حوار مع الروائي التونسي واستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية الدكتور نور الدين العلوي
عمارة يعقوبيان بين الفيلم والرواية وحياة الواقع...(1)
محاورات تبادلية يجريها حكمت الحاج: هذه مجموعة محاورات تعتمد صيغة تفاعل الاراء والافكار وتبادلها أكثر من اعتمادها الصيفة التقليدية من سؤال وجواب، موضوعها الرواية- الفيلم- الحدث الأشهر خلال مجريات العام 2006 الحالي، وأطرافها ثلة من الأدباء والفنانين والنقاد العرب، بغية تحليل وفحص ملامح تلك الظاهرة التي فرضت نفسها على مختلف التعبيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية في عالمنا العربي، والتي كان اسمها وما زال، ظاهرة عمارة يعقوبيان. فلماذا اشتهرت عمارة يعقوبيان وهي لما تزال كتابا، وحاز مؤلفها علاء الاسواني على كثير الثناء وعديد الجوائز؟ ولماذا اشتهر الفيلم المأخوذ منها وحقق أعلى الايرادات في تاريخ السينما العربية وتبوأ مخرجه الشاب روان وحيد حامد مكانة عالية في ظرف وجيز؟ هذه علاوة على ما حققه بطبيعة الحال أبطال وممثلو الفيلم من مال وشهرة ونجومية ساطعة زادت من رصيدهم المعنوي ربما اكثر من المادي. في الحلقة الاولى من هذه المحاورات، كان لنا كلام مع الروائي التونسي واستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية الدكتور نور الدين العلوي، تناول أوجها عديدة لعمارة يعقوبيان، الرواية والفيلم والواقع المعاش الذي أفرزهما، وذلك على أمل أن يتمم الصورة لعموم القراء، متحاورون معنا آخرون من اختصاصات اخرى، سيشغلون حلقاتنا القادمة.
تحت عنوان (عادل إمام يعود إلى تونس) كتبت احدى الزميلات في (ايلاف) بتاريخ السبت 30 سبتمبر 2006 انه وبعد النجاح الجماهيري الكبير الذي حضي به فيلم quot;عمارة يعقوبيانquot; حين عرض للمرة الأولى في إطار مهرجان قرطاج الدولي 2006، يعود الفيلم مرة أخرى إلى قاعات السينما التونسية حيث سيعرض بدءاً من الأسبوع القادم في عدة قاعات في العاصمة. يذكر أن الليلة التي عرض فيها فيلم quot; عمارة يعقوبيان quot; تزامنت مع حفل الفنانة العالمية quot; ماريا كيريquot; في الملعب الأولمبي في ضاحية المنزه يوم 24 تموز يوليو الماضي، وقد أنصرف أغلب الجمهور النخبوي كما ذكرت صاحبة التقرير إلى مشاهدة فيلم عمارة يعقوبيان، حيث غصت مدارج مسرح قرطاج الأثري بجمهور غفير أتفق معظمه على أن الفيلم جريء يتناول موضوعا عادة ما نتغاضى عن ذكره في أفلامنا العربية. ولم تقل لنا الزميلة كاتبة الخبر ان ذلك الموضوع المسكوت عنه ليس فقط في افلامنا العربية بل في حياتنا اليومية العربية أيضا، هو الشذوذ الجنسي أو المثلية الجنسية.
في بداية حديثي مع ضيفي الدكتور العلوي، أحببت أن أعود به قليلا الى الوراء وأذكره بذلك الخبر الذي نشرته صحف عربية سيارة وتناقلته منتديات الشبكة العنكبوتية، حول وقائع حفل زواج رجلين فى مصر ففى أحد الفنادق فى القاهرة الكبرى والتى تعج بحياة حافلة على مدار الأيام وبشكل أكثر خصوصاً فى ليالي الخميس، كان فندق هيلتون رمسيس يعيش لحظات فريدة واستثنائية فقد تزين الفندق وتجمل لا ليستقبل احتفالاً بمناسبة عادية أو بزفاف خاص أو ببهجة كتلك التى تحياها قاعاته كل ليلة بل كان الجو المحيط يُوحى بشئ غريب لم تعتده الأعين و لم تلمسه العقول. هكذا يصف محمود بكري نقلا عن جريدة الأسبوع بتاريخ 15 أغسطس 2005 - 10 رجب 1426 هـ وقائع تلك الليلة المميزة. فقد انتشرت الزهور والورود وأُطلق البخور واستعدت فرق الرقص و الغناء لتنشد نغمات جديدة على وقع أهازيج تتمايل رياحينها هذه المرة بشكل لم تشهده مصر منذ حباها الله بدين الإسلام والمسيحية، على حد تعبير الجريدة. وعند الثانية عشرة مساءً بالتمام و الكمال كانت إحدى قاعات فندق هيلتون رمسيس تشهد حفل زفاف هو الأول من نوعه فى البلد. وقف الجميع مشدوهين وهم يشهدون(رجلين) يترجلان من سيارة فخمة مزينة بالورود و الزينة توقفت عند باب الفندق ليهبطا منها و فى لحظات كان الرجلان يتأبطان بعضهما بعضاً و يتقدمان وسط فرقة الموسيقى التى راحت تزفهما فى مشهد غريب أثار كل الموجودين داخل الفندق و فى قاعات استقباله و في ردهاته الرئيسية. توجه (الرجلان) بخطوات وئيدة إلى حيث موقع الإحتفال بهما فى حفل الزفاف الذى تقرر فى تلك الليلة الغريبة. رجال و نساء جاءوا ليجلسوا فى مناضد متفرقة (رجلان معاً) أو سيدتان معاً فقد كان المشهد غريباً و مثيراً وراح من يشهدون ما يجرى يفتحون أعينهم غير مصدقين ما يحدث امامهم. و ما هى إلا لحظات حتى دلف العروسان (الرجلان) إلى داخل القاعة تستبقهما أصوات زاعقة فيما راحا يتبادلان ابتسامات الإعجاب و الحب فى مشهد بدا فيه كلاهما سعيداً متباهياًو كأنه يُزف إلى الدنيا كلها. راح من شهدوا هذا الموقف الغريب يتساءلون عن هذا الذى يحدث وراح آخرون يضربون كفاً بكف و راح من شاء حظهم أن يتواجدوا مصادفة فى المكان يلعنون ما يشهدونه و هم يرددون (نستغفر الله العظيم.. من كل ذنب عظيم) و حين تنامت الأسئلة و تصاعدت عن جنسية هذين اللذين أقدما على هذه الفعلة المرذولة و الغريبة على المجتمع المصري و التى تجرى على أرض قاهرة المعز، جاء الجواب على لسان بعض الحضور (إنهم كوايته) رفض المجتمع الكويتى و الدولة هناك أن يسمحا لهما بهذا الزفاف و لكن مصر رحبت وفتحت لهما الأبواب