حوار مع الشاعر العراقي نصيف الناصري
اشعر الان انني عشت وساعيش في جميع العصور.
انا شاعر عربي ولا يمكنني الا ان انطلق من ارثي العميق.
انا ضد الشعارات والتداعيات والانشاءات الشعرية الفارغة.
الشعر العراقي هو الاكثر حضورا وفاعلية في الساحة العربية.
حاوره مازن المعموري: لابد لاي متابع للشعر العراقي في اكثر مراحل تطوره تعقيدا في الثمانينات من القرن المنصرم ان يدرس النصوص المهمة والاسماء التي رسخت تجربة قصيدة النثر في وقت كانت قصيدة النثر ممنوعة من النشر وان اي خروج عن دائرة المؤسسة الثقافية يعد خرقا للنظام السياسي اولا ودخول العراق نفق الحرب المظلم في تلك المرحلة ادى الى تغيير البنى الاساسية للمجتمع بشكل قسري وهمجي وانحلال البنية الثقافية وانفصال المجتمع عن المثقف.
كان لهؤلاء الشعراء الشباب اثر واضح فيما بعد لتاسيس نموذج شعري جديد فتح نوافذ العالم على مصراعيها لانجاز احلام كان لها ان تتحقق لولا الحرب، ماذا بعد ذلك، هرب البعض من الجيش وسافر وانتهى البعض الاخر خارج العراق، ولك ماشأت من الاحداث الغرائبية التي عانى منها المجتمع العراقي بشكل عام، ويمكن لمن يريد الاطلاع قراءة ماكتبه محمد مظلوم حول الجيل الثمانيني، مرحلة التاسيس. في هذا اللقاء الذي اجده ضروريا مع الشاعر نصيف الناصري وهو احد اقطاب الجيل الثمانيني. تحدث الشاعر عن مجمل الاشياء التي تهم الثقافة العراقية والشعر مضيئا المناطق المظلمة في تجربته الشعرية وتجربة جيله.
* كان لظهور جيلك الأثر الكبير على الساحة الأدبية وكان لأقرانك مثل محمد مظلوم وصلاح حسن وصاحب الشاهر ومحمد تركي وركن الدين يونس وخالد البابلي وعبد الأمير جرص وخالد مطلك والقائمة تطول. لقد صنع كل واحد منكم تقاليد جديدة لم تكن موجودة في وقت كانت الحرب لا تتحمل التمرد والمشاكسة. لقد نزل الشعر الى الشارع وهذا التصريح احتفظ فيه لنفسي. هل تعتقد انكم خلقتم قطيعة مع الأجيال السابقة؟
- لم يكن هناك أي أثر شعري أو ثقافي يذكر لما تسميه جيلي في الساحة الأدبية العراقية من عام 1980 الى عام 1990، فقد كنا نكتب قصيدة النثر شبه الممنوعة من النشر في الصحف والمجلات التي تصدر بالعراق ونحتفظ فيها لأنفسنا أو نقرأها في البداية لبعضنا بمقهى { البرلمان } وبعدها في مقهى { حسن عجمي }. عندما مات صاحب الشاهر كان عمري الأدبي سنتين فقط. عبد الأمير جرص وخالد مطلك عرفناهم بعد عام 1990 ولم يقدما أي شيء حتى على الصعيد الشخصي، ولم يصنع أي واحد منا تقاليد جديدة أو ما شابه. الشعر لم ينزل الى الشارع حينذاك لأنه بصراحة لا يوجد شعر حقيقي في العراق با ستثناء سعدي يوسف وسركون بولص وأسماء أخرى تعيش في المنفى وكانت نتاجاتهم ممنوعة في العراق ونتداولها سرّاً. لم نخلق أية قطيعة مع الأجيال السابقة لأنها ميتة أساساً، وما زالت لغة الشعر العراقي وموضوعاته وأشكاله متشابهة. أحصيت الشعراء الذين بدأوا كتابة الشعر في الثمانينيات وكانوا 123 شاعراً ولك الآن أن تتساءل أين انجازات هؤلاء؟ وأين هم الآن وما هي مشروعاتهم وادعاءاتهم الطنّانة؟
* هل يمكن اعتبار الجيل الثمانيني قد أسس خطاباً مضاداً حقيقياً عكس ابتعاد الجيل السبعيني عن جوهر الشعر؟
- لم يؤسس شعراء الثمانينيات أي خطاب مضاد باستثناء الاصرار على كتابة قصيدة النثر وقد تبعهم شعراء السبعينات في هذا المشروع، ولا أعتقد { أستثني هنا بعض الأسماء } انهم اخلصوا لجوهر الشعر، فقد كتب الكثير من هؤلاء وأصدروا مجموعات تمجد حروب صدام صدرت عبر سلسلة { ديوان المعركة } وسلسلة { كسر الحصار الثقافي } التي أنشأها عدي صدام حسين وأشياء تافهة أخرى تخون الجوهر الحقيقي للشعر. مشكلة شعراء السبعينيات في العراق هي نفس مشكلة شعراء السبعينيات في العالم العربي. الايمان بآيديولوجيات معينة والتبشير بطروحاتها الغوغائية على حساب الجوهر والوظيفة الأساسية للشعر. عندما أعود الى قراءة أعمال 73 شاعراً ظهروا في السبعينيات بالعراق أشعر بالكارثة. ليس هناك أي ابداع حقيقي رغم الادعاءات والصراخ الذي ملأ وسطنا الشعري طويلاً.
