هي المأساة. وسائل التواصل الإجتماعي هي جزء من هذه المأساة، فهي تلعب دورًا مهمًا في صنع الأبطال. وأكرر هنا أنه كان ثمة بداية ونهاية، وكانت النهاية حزينة جدًا، وعند النظر إلى الإخراج ترى في البداية الرجل وهو يخرج من السجن، وفي النهاية يعود إلى السجن".
أضاف: "كانت النهاية حزينة جدًا حيث ترى الرجل يذهب إلى الجانب المظلم، وفي الوقت نفسه يخرج رجل آخر من الجانب المضيء فيحتضن زوجته. هذا المزيج من المظلم والمضيء معًا، يعطينا بعض الأمل".
تابع: "المشهد الأول هو عن شخص يسأله عن اسمه الكامل فيجيب اسمي إبراهيم سلطان. وفي المشهد الأخير يقول اسمي إبراهيم سلطان. لكن إبراهيم سلطان الذي كان في البداية يختلف عن ذلك الشخص في النهاية بعدما عاين صعوباته ومضى في رحلته التي صنعت منه شخصًا آخر".