ليكونا أول زوجين - رجلين (يتزوجان بعضهما البعض على أرض مصر). ويمضي محمود بكري قائلا: كان المشهد درامياً ففى منتصف القاعة جلس العروسان الذكران (الرجلان) على كرسيين متجاورين تحيط بهما الزهور من كل اتجاه بينما راحت أصوات الموسيقى الحالمة تصدح فى أروقة القاعة لتبعث بالراحة فى الآذان. كان الزوج - أو من أُطلق عليه هذا اللفظ ممتلئ الجسد ضخم الملامح وكان شعره يتدلى على ظهره و كأنه شعر فتاة أما الآخر الذى اُطلق عليه الزوجة فكان ذا قوام نحيف رشيق بعض الشئ وإن كان شعره أقل من شعر الزوج، كان الجميع يراقب نظراتهما. وابتساماتهما ومغازلاتهما لبعضهما البعض. كانا يتهامسان ثم تكسو وجهيهما ضحكة عريضة. صوت الموسيقى يعلو والجو يزداد سخونة أغان خليجية وأخرىأجنبية يتردد صداها فى أجواء القاعة يدعو منسق الفرقة الموسيقية العروسين الرجلين للتقدم إلى منتصف الصالة وعلى انغام الموسيقات المختلفة الصاخب منها و الكلاسيكى الهادئ راح كلاهما يستعرض مفاتنه فى وصلات راقصة لم تخل من إيحاءات بعينها حتى أن الرجل العروس كان يرقص و كأنه ينافس أشهر الراقصات أما (العريس) ضخم الجثة فكان يهز جسده بالكاد و يسعى قدر جهده لتوفير طاقته لاستخدامها فى الوقت و اللحظة المناسبتين. فبعد ساعات قليلة سوف يكون على موعد مع ليلة العمر. و حين راح (العروسان الرجلان) يواصلان وصلات الرقص على مختلف الموسيقات اندفع العديد من الشباب إلى قلب القاعة يتمايلون و يرقصون و يرددون أغان شاذة وزاعقة. وهكذا استمرت الرقصات الشبابية لأكثر من نصف ساعة وسط حالة من الفرح و البهجة الغريبة و فى لقطة درامية راح العريس يحكى وقائع قصة العشق و
الوله التى ربطته بمحبوبه و عروسه الرجل نظر إلى الحضور وأمسك بسماعة الحضور ليروى بإثارة و تشويق وقائع الغرام الذى ربط بين قلبه و قلب الرجل الذى أحبه منذ سنوات طوال قائلاً إنه صعد فى مواجهة كل الضغوط التى تعرض لها لكى يظفر بمحبوبه و عشقه الأول فى الحياه. و راح يحكى بألم عن بلده و أهله فى الكويت الذين ضنوا عليه بالحنان و رفضوا أن يسمحوا له بإقامة حفل زفافه من حبيبه على أرض بلاده مُبدياً تأثره الشديد بهذا الموقف غير المبرر - حسب وصفه - و لكنه يحمد الله أن مصر الكبيرة والحنونة قد فتحت له ذراعيها و قبلت أن يُقام حفل زفافه على حبيبه فوق أرضها و من هنا فقد قرر أن يأتى و يحتفل بزفافه فى مصر أرض الأهرامات و التاريخ و الحضارة. ليستمتع هو و حبيبه بشهر العسل على ضفاف النيل الخالد ليعيش لحظات السحر المصرى فوق ربوع هذا البلد الذى فتح لهما ذراعيه و احتضنهما بعد أن تجاهلهما أهلهما هناك فى الخليج. و بعد وصلة من التصفيق الحار الذى قوبل به كلام العريس (الرجل). راح العريس الرجل يحكى من جانبه قصة الذكريات السعيدة و لحظات الإرتباط الأولى التى جمعته بحبيب القلب و يروى وقائع الكبت والحرمان والقيم البالية فى بلاده التى منعته من الإرتباط بأعز إنسان لديه فى الوجود ويوجه لاتهامات لما وصفها (بالعادات الذميمة) التى تحرم الغنسان (الذكر) من أن يمارس الحب مع حبيبه(الذكر)وما هى الا لحظات حتى كانت القاعة التى ازدحمت بالحضور تعلن عن بدء فاصل جديد من الرقص إذ تسللت إلى منتصف القاعة راقصة شابة كان المجون بادياً على وجهها اتجهت صوب العروسين الرجلين و راحت تتمايل بينهما و تعبر عن محبتها لشجاعتهما و تدعو الفتيات الموجودات فى القاعة لكى يشاركنها فرحة الزفاف فاندفعن فى مساخر زاعقة يحطن بها من كل إتجاه وهن يتقافزن ذات اليمين وذات الشمال ليعربن عن سعادتهن بهذا الحدث الذى سيفتح الطريق أمامهن لكى تتزوج كل منهن من تحب من بنات جنسها.علاء الأسواني
الرجل السالب والموجب في العلاقة المثلية يدعوان بالبرغل والكوديانا، كما يخبرنا بذلك علاء الاسواني مؤلف رواية عمارة يعقوبيان، فبماذا تدعى المرأة السالبة والمرأة الموجبة في العلاقات السحاقية؟ ليتنا كنا نعرف ذلك، في انتظار أن تتحفنا كاتبة من العيار الثقيل كما الأسواني برواية من النوع الجرئ كما يعقوبيان.
* د. نور الدين، رأيتك من الذين وقفوا مسافة من يعقوبيان الكتاب ويعقوبيان الفيلم، كما موقف صانع النص الخبري المنقول أعلاه، ترى كيف نعلل هذا؟
- لا بد من العطر كي يستقيم الأمر. ومشهد الشاذ الكويتي الذي تزوج مثيله في صائفة ألفين وخمسة في بر مصر بعد ان تعذر عليه ذلك في بلده الذي يظهر انه محافظ جدا يتركني مشتتا بين اعتبار هذا الفعل من الحرية الشخصية وبين التقزز من مخالفة الطبيعةالبشرية التي جعلت الجنس يتم بين مختلفين ان الأمر عندي مثير للتقزز والقرف ويكفي ان نتذكر الرائحة التي تصاحب الجنس ففي الأمر كم من العطر لا بد منه ليستقيم الذوق أو على الأقل لكي لا يحصل القرف.
*قلت لي انك تصف عمارة يعقوبيان بالرواية القديمة الجديدة. كيف ذلك؟
- هذا يعيدني إلى رواية السيد علاء الأسواني التي قرأتها في نفس الفترة الزمنية في انتظار مشاهدة الفيلم الذي عرض بدوره في صائفة ألفين وستة وهي الرواية التي تثير ضجة الآن في البرلمان المصري كذلك وبالأساس الفيلم الذي تولد منها والذي يبدو انه يحظى بدعاية كبيرة تثير الناس مثله مثل الرواية تماما رغم أني أراها رواية تستعيد غيرها وفيها الكثير مما قرأنا عند آخرين من السوق المصرية نفسها ففيها من نجيب محفوظ ومن إحسان عبد القدوس ومن يوسف القعيد الشئ الكثير.
