تخيّل أن تتعرّض للإقصاء أو التعنيف، لفظياً أو جسدياً، بمجرد نزولك إلى الشارع أو دخولك سوقاً تجارية، بسبب ادعاءات "غير صحيحة" أطلقها مسؤول في مجتمعك ضدّ فئة تنتمي إليها، عرقياً أو دينياً أو غيرها!
هذا ما عاشه مهاجرون في سبرنغفيلد بأوهايو الأمريكية بعد ادّعاءات أطلقها المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية، دونالد ترامب، قال فيها إنهم "هاربون من مؤسسات الأمراض العقلية، ويأكلون الكلاب والقطط وكل الحيوانات الأليفة"، وتبيّن لاحقاً أنها ادعاءات غير صحيحة، وأن ترامب أطلقها فقط في إطار منافسته في الانتخابات الأمريكية ضد المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس لمجرد أنها سوداء البشرة.
يُعد هذا المثال تجسيداً حياً لتأثير الشائعات والأخبار الزائفة على المجتمعات، حيث تؤجج الأزمات والصراعات على الأصعدة المحلية والدولية، ويثير ذلك تساؤلات هامة حول مدى تأثر المجتمعات بتلك الأخبار، وكيف يمكن للجمهور أن يدرك أهمية التحقق منها قبل التفاعل معها، وفي عالم يتسم بالتدفق السريع للمعلومات، تبرز الحاجة إلى وعي جمعي لمواجهة هذه الظاهرة، وتجنب الانزلاق نحو الفوضى والانقسام.
تكتسب مناقشة تأثير الأخبار الزائفة أهمية تزامناً مع إحياء الأسبوع العالمي للتربية الإعلامية والمعلوماتية، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2021، في الفترة الممتدة من 24 إلى 31 أكتوبر/تشرين الأول، ويُعقد مؤتمره الختامي هذا العام في العاصمة الأردنية عمّان تحت شعار "الحدود الرقمية الجديدة للمعلومات".
ما هي التربية الإعلامية والمعلوماتية؟
تعرّف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) التربية الإعلامية والمعلوماتية بأنها عملية تهدف إلى تمكين الأفراد من الوصول إلى المعلومات، وتحليلها، وتقييمها، واستخدامها بفاعلية، وتركز على تعزيز التفكير النقدي والقدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة.
وتتوافق "يونسكو" ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) على أن التربية الإعلامية والمعلوماتية تمكّن الأفراد من أن يصبحوا مستهلكين واعين للمعلومات، مع مراعاة المسائل الأخلاقية التي ينطوي عليها مجال تقديم المعلومات واستخدامها.
وتقول المتخصصة في تدريس التربية الإعلامية والمعلوماتية بجامعة آل البيت الأردنية الدكتورة ريم الزعبي إن التربية الإعلامية تعزز الوعي النقدي لدى الأفراد حول كيفية استهلاك المحتوى الإعلامي وتحليله، وتوفر الأدوات للمتلقين للتحقق من الأخبار.
وتقول لـ"بي بي سي" إن التربية الإعلامية تسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي من خلال مواجهة الحملات الإعلامية التي تثير الكراهية والتفرقة بين الأفراد.
وترى الزعبي أن التطور التكنولوجي زاد من تعقيد بيئة المعلومات، إذ أصبح من السهولة إنتاج محتوى مزيف، ما يدعو إلى الاهتمام بالتربية الإعلامية والمعلوماتية للتعرف على هذا النوع من التضليل.
وبيّنت أن للذكاء الاصطناعي وجهين، إذ يساعد على تحليل كم هائل من المعلومات في وقت قصير وبالتالي تحليل أعمق وفهم أدق للإعلام المضلل، بينما يمكن استخدامه لإنتاج محتوى مزيف كما يشهد العالم هذه الأيام.
وتقول الزعبي إن أبرز مفاهيم التربية الإعلامية والمعلوماتية التي يجب تجذيرها اليوم هي التفكير النقدي والتحقق من الحقائق وأهمية الوعي بالتلاعب الرقمي والتزييف والتمتّع بالأمان والخصوصية الرقمية على الإنترنت.
ما هي الأخبار الزائفة؟
في عصر المعلومات الرقمية، أصبحت الأخبار الزائفة تشكل تحدياً كبيراً يعصف بالمجتمعات ويؤجج الأزمات الإقليمية. ويُعرّف الخبر الزائف، بحسب منظمة اليونسكو، بأنه معلومات مضللة أو كاذبة تُنشر عمداً، تهدف إلى التأثير على الرأي العام وتغيير مسارات الأحداث. ووفقًا لدراسة أجرتها المنظمة عام 2021، فإن انتشار الأخبار الزائفة يسهم في تعزيز الانقسامات الاجتماعية وزيادة التوترات بين المجتمعات.