* هل نكتب عنها أم ننعزل عن الضجة المثارة حول عمل يبدو لك عاديا جدا مقارنة بروايات مصرية كثيرة لم تحظ بربع ما حظيت به هذه الرواية؟ هل تريد قول ذلك؟
- إنها نسخة غير مطورة من بعض الروايات السياسية التي كتبها نجيب محفوظ وهي تذكرني بروايات من قبيل القاهرة الجديدة والكرنك وفيها من أجواء محفوظ وتقنياته الشيء الكثير غير أنها تقل عنه ذكاء في التعبير عن الحرية الجنسية وهو أمر مهم بالنسبة لي كقارئ واحذر منه ككاتب.
* أرجوك أن توضح لنا كيف يكون هذه التحذير.. لا نريد أن يكون لكلامنا وقع الغموض والابهام ان سمحت؟
- أقول انه عند نجيب محفوظ نجد الإشارات والتلميحات التي تغني عن كل تصريح دون ان نفقد الخيط الرابط والمغزى المقصود بينما نجد الأسواني يوضح ويفصل ويوشك ان يصف دخول الحشفة في الفقحة على رأي أهل البصرة من أهل الدب والأدب كما وصفهم بعناية الشيخ laquo;التيفاشيraquo; في laquo;نزهة الألبابraquo; والذي حققه مثقف تقدمي جدا اسمه جلول عزونة من تونس(التي أنتجت كتاب الروض العاطر وكتاب الإيضاح في علم النكاح). وهو أمر مرذول جدا في الأدب كما اكتبه وكما اريد ان اكتبه.
*هل أنت طهراني الى هذه الحد، أقصد في الكتابة الأدبية طبعا؟
- لست طهوريا ولكني أفضل سفاد الإبل على سفاد الخنازير ربما نتيجة نشأة بدوية لم ابرأ منها ولا اريد.
* لنعد الى الاسواني وروايته ذائعة الصيت، كيف قرأتها أنت ككاتب روائي تحديدا؟
- لقد قرأت الرواية بتمعن كبير وتأملت أسلوب الكاتب واجده غير مجدد بالمرة كماان المضامين التي يدافع عنها معروفة ومكررة جدا. على سبيل المثال يطغى على الرواية جانب
مهم هو معالجة كيفية تحول شخص من شاب عادي(فقير ومكافح وشريف) إلى متطرف ديني يمارس القتل المنهجي ليبين من خلاله كيف تعمل التيارات الدينية المتطرفة مستغلة أسوأ ما في الإنسان من نوازع غريزية مثل حب الانتقام قتلا، جاعلا من كل فقير إرهابيا محتملا كما لو ان الأمر قانون اجتماعي لا فكاك منه. في حين نرى ان نصف الفقراء ان لم نقل كلهم يتحولون إلى مرشدين للشرطة والبوليس السياسي(الذي لا يستغل حاجتهم للقوت المر العسير؟؟؟؟؟) ولم نقرأ أي نص يدين ذلك أو يفضحه أو على الأقل يحلله كما يفعل بتحول الفقراء إلى متطرفين دينيين بنوع من الحياد البريء جدا كما عند الأسواني.هند صبري
*وربما عند المخرج الشهير يوسف شاهين في (فلم المصير) حيث رأيته مؤكدا على ان التيارات الدينية لا تعمل الا في هذا الظلام في الهامش الاجتماعي..
- هذه صحيح.. انها أطروحة قامت في أوائل الثمانيات ودعهما بعض كتاب فرنسا من المحللين السطحيين والذين رأيناهم في مسيرات مساندة لشارون (جماعة قناة فرنسا الثانية التي تقود وتوجه اغلب مثقفي المغرب العربي عادة من اليسار والليبراليين على حد سواء)
* لكن هذه الأطروحة سقطت في التسعينات، أليس كذلك؟
- نعم إذ تبين ان اغلب عناصر الحركات الدينية المتطرفة والمعتدلة تأتي من الطبقة الوسطى الباحثة عن دور سياسي واجتماعي حرمها منه الاستعمار والأنظمة التابعة بل ان مثال بن لادن الغني الذي سار إلى التطرف يفسد كل التحليلات التي يعتمدها الأسواني وأشباهه. لقد جعل الأسواني الشاب ابن البواب ينجح في دراسته(دور الدولة) ثم يتقدم لكلية الشرطة ثم يفشل لا لنقص في الكفاءة بل لتقييم عنصري متخلف (لان أباه بواب عمارة) (دور المجتمع المتخلف) ثم يواصل الشاب الدراسة (دور الدولة الايجابي دائما) حيث يتم استقطابه وتوجيهه من قبل المتطرفين الدينيين (أي المجتمع الفاسد دوما) لعملية قتل محسوبة بدقة ضد عنصر مخابرات (ليس الا الذي عذبه في السجن واعتدى على شرفه باسم تنفيذ القانون أي باسم الدولة والدول بريئة من أخطاء الأفراد). لكن الملاحظ ان العملية لا تتم ضد مدنيين وهو أمر له أهمية كبير في إدانة الفعل الإجرامي من وجهة نظر أخلاقية. لقد جعل الكاتب من الشاب المضطهد أن ينتقم لنفسه ممن قهره وهو عمل ثوري في جوهره رغم ان قاعدته ومنهجه ليس ثوريا ولا قانونيا بالطبع (مرفوض من الدولة الحامية للقانون)مما يؤدي إلى التعاطف معه(وقد ظهر لي ذلك خلال الفرجة في الفيلم كما سيأتي بيانه) وهو أمر يمكن ان يؤول على ان الكاتب داعية للإرهاب ويقاضى على التحريض ضد المؤسسة فليس أسهل من إثبات دعوته إلى مشروعية قتل الشرطة الظالمة التي تتجاوز القانون ولا يمكن في المقابل متابعته على الدعوة إلى التحريض على الشذوذ الجنسي رغم السلاسة التي يتحدث بها على العملية.غير أني لست في وارد محاكمته فانا أقف معه في الكثير اللهم في وصف متعة الاقفية التي لا اعتقدها ضرورية للكتابة.
* هل تقصد ان التعرض لموضوع اللواط أمر كان يمكن أن يكون غير ذي بال في الرواية؟
- نعم فهذا هو فحوى المسالة الثانية التي لفتت انتباهي وأنا أقرأ عمارة يعقوبيان، أعني قصة الشذوذ الجنسي في الرواية فانا أجد أنها زائدة بكل تفصيلاتها لهذه الأسباب. تتقاطع شخصيات الرواية جميعها في عمارة يعقوبيان كمكان موحد وموزع للأحداث وليس منها الا من يؤثر على البقية حتى الذين لا يعرفون بعضهم البعض تجعل منهم مدارج العمارة جيرانا يحتكون ويتوزعون ويعودون وهذا محرك الرواية لكن الشاذ لا يتقاطع مع أي منهم وكذلك عشاقه الكثر والعابرون عادة اللهم الا صديقه عبده الصعيدي(ضابط الأمن المركزي الفقير جدا الذي يبيع نفسه وقد اعتاد الشاذ ان يبحث عن عشاقه بينهم كما لو أنهم جميعهم أغضاء جنسية مستعدة أو قابلة للإيجار) الذي جاء به ليشارك السكان السكن فوق السطح وهو الذي ينتهي بقتله بعد ان تعرض لعملية ابتزاز ومساومة من قبل الشاذ. وشذوذه لا يؤثر في مصير أي شخص آخر ممن يركبون أحداث الرواية مما يسهل حذفه إذا أردنا ذلك دون ان تتأثر بقية الأبنية في الرواية ويمكن ان نصنع منه رواية أخرى غير ذات علاقة بهذه الا ان تكون حشرا بلا داع سوى الرغبة في القول ان المجتمع المصري مجتمع يعرف الشذوذ ويسكت عنه.
* طيب وما الجديد في ذلك بالنسبة لروائي يصف المشهد الاجتماعي والسياسي بالأساس هل ليدين المجتمع أم ليمجد الشذوذ أم ليتهم السياسي بأنه يرعي الشذوذ الجنسي ويسكت عليه وهي أطروحة تكفيرية بامتياز؟
- ان المجتمعات الشرقية مثل غيرها منتجة للشذوذ الجنسي عبر تاريخها وقد كان دائما عملا مستنقصا ومدانا من الأغلبية وهو لا يزال كذلك بخلفية ذوقية(ثقافية) أو دينية الأمر لا يختلف الا قليلا فقبل الدين كانت الثقافة العربية القديمة(الصحراوية ربما فسدوم كانت واحة مستقرة نسبيا وتعيش من التجارة) تدين الشذوذ الجنسي وتستقبحه والدين الإسلامي ليس مؤسسا في ذلك إنما هو تابع مثلما هو تابع في مسالة تعدد الزوجات. كان يمكن إيجاد علاقة بين الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وازدهار المتعة التي تتحول إلى الإغراب وغير المعتاد بين الناس (الغلمان والصغار السن كما في كتاب الروض العاطر و كتاب الإيضاح في علم النكاح) وهو قانون خلدوني نسبة الى ابن خلدون عن ازدهار الصنائع وتفاقم الحس وانحلال الدولة (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فدمرناها تدميرا) ان هذه مسالة دينية بالأساس وقع فيها ابن خلدون بحكم ثقافته ولكن كيف نفسر بها الآن ازدهار المثلية الجنسية في أوروبا دون انهيار الدولة (الأطروحة التكفيرية تتحدث عن انهيار المجتمع وهي أطروحة تحتاج إلى إعادة بناء مفاهيمها حول الدولة والمجتمع وهي ليست مهمتي الخاصة)ان وصف الشذوذ الجنسي بشيء من التسامح الساخر وعدم إدانته يؤدي إلى التحريض ضده أما إدانته فتشعل النار أكثر وفي كلا الحالتين إني أرى في ذلك مسالة وحيدة ويتيمة ستترتب عن كل الصيغ والمعالجات وهي دخول جمعيات حقوق الإنسان الأوروبية أولا ثم العربية لاحقا(تبعية التلميذ للأستاذ) لتجعل من مسالة الحرية الجنسية مسالة مركزية في نضالها المدني الذي ستقف ضده النخب المستعربة أو القومية والإسلامية بالضرورة(اليسار الماركسي لا يتحدث في هذا الأمر بوضوح) فتنفتح ثلمةأخرى يدخل منها هؤلاء لنقاش الثقافة العربية المتجمدة وإبرازها بمظهر المتخلفة(مرجعيتهاالدينية) وعوضا ان نتقدم في نقاش مسائل سياسية أوسع واشمل نعود لمسالةالأدبار والاقفية ونظل هناك.
* هل يقصد الكاتب إلى ذلك ربما لان تركيب قصته يمكن ان يظل سليما لو ألغينا منها قصة الشذوذ الجنسي تلك؟
- على كل حال ان رجلا مناضلا جدا على الأقل في القنوات الفضائية مثل مصطفي بكري يقع في لعبة تطهير المجتمع بالقانون(ككل ديمقراطي عريق) فيقدم طلب إحاطة برلمانية لمشاهدة الفيلم المستقى من الرواية ليدخل في لعبة مقاومة قانونية لمسالة تتعلق أساسا بالثقافة ولا يمكن حلها بالقانون وهو بالطبع ما سيجعله متهما بدوره من قبل صاحبي الرواية والفيلم بأنه يلعب لعبة السلطة التي تريد أبعاد التركيز على الجانب السياسي في الرواية والذي كان واضحا لا غبار عليه (الوقوع الدائم والمتكرر في لعبة اتهام سياسي وشتيمته لا عملية نقد أدبي لنص أدبي لا شك فيه) الدولة مستفيدة دائما من مسائل الشذوذ الجنسي(وعلى حد علمي مع الاعتراف بنقص ثقافتي القانونية فان القانون الوضعي العربي لا يدين الشذوذ الجنسي قانونيا مادام هناك قبول ورضا من الطرفين وما لم يحصل عنف).
* هل انه فعلا يسهل على الدولة قياد مواطن شاذ لأنه لا يربط بين الشجاعة والفحولة أو الذكورة؟
- لقد كانت هذه حجج معارضي دخول الشاذين في الجيش الأمريكي والتي تراجعت امام قوة حجة الديمقراطيين الذين لا يرون ان كرامة الإنسان مربوطة في شرجه مثلما يقول بذلك بعض مقاومي الشذوذ في ثقافة أخرى منها العربية.
* لكني أرى من جانب آخر ان رواية الاسواني كتاب قابل للقراءة بشدة، ان صح التعبير.
- ان الرواية في مجملها قابلة للقراءة، غير أنها مثل عمل هؤلاء الشواذ تثير مسائل جانبية تفقد جانبها السياسي أهميته فقد عبر الكاتب بشكل جميل(ولكن غير جديد)عن الترقي الاجتماعي لفئات المضاربين والمقاولين السياسيين الذي يوجهه (هو) المخيف والغامض و الذي يسمع ولا يرى بل ان شخصية كمال الفولي النافذ السياسي الذي يبيع الأماكن في البرلمان قبل الانتخابات يذكر بديناصور الحزب الوطني الحاكم كمال الشاذلي الذي صار الآن من الحرس القديم وغادر تقريبا.ولكن رغم هذا الإبداع في وصف السياسي في مصر وفضحه ان شئت يمكن القول ان العمل مكرر وممل فقد عولج الأمر مئات المرات في السينما وهو ليس جديدا بالمرة على القارئ المصري المعتاد على نقد السياسي في الشارع بالنظر إلى ما تظهره السلطة الحاكمة من برود نسبي إزاءالتناول النقدي الساخر في مصر مما لا يتوفر ربعه في عواصم أخرى عربية بالطبع.