تتنوع الأخبار الزائفة في أشكالها وطرق انتشارها، مما يجعلها تحدياً معقداً لمواجهته، تتضمن هذه الأنواع:
- فبركة الأحداث: يتم إنشاء قصص كاذبة بالكامل حول أحداث لم تقع، أو يتم تحريف الأحداث الحقيقية لتناسب أجندات معينة. على سبيل المثال، تُستخدم مثل هذه الأخبار لخلق شعور زائف بالتهديد أو الإحباط في المجتمعات.
- التلاعب بالصور والفيديو: تُعد الصور ومقاطع الفيديو أداة قوية في نشر الأخبار، وغالبًا ما يتم تعديلها أو إرفاقها بسياقات غير صحيحة، وهو ما يحدث مع فيديوهات كثيرة يجري الترويج لها صُنعت بواسطة الذكاء الاصطناعي.
- نشر الشائعات والمعلومات غير المؤكدة: في أوقات الأزمات، تميل المعلومات غير الدقيقة إلى الانتشار بسرعة، مما يخلق حالة من الذعر والفوضى. تشير الأبحاث إلى أن الشائعات يمكن أن تؤدي إلى ردود فعل عنيفة أو غير عقلانية، خاصة في المجتمعات المتوترة.
وفي دراسة أجراها مختبر "مت ميديا لاب" التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018، فإن المعلومات المزيفة تنتشر بشكل أسرع من الحقائق، خاصة عندما تكون مدعومة بصور أو مقاطع فيديو ملفتة.
"الأخبار الزائفة: حرب معلومات"
يقول عضو نقابة الصحفيين الأردنيين، والمدرب في مجال التربية الإعلامية والمعلوماتية خالد القضاة لـ"بي بي سي" إن كل حروب الفترة الأخيرة استخدمت المعلومات والإعلام لشحن الرأي العالم تجاه قضايا أساسية أجّجت الصراع في المنطقة.
وأضاف أن الكثير من المعلومات التي بنيت عليها تلك الحروب كان جزء منها صحيح، وبُنيت عليها روايات مختلفة شحنت السياسيين والبرلمانيين والرأي العام. وأكد أن هناك حرباً شهدتها الساحة المعلوماتية أدت إلى بدء الصراعات، وستنتهي أيضاً بـ"حرب معلومات" لتبرير الجرائم المرتكبة في الدول بحق المدنيين على حد وصفه.
وبيّن القضاة أن السياسيين والعسكريين يستغلون التطور التكنولوجي الحالي كأداة لتبرير إشعال الصراعات. وأوضح أنه إذا كانت المعلومات متاحة للجمهور بشكل شفاف ودون تشويه أو تضليل، لتمكن الرأي العام من تشكيل صورة دقيقة حول الأحداث، مما قد يساعد في تجنب الانجرار وراء أزمات تخفي وراءها مصالح خاصة على حد تعبيره.
وعلى مدار الأعوام الماضية ترافقت الأحداث الدولية على كافة الأصعدة مع أزمات سببتها الأخبار الزائفة، ومنها:
حرب غزة 2023
في بداية حرب غزة المستمرة، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو معلومات حول "جرائم جنسية وقتل" ارتكبتها عناصر من حماس هاجمت جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هذه المعلومات أشعلت أزمة عالمية عرّضت الحركة الفلسطينية لكثير من الانتقادات دولياً، قبل أن يتبيّن لاحقاً أنها "مزاعم لا أساس لها من الصحة".
جاء هذا النفي من جانب لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة التي نفت وجود أدلة تثبت الرواية الإسرائيلية حول قيام عناصر من حركة حماس بعمليات "اغتصاب جماعي" خلال هجومهم على بلدات غلاف غزة.
جائحة كورونا 2020
لعبت الأخبار الزائفة دوراً محورياً في إشعال الأزمات، حيث أدت المعلومات المضللة حول طرق العلاج إلى تعريض حياة الكثيرين للخطر. كما ساهمت شائعات حول أعداد الإصابات والوفيات في زيادة الخوف والذعر بين الناس. وبرزت نظريات المؤامرة، مما زاد من عدم الثقة في الحكومات والمؤسسات الصحية، ودفعت البعض لتجاهل تدابير الوقاية الموصى بها. هذا التأثير أدى إلى تقسيم المجتمعات وزيادة الكراهية تجاه فئات معينة، فضلاً عن الضغط الكبير الذي تعرضت له الأنظمة الصحية نتيجة الخوف المبالغ فيه.