* لماذا لا يتجه الأدباء والكتاب (السياسيون منهم) إلى نقد الولاءات للخارج والتصرف من قبل النظام (الأنظمة) في مقدرات البلد كوكيل شركة استعمارية ليس الا؟
- ان تحول جهاز الحكم إلى جهاز توجيه اقتصادي يعمل لصالح الشركات الكبرى (العالمية) هو السبب الذي تتولد منه بقية المسائل السياسية بما في ذلك بيع المناصب في البرلمان وهو موضوع مسكوت عنه لا عن جهل من الكتاب بل لأنه محرم سياسي مخيف مما لا تسكت عنه أية سلطة عربية لأنها في الحقيقة ليست سلطة فعلية بل عصا غليظة تمهد الطريق للشركة.ان الكاتب الذي يطرح مسائل سياسية معروفة ومتداولة و يجتنب المسائل الحقيقية بالنسبة لي يحوم حول الحمى ولا يشير إليه صراحة خاصة إذا ألح في خضم الكوارث المتهاطلة من كل مكان على طرح مسألة الشذوذ الجنسي.هكذا بدون مقدمات وبدون ربطها بالنسيج الاجتماعي الذي قد يكون أنتجها.(التحليل الخلدوني يبدو أكثر تماسكا فهو على الأقل اوجد له تفسيرا من قوانين المجتمع جيث الرفاه ينتج المتعة) ويزيد طبقا لثقافته الدينية ان المتعة تنتج الانحلال (نقيض القوة والشدة رديفة الفحولة والرجولة) الذي ينتج الانهيار الحضاري.
* قلت لي في سياق حديثنا عن الرواية انه ثمة مسألة أخرى استرعت انتباهك وقد تكون تناقض ما كنت تقوله وهو أمر يدل على موقف لا يرتاح إلى الزواج من الأجانب(الغربيين تحديدا).
- جعل الكاتب من الشاذ الجنسي شخصا ينحدر من زواج مختلط من مصري وفرنسية يتبين بعد أنها لم تكن سوى ساعية في مقهى اغرم بها المصري وتزوجها رغم انه كان طالبا في القانون وعاد علما عالميا فيه وقضى حياته في تفسيره حتى انفجر دماغه من كثرة العمل في الوقت الذي كانت فيه زوجته تخونه مع فرنسي آخر من أبناء جلدتها الذين يحتقرون جميعا العرب الذي تزوجوا منهم وكانت تهمل ولدها المصري حتى وقع فيه الخدم وزنوا به. هذا المثقف الارستقراطي المتغرب هو الذي أنجب في مصر الطفل الشاذ الذي سيصير بدوره نخبة يبيع الثقافة التقدمية والاشتراكية للمصريين (رئيس تحرير جريدة ناطقة بالفرنسية المنظور إليها في مصر كثقافة ارستقراطية ممتازة من أيام نابليون).
* هل في هذه التركيبة إيحاء بجذور الفكر التقدمي وإدانة له وموقف منه؟
- نعم بالضبط هو كما تقول.. فكل مثقفي الطبقة الوسطى على هذا الرأي مغتربون (خونة بشكل ما) لا ينجبون في مصر الا الشذوذ والخراب.
* هل هي دعوة للربط بين الخيانة والشذوذ؟
- إذا كان هذا موقفا مقصودا فهو موقف تكفيري عنصري غير مسبوق الا من قبل التيارات الدينية التي يظهر لها الكاتب عداء ولكنه يلعب لعبتها التكفيرية. فالربط غير العلمي بين الميل الجنسي والموقف السياسي يشبه القول ان الشرف هو ما ملكت فقط أما الآخرون فكلهم غلمان أي خونة.. أو انهم خونة لأنهم غلمان أو لا يصيرون غلمانا الا لأنهم خونة.. وهكذا فان السبب والنتيجة مختلطان.
* هل هذه ملامح تكفير الفكر الاشتراكي؟ هل يدشن الادب العربي حقبة النيل من الاشتراكية والشيوعية والعلموية، أخلاقيا، بعد أن فتح الطريق لهم سدنة الدين؟
- نعم يمكن للإنسان ان يقف موقفا مضادا من الفكر الاشتراكي ولكن لا يمكن ان يكون كل اشتراكي مأبونا أو مأفونا. لقد تذكرت التهم السياسية التي كنا نطلقها على بعضنا البعض في الجامعة.. إنها تدور كلها حول الاستنقاص من الشرف وليس يعيب الشرف(الرجال) مثل الاتهام بالمثلية الجنسية. مثلها مثل التهم التي تطلقها الجارات على بعضهن في صراع الأحياء فكل امرأة عاهرة في نظر غريمتها مما يجعل كل نساء الحي عاهرات. إني أجد ان الكاتب من هذه الزاوية قهرمانة عجوزا تجلس على دكة في حي شعبي وتتهم كل نسائه بالعهر.وهو الاتهام التاريخي القديم الذي يتوارثه الكتاب العرب منذ الجاهلية ويكفي ان نقرا أهاجي جرير والفرزدق.
* حتى الاشتراكية الناصرية لم تسلم من الغمز في قناتها في رواية علاء الاسواني هذه، وأضع هنا كلمة الاشتراكية الناصرية بين مزدوجتين؟
- نعم، لكن هناك موقف مغاير. لقد ذكر الناصرية بخير مرتين. مرة عندما سبها على لسان الشخصية الأكثر فسادا في الرواية والتي تبكي على ماضيها الارستقراطي الموروث والذي هدمه عبد الناصر، ومرة عندما قارن بين ما يجري الآن في اختيار المتقدمين لكليات الشرطة من حيف وعنصرية وقارن بينها وبين ما فعله سعد زغلول الذي فتح الكلية الحربية لأبناء الشعب الذين أنجزوا الثورة (المدح هنا لسعد زغلول ولكن أيضا لأولاد الشعب الذين استفادوا من الحق في الترقي) ولكن عندما يجعل الفتاة المصرية المسكينة التي تحاول ان تجد حلولا لازمتها المادية الخانقة تنتهي زوجة لهذا الارستقراطي الذي يتزوجها في ناد يوناني فانه يزيد من مدح الناصرية التي ألغت هذا الاحتمال. هل في هذا إيحاء بعودة مصر إلى حضن الطبقة التي تحررت منها أم إني أبالغ في تأويل فرعيات من النص؟ لو كان هذا ما عناه الكاتب فاني اعتبر موقفه ايجابيا من الناصرية التي عملت على تحرير البلد من الطبقة الارستقراطية الفاسدة ولكن العودة الى ما بين أحضان هذه الطبقة الآن هو إدانة حقيقية للنظام السياسي الفاسد الذي خرب مصر وأعادها إلى الوراء إلى ما قبل بناية عمارة يعقوبيان (التي تصير رمز معماريا لمرحلة تنشد التقدم).
* لقد تسنت لك فرصة مشاهدة الفيلم المقتبس من الرواية والذي حمل الاسم نفسه (عمارة يعقوبيان) بخلفية القراءة المسبقة للرواية في مهرجان قرطاج الدولي الصيفي هذا الفيلم الذي يتصدر فيما يقال شبابيك التذاكر في مصر وما جاورها. هل تستطيع أن تحكي لنا قليلا عن تجربتك هذه في المشاهدة؟
- من الواضح ان الدعايةالقوية التي صاحبت الفيلم قد وصلت إلى تونس وقد أفلحت في ضم جمهور كبير إلى الفيلم فقد غص ركح قرطاج بجمهور شبابي فاق السبعة آلاف في تقدير بسيط.رغم ان الساحة الثقافية ليلة عرضه كانت مشغولة بالحفل الدولي الذي أحيته الفنانة الأمريكية ماريا كاري بملعب المنزه والذي استقطب بدوره جمهورا بلا حدود(أكثر من أربعين ألف متفرج في الحفل الأول)وفي هذا الشأن هناك جملة من الملاحظات يمكن سوقها على هامش الفرجة التي تخللها انقطاع للبث ثلاث مرات متتالية جعلت الجمهور يثور ويتذكر أيام سينما الجدران القديمة في أحياء تونس والأرياف البعيدة وذهب البعض إلى القول ان مدير المهرجان حرص على تذكر طفولته السعيدة بقطع الفيلم مرات لسماع ضجة الأطفال المحتجة.
* هات ملاحظاتك اذن لو سمحت..
-الملاحظة الأولى تخص تفاعل الجمهور: فإلى جانب العدد الكبير من الحضور فان الجمهور تفاعل بالتصفيق والصياح المتعاطف مع الفيلم في جملة من المقاطع تدعو إلى التساؤل عن الذوق السائد أو عن العمل السينمائي المثير والمطلوب. صفق الجمهور ثم سكت بسرعة وتبادل التحذير من التصوير الأمني عندما كان الإمام المتطرف يخطب من على منبر الجامع يدعو إلى الإسلامية. صفق الجمهور ثانية وبحماس كبير عندما قتل الشاذ عشيقه الصحفي الذي جاء به إلى البيت.وهذا الجمهور اظهر نوعا من التعاطف مع عبد ربه الذي يعتلي ولا يعتلى (من خلال مناداة الشبان بعضهم بعضا عبد ربه). صفق الجمهور بحماس اكبر وغير متوقع عندما قتل الشاب المتطرف ضابط الأمن الذي عذبه وهتك عرضه في السجن.
* هل لنقاط التفاعل والتعاطف التي ذكرتها من دلالة معينة فنيا واجتماعيا؟
- لقد تكونت لدي ملاحظات كما لدى اي متفرج غير متعجل، حول العمل السينمائي المطلوب (ماذا يريد الجمهور).رأيت في تعاطف الشباب مع عبد ربه عملا غوغائيا مستثارا بحكم اكتشاف تصوير المثلية الجنسية باعتبار ان الراكب أفضل ذكوريا من المركوب. قلت تكونت ملاحظات ولكني الان أقول لقد تكونت بالاحرىأسئلة من مثل: لماذا التشفي في موت المركوب؟ هل في ذلك دلالة أو موقف أخلاقي من المثلية الجنسية؟(الشذوذ)وهل ان تصوير هذا الأمر وعرضه يسهل قبوله أم يمنع من انتشاره؟ بالطبع هذه الأسئلة تقع على هامش العمل السينمائي وليست داخله لكنها الأسئلة التي تظل مشروعة حول ماذا نقدم وهل كل ما هو موجود يمكن تقديمه وكيف ولمن وهي الأسئلة التي ستتكرر باستمرار عند كل مساس بموضوع ذي علاقة بالأخلاق العامة. واقول ان ليس لها من حل نهائي بدليل قدم هذه الأسئلة في المجتمع الليبرالي الغربي غير الديني والذي لم يصل فيها إلى قول فصل رغم تقنين الحرية الجنسية.
* وملاحظتك الثانية ما هي؟
- الملاحظة الثانية تخص التفاعل الملفت للانتباه الى حد السعادة الغامرة والصراخ المتعاطف والتصفيق الحاد مع قتل ضابط الشرطة من قبل المتطرف الديني الذي ظهر في كامل الفيلم طيبا وغير عدواني بل مسالما يبحث عن المشاركة الايجابية (الحب والزواج والنجاح الدراسي والمهني) وإذا كان تعرض للاستغلال من قبل التيار المتطرف ليحوله إلى أداة إرهابية فجذور أزمته الشخصية زرعتها فيه السلطة الحاكمة وضباطها الذين ظهروا في أسوء صورة ربما جعلت الجمهور يتعاطف مع الإرهابي
*أعتقد ان الفيلم بالغ اكثر من الرواية في تصوير ذلك.. وهذا ربما يقودنا الى الحديث عن أفلمة الرواية ومدى تطابق السيناريو مع النص الأصلي. ألا تعتقد مثلي ان ثمة خيانة للنص في اكثر من موضع؟
- اجزم من خلال معرفتي بالرواية ان نسبة تطابق السيناريو مع الرواية تفوق نسبة الاختلاف فقد اقترب النصان كثيرا في مواضع كانت هي ركائز الفيلم والمواضع التي تم فيها التحوير أو الابتعاد أو التعديل لم تؤثر كثيرا في جوهر الرواية باستثناء موضع واحد تبين لي ان اجتنابه كان مقصودا ربما نتيجة الصنصرة أو الرقابة الذاتية أو الرقابة الغاشمة.ولا احتاج هنا إلى إعادة الحديث عن مواضع التطابق فمن قرأ النص مثلي يمكنه معرفة ذلك. ابتعد السيناريو عن الرواية في موضع قتل الشاذ فقد ورد بالرواية انه استعاد صديقه عبد ربه الذي لم يكن يرغب بل يختفي بين الصعايدة أبناء عمومته (ردة فعل الريفيين الدائمة امام العدوان الخارجي) لكنه خضع للابتزاز ثم تمرد تمردا أخيرا وقتل الشاذ قتلا شنيعا بان هشم رأسه وهو لا شك كان سيكون مشهدا بشعا لو نفذ سينمائيا وربما كان يستثير المزيد من التعاطف مع عبد ربه الذي يدافع عن تدين شعبي يحرم الشذوذ (حيث فسر موت ولده بالعقاب الإلهي).
استقدام حريف آخر يتولى عملية القتل خنقا من الخلف و يسلب القتيل أشياءه لم تغير كثيرا اللهم التخفيف من مشهد القتل أو ربما كان فيها تحذير من المخرج للشواذ ان لا يدخلوا إلى بيوتهم الا من يثقون به.وفي كل الأحوال كان هذا غير ذي ضرر بالنص الأصلي.