أزمة الروهينغيا 2017
تزايدت التقارير الكاذبة والمعلومات المضللة عن المسلمين الروهينغيا في ميانمار، مما أدى إلى تصاعد العنف والتهجير الجماعي لهذه الأقلية. إذ انتشرت تقارير، تبيّن لاحقاً أنها مضللة، اتهمتهم بشن هجمات مسلحة ضد قوات الأمن البورمية، وأنهم يتسببون في فوضى في المناطق ذات الغالبية البوذية، وأدى إلى تشكيل انطباعات خاطئة عن الروهينغيا وواقعهم، وتأجيج الكراهية ضدهم ما دفع أكثر من نصف مليون شخص إلى النزوح إلى بنغلادش، فضلاً عن أزمات إنسانية عانى منها مسلمو الروهينغيا في مخيمات بنغلادش.
كل الادعاءات استطاعت منظمة العفو الدولية، ومنظمة "هيومن رايتس ووتش" وتقارير الأمم المتحدة دحضها في وقت لاحق.
حرب العراق 2003
الأخبار الزائفة لعبت دوراً محورياً في إشعال حرب العراق عام 2003، حيث تم استخدامها لتبرير الغزو الذي قادته الولايات المتحدة.
كانت إحدى الروايات الرئيسية للغزو هي وجود أسلحة دمار شامل في العراق، واستخدمت الحكومة الأميركية معلومات استخباراتية، بعضها ثبت لاحقاً أنه مضلل أو غير دقيق، للتأكيد على أن العراق، بقيادة صدام حسين آنذاك، يمتلك أسلحة كيميائية وبيولوجية، بل وقد يكون لديه القدرة على إنتاج أسلحة نووية.
وأثار عدم العثور على هذه الأسلحة بعد تفتيش أممي استمر حتى عام 2005 غضب الرأي العام وفتح نقاش واسع حول التضليل الإعلامي والسياسي، بعد ما سببته الأخبار الكاذبة من حرب في العراق.
- فيروس كورونا: من يصنع الأخبار الزائفة ومن ينشرها؟
- استراتيجية الغربلة: طريقة من أربع خطوات لاكتشاف الأخبار الكاذبة
تقول الدكتورة ريم الزعبي في حديثها لـ"بي بي سي" إن الأخبار الزائفة تُعتبر من العوامل المحورية التي تُشعل الصراعات، حيث تقوم بتقسيم المجتمعات وإثارة النعرات والتوترات بين الجماعات المختلفة.
وأضافت الزعبي أن نشر مثل هذه المعلومات دون وعي أو تصحيح يعزز مشاعر الكراهية تجاه مجموعات معينة، ما قد يؤدي إلى اندلاع نزاعات مسلحة. وأكدت أن الأخبار الزائفة لا تقتصر آثارها على الأبعاد المحلية، بل تؤثر أيضاً على العلاقات بين الدول، ما يخلق سوء فهم ويشوّه صورة بعض الأطراف وينشر خطاب الكراهية.
مخاوف من تطور "احترافي" للأخبار الزائفة
مع التقدم التكنولوجي السريع الذي يشهده العالم، حذر القضاة من تطور "احترافي" في صناعة الأخبار الزائفة، حيث يمكن أن نواجه تصريحات مزيفة تظهر في فيديوهات مفبركة يصعب التحقق من صحتها "كما قد تشهد المنظومات الإعلامية عمليات اختراق لسرقة المعلومات أو تشويهها وإعادة نشرها بشكل مزيف".
وأشار القضاة إلى أن "الذكاء الاصطناعي" سيكون الأداة الرئيسية في الحروب القادمة، إذ سيستخدمه السياسيون لصياغة روايات تستند إلى معلومات مُقتطعة وغير دقيقة، بهدف كسب الرأي العام لصالح توجهاتهم.
وتوقع القضاة نشوب حرب حقيقية بين الحقيقة والتظليل، مع وجود جهات تسعى لوقف انتشار المعلومات المضللة، ومع ذلك، أبدى مخاوف من الفترة الزمنية التي تفصل بين الخبر المضلل والخبر الصحيح، مؤكداً أن هذه الفترة، مهما كانت قصيرة، قد تكون كافية لإشعال النزاعات وتدمير دول بأكملها.
أوصت الدكتورة ريم الزعبي بتعميم تجربة الأردن في مجال التربية الإعلامية والمعلوماتية على الدول العربية، مشيرة إلى أن الدول الأجنبية بدأت هذا المشروع منذ ستينات القرن الماضي.
وتختم الزعبي بالتشديد على ضرورة إشراك وسائل الإعلام التقليدية والرقمية في تنظيم حملات توعوية، بالتعاون مع وزارات الإعلام، بهدف تعزيز القدرة على استهلاك المحتوى الإعلامي بشكل نقدي.
التعليقات