* طيب، أنت تسمي الاخلال بالامانة ازاء الرواية عبر السيناريو ابتعادا، كما أسلفت في حديثك أعلاه. هل هنالك ابتعادات أخرى من الفيلم عن الرواية؟
- نعم، فالابتعاد الثاني كان في موضع إشعار حضرة النائب بضآلته امام آلة الفساد التي يشارك فيها متحصنا بالمجلس فقد ورد بالرواية انه سعى إلى معرفة الكبير الذي يوجه اللعبة كلها بناء على شكه في نوايا الواسطة (الفولي)وبعد إجراءات أمن مشددة ومرعبة أوصل إلى حيث يمكن ان يرى الكبير الذي يوجه اللعبة لكنه لم يره بل لم يكشف له بل كلمه من وراء حجاب بصوت آمر يطلب فقط الطاعة والاستسلام وبذل نسبة الخمسين في المائة من الإرباح.اجتب السيناريو هذاالموضع وغيره بان(الدولة)أرسلت شرطة مكافحة المخدرات التي لم تحتج إلى أكثر من الدخول ليستسلم حضرة النائب ويعترف ويستسلم للواسطة نفسها التي تحدد شروط اللعبة(فتجعل من الهروين طلاء سيارات إذا قبضت فرضيت). هذا الهروب من الحديث عن (هو) المخيف أنقذ المخرج من المسائلة عن هو من يكون وجنبه الوقوع في ورطة سياسية كانت قابلة فقط للتأويل في اتجاه واحد هو ان للفساد رأسا واحدة تتمتع بكل السلطة وتكلم الناس من وراء حجاب وان الوزراء عندها واسطة للفساد والابتزاز وبيع الدولة ومراكز القرار فيها. وبالنسبة للمصرين على الأقل كان لهذه الرأس اسم يعرفونه وقد ألمحت إليه الرواية دون ان تسميه ولكن الفيلم هرب منه هروبا افقد المشهد كل أصالته وجعله مكررا مستعادا من أفلام أخرى كثيرة أظهرت باستمرار ان أجهزة الدولة (الأمن خاصة) وسيلة بيد متنفذين يتحاربون بها على مواقع النفوذ ويتوزعون به الغنائم.
* هل ثمة مشاهد أقحمها الفيلم ولم تكن أصلا موجودة في النص الاصلي للرواية؟
- نعم فقد ادخل السيناريو من عنده ولم يرد ذلك في الرواية مشهد موت الإرهابي إلى جانب رجل الأمن اللذين اقتتلا بدون رحمة ثم سال دماهما القانيان في مكان واحد في إيحاء بدا لي حاملا لموقف سياسي فالقتيلين من أبناء مصر وقد اقتتلا بعد ان اختلفا لكن موتهما جمعهما إلى الأبد كأنما كان محكوما عليهما الا يلتقيا الا ميتين ولكن السؤال الذي يطرحه المشهد الأخير هو لمصلحة من مات الشخصان فموتهما تم في لحظة استشراء الفساد وتمكنه من النجاة من كل القوانين فالنائب الفاسد فاز بصفقاته كلها والوزير المضارب اخضع النائب الفاسد والشابة المصرية الثائرة الفقيرة الباحثة عن حل شريف عادت طامعة مستسلمة لحضن الارستقراطي القديم الفاسد بدوره (زير النساء الذي لا يصرخ في وجه البلاد الا بعد ان يفقد وعيه وهو ينقد البلد لأنه امتلأ بالحشو والدهماء التي غيرت صورة القاهرة التي كانت أجمل من باريس). عندما ينظر إلى مشهد الموت واختلاط الدماء لا بد ان يطرح السؤال لمصلحة من مات الشابان ولمصلحة من خاض كلاهما حربه؟ الأكيد ان كليهما لا يرى إلى دوره الحقيقي ولا يرى مصالح بلده ولا يرى أعداءها الحقيقيين. مما يغير تغييرا جذريا رأي كاتب الرواية من الإرهاب ويجعل للمخرج رأيا مختلفا عنه لا يظهر لي انه على نفس الدرجة من العداء للتطرف الديني.خصوصا إذا نظرنا إلى تلك الصورة اللطيفة التي رسمت للمتطرف قبل ان ينتقم لشرفه من الضابط وهو في كل الحالات انتقام يبدو في النصين مشروعا لان المعتدي أولا كان الضابط الذي تجاوز حدود مهنته القانونية.اللهم ان يكون الروائي يشرع لحق قتل المتطرفين خارج القانون وهو إحساس تركته لدينا أيضا قراءة الرواية. سيكون هناك كلام كثير عن تطابق السيناريو مع النص الروائي ولكني اعتقد ان هذا العمل كان وفيا جدا للنص الروائي.وسيكون عملا مدرسيا(بيداغوجيا) يمكن تقديمه لمن يبحث عن أمثلة التطابق والاجتهاد في النصين.
- هل لديك تصور ان التطابق بين النص المكتوب والنص المرئي كان ساري المفعول حتى في حكاية المثلية الجنسية؟
- نعم، وهذا هو صلب ملاحظتي الثالثة المتعلقة بمسألة الشذوذ في النصين. لقد تجرأ الكاتب كما تجرأ المخرج من بعده على تابو أو محرم من الوزن الثقيل هو تابو الحديث عن المثلية الجنسية ثم تصويره لا بقصد السخرية منه ومن مريديه بل تقديمه كمعطى اجتماعي موجود ومتعامل معه بطرق مختلفة(من الرفض والدعوة إلى التوبة إلى القبول والاستغلال للشاذ). وكما ظهر لي ذلك في النص ظهر لي أيضا في الفيلم كل هذا الحديث و الصور يمكن الاستغناء عنها دون ان يفقد العملان قيمتهما ودون ان تهتز أركانهما. في العملين ظهر لي هذا الجانب مركبا مضافا بلا تأثير حقيقي على بقية عناصر النص مثلما لم يتفاعل الشاذ مع بقية أفراد قبيلة يعقوبيان (الحوار بينه وبين الباشا المتصابي في انتظار المصعد أو الاصنصير تمت إضافته إلى السيناريو ولم يرد في الرواية) لم يتفاعل معه بقية السكان الا بدعوته من بعيد إلى التوبة والكف عن المحرمات لكن دون تدخل حقيقي في حياته الخاصة (زوجة عبد ربه لم تكن ترفض ان تعيش من ماله وهي تعرف ان زوجها يعاشره). ورغم الاختلاط الشديد بين سكان العمارة خاصة جماعة السطوح وتأثير بعضهم في بعض الا ان حياة الشاذ لم تؤثر في أي منهم ولم تتأثر حياة أي منهم بحياة الشاذ الذي ظل غريبا عنهم وهو ما يجعل هذا الأمر مضافا ملصقا إلى كل بناء الرواية والفيلم، وليس لهذا من تفسير في رأيي الا ان يكون هذا من التوابل أو البهار التجاري الضروري لتمرير الرواية والفيلم ليس الا. فهو كسر عابث بتابو خطير ويستحق معالجة حقيقية لا غاية له الا الترويج بشيء غريب وحديث وليس اشد غرابة من تصوير الشذوذ الجنسي وجعل لغته لغة مسموعة في السينما. وهو ما يفقد هذه المعالجة كل جدتها وتميزها لأنها لم تطرح الموضوع طرحا مستقلا وجديا بل جعلته عنصرا لاصقا في موضوع أكثر أهمية زاد من تهميشه وهو موضع الفساد السياسي.
*هناك من يقرن السياسة بالشذود الجنسي او بالانفتاح الجنسي عموما في عالمنا العربي، بينما هنالك من يقول ايضا ان القمع الجنسي قرين القمع السياسي. الى أيهما رأيك أقرب، والمناسبة هي يعقوبيان الرواية والفيلم؟
- كلا انا لا اتفق مع الأطروحة التي ترى ان (الفساد السياسي يسمح بالشذوذ الجنسي ويشجعه كي ينسى الناس الساسة والسياسة ويتفرغون لمتعهم الحسية) ربما كان هذا صحيحا ضمن سياسة تسهيل الحصول على الجنس خارج الزواج بصفة عامة لا فقط الشذوذ.ان هذه المعالجة همشت معالجة ظاهرة جديدة تغزو المجتمعات العربية وتحتاج إلى معالجة علمية وفنية واسعة ومستقلة.
* هل لديك ملاحظة أخيرة؟
- ملحوظتي الرابعة اسميها الوقوع في المشهد المنمط. اذ لم يخرج العمل السينمائي عن المواقف المنمطة في معالجة ظاهرة التطرف الديني فهم شباب موتورون فقراء معادون للمجتمع يتحلقون حول شيوخ مشبوهين لا يقعون في اسر السلطة ويتمتعون بالنساء في معسكرات التدريب التي لا تكتشفها السلطة (من أكثر الأخبار التي روجت في وسائل الإعلام الفرنسية بالخصوص والتابعة لها في بلدان المغرب العربي سبي المقاتلين المتطرفين لنساء والتمتع بهن في الجبال لكن لما نزل هؤلاء المقاتلون من الجبال لم نجد بينهم نساء كن سبايا أو صرن زوجات بعد سبيهن).. خذ ايضا كمشهد نمطي (منظر اللحية الكثة والخضوع المطلق للشيخ والاستلام للتنظيم هي نفس المشاهد التي قدمها يوسف شاهين في فيلمه ((المصير))للتنظيمات المتطرفة) سيكون على أعداء هذه التنظيمات من المثقفين ان يعيدوا بناء صور أعدائهم هؤلاء على ضوء الصورة التي يقدمها رجل مثل حسن نصر الله في صيف ستة وألفين فهم على الأقل لا يختلفون مع المتطرفين ان هذا الرجل يقدم نموذجا مختلفا يربك الجميع.
* د. نور الدين العلوي، للاسف، لم يسعفنا الوقت كثيرا لنتحدث عن طاقم العمل السينمائي. ففي تصوري ان الفنانة التونسية هند صبري كانت متالقة في الفيلم الى جانب سمية الخشاب والنجمة يسرا، التي نشرت ايلاف خبر اعتزالها وإرتدائها الحجاب كما نقل ذلك الزميل مراد النتشة من دبي السبت 30 سبتمبر 2006 حيث قامت الفنانة المصرية بتسريب أخبار عن رغبتها في إعتزال الفن وإرتداء الحجاب، وأنها تقرأ العديد من الكتب الدينية وتشاهد القنوات الفضائية الدينية بتركيز شديد هذه الايام.
- لا أدري ولكن في هامش الفيلم أيضا رأينا يسرا المتألقة بجمال لا يشيخ و رأينا عادل امام شيخا يهرم وترتخي أوداجه ويخرج من خريطة السينما المصرية بدور ثانوي لم يكن ليقبله في أول حياته (قد يكون جزء كبير من الجمهور جاء ليراه ولكن رأى الشيخ عادل امام الهرم الذي يثير الشفقة). هذا بعض ما رأيت مما قد يرى، وقد أرى غيره في غير هذا الوقت فنحن في آخر الأمر وفي أوله أيضا نتحدث في الفن والأدب وهو حمال أوجه دون ان يكون نصوصا من السماء.
* عن رواية عمارة يعقوبيان للاديب علاء الاسواني يدور الفيلم الحامل للاسم نفسه داخل عمارة سكنية بوسط البلد و يتطرق الي التطورات الاقتصادية والسياسية خلال نصف القرن الماضي و يهاجم الفساد الذي أفرزته تجربة الحكم الجمهوري واسقاط الطبقة الوسطى والرأسمالية الوطنية في هذه الفترة كما يسلط الفيلم الضوء حول الارهاب. ويبدأ الفيلم الذي يبلغ طوله 160 دقيقة بتعليق صوتي على خلفية لصور بالابيض والاسود للقاهرة القديمة أو ما يعرف الان بمنطقة وسط البلد مشيرا الى تاريخ انشاء البناية التي اتخذها الفيلم عنوانا له حيث أسسها الخواجة يعقوبيان عام 1937 وكانت عمارة كوزموبوليتانية تضم سكانا من ديانات وأعراق مختلفة. لكن الفيلم الذي كتب نصه السينمائي وحيد حامد وهو في الوقت نفسه والد مخرج الفيلم الشاب مروان حامد يشدد على أن الحياة انذاك كانت جميلة ويحمل الضباط الذين قاموا بثورة 23 يوليو 1952 على النظام الملكي مسؤولية ما يعتبره فوضى وقبحا. ويعد الفيلم بانوراما لمصر في بداية القرن الحادي والعشرين من خلال تتبع مصائر شخصيات تقيم بالبناية في مقدمتهم زكي باشا الدسوقي ابن الباشا والثري سابقا والمهموم بمطاردة النساء. أما طه الشاذلي ابن البواب فهو يحب بثينة الفتاة الفقيرة التي تقيم في البناية ويطمح الى الالتحاق بكلية الشرطة ويحول دون ذلك الوضع الاجتماعي لوالده فيكون ضحية جماعات متشددة في جامعة القاهرة ولا ترضى الفتاة عن تشدده. وتقدم هي بعض التنازلات التي تجعلها راضية عن تحرش صاحب محل للملابس تعمل به مقابل بضعة جنيهات. وعقب احدى المظاهرات يطارد الشاذلي ويقبض عليه ويرفض الوشاية بزملائه ثم يخرج مصمما على الانتقام ويطلق النار على الضابط الذي اذاه وفي تبادل لاطلاق النار بين الشرطة ومتشددين اسلاميين يسقط الشاذلي والضابط وتختلط دماؤهما فلا يعرف أيهما الجاني وأيهما الضحية.أما حاتم رشيد رئيس تحرير صحيفة /القاهرة/ التي تصدر بالفرنسية فهو ناجح في عمله ولكنه لا اخلاقي. وأدى الممثل المصري خالد الصاوي دور رشيد ببراعة أثارت اعجاب المشاهدين وشفقتهم أيضا باعتبار شخصية رشيد ضحية والدين
التعليقات