* لقد وقف الجيل الستيني ضد المتغيرات الكبيرة في اللغة الشعرية وكانت المؤسسة الثقافية تتحمل عبء مفاهيم الحداثة، وكان كل من خالد علي مصطفى، سامي مهدي، حميد سعيد وآخرون يشعرون بالورطة الثقافية معكم، وهؤلاء لايمثلون الجيل الستيني بقدر ما يمثلون المؤسسة السلطوية. ماهو أثر ذلك في الواقع؟
- لا يمثل هؤلاء الشعراء جيل الستينيات. ندين لجيل الستينيات الحقيقي في الكثير من المغامرة والتجريب في اللغة والأشكال والموضوعات والمحاولات الدائمة للخروج من التقاليد الشعرية التي رسّخها الشعراء الذين ظهروا قبلهم. ولا أعتقد اننا كنا نقرأ ونتابع هؤلاء الشعراء الذين ذكرتهم، كما أن هؤلاء لم تكن لديهم أي ورطة معنا لأننا لم نكن نستطيع نشر نتاجاتنا في الصحف والمجلات آنذاك وبالتالي فهم لم يقرأوا لنا. كان سامي مهدي رئيس تحرير صحيفة { الجمهورية } يسمح بنشر قصائد ركيكة وتافهة لشعراء معينين من شعراء الثمانينيات، ومثله كان يفعل حميد سعيد رئيس تحرير صحيفة {الثورة}.
* لابد أن أبدأ من جان دمو. لجان موقع خاص في القلب، وكثيراً ما يقال أن جان دمو هو الذي أسس ظاهرة الصعلكة في الشعر العراقي. هل يمكن اعتبار الصعلكة أولى مظاهر التمرد على الواقع القذر الذي عاشه الجيل، وما هو تأثير جان الشعري؟
- ليست هناك صعلكة في الشعر العراقي، ولو كانت الصعلكة أولى مظاهر التمرد على الواقع القذر لكان الآن شعرنا وواقعنا بعافية كبيرة. لا تأثير شعري لجان دمو وهو كما وصفه عبد القادر الجنابي {شاعر بلا قصيدة}. جان كان مريضاً عبر افراطه في الكحول وقد استطاع أن يجذب حوله الكثير من الكحوليين والعاطلين عن الفعل الشعري والحياتي.
* لابد من الاشارة الى كتاب ( الموجة الجديدة) ومدى تاثيث المشهد الشعري، هل يمكن الاشارة الى أهمية المنجز باعتباره الولادة الاولى لكم؟
- كتاب {الموجة الجديدة} من اعداد وتحرير زاهر الجيزاني وسلام كاظم وهو انطولوجيا بائسة ضمت 53 شاعراً لا يجمعهم جامع وقد كانت فيها 6 قصائد نثر ل 6 شعراء فقط. كانت قصيدتي في {الموجة الجديدة} عبارة عن خراء ولا أتذكرها الآن أبداً.
* كانت لك مذكرات مؤلمة، قرأناها جميعاً، هل تعتقد أن الألم كان أحد العناصر المنتجة للنص؟ بمعنى آخر، هل يمكن قراءة نصيف الناصري من خلال الواقع الذي عاشه؟
- ليست هناك قوانين معينة في الابداع عبر الألم والسرور وسواهما من الأحاسيس. الألم الذي تحدثت عنه في كتابي { معرفة أساسية ndash; الحرب. الشعر. الحب. الموت } عاشه أغلب الناس والشعراء الذين ابتعدوا عن المؤسسة الثقافية الرسمية في عراق الثمانينيات. من الصعب الآن قراءة الواقع الذي عشته في الماضي، ذلك لأنني كما أوضحت في حوار أجراه معي الشاعر عبد العظيم فنجان ونشره في موقع { ايلاف } قد قمت بتمزيق 7 مجموعات شعرية لي عندما كنت في الأردن عام 1996. أردت في عملي هذا أن أبدأ من جديد واعتبرت أن ما أنجزته في السابق هو مجرد تمرينات لما هو قادم. ولكن يمكن التعرف الى بعض الألم الذي عشته في الماضي من خلال مجموعتي { أرض خضراء مثل أبواب السنة } التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1996، وهو ألم يبدو لي الآن مازال مستمراً ولا أستطيع التخلص من جذوته المشتعلة دائماً.
* الى أي مدى حقق الشعر العراقي حظوراً خارج العراق؟
- الشعر العراقي معروف في الخارج منذ عشرينيات القرن الماضي وهو الأكثر ابداعاً وقوة من الشعر الذي يكتب في البلدان العربية. أغلب الاندفاعات في الشعرية العربية في القرن العشرين ظهرت في العراق. بداية من الثورة التجديدية في الخمسينيات مع السياب ونازك والبياتي وسواهم، وصولاً الى الحساسية الأكثر جدة ومغامرة التي قام فيها شعراء الستينيات في العراق وغيروا النظرة الى الشعر وجوهره ومفهومه عبر اصرارهم على ازاحة الاجتماعي والآيديولوجي وكل ما من شأنه أن يخون الشعر كفن جمالي ومقدس.
* لقد حقق الحب جذوة كبيرة، ومازلت تعيش آلامه، فالى أي مدى استطاعت الغربة ترتيب نصيف الناصري من جديد أم أن الماضي بقي ملازماً لك طيلة هذه الفترة؟
- أنا مغترب ومنفي منذ مجيئي الى العالم. عشت حياة عاصفة ولا انسانية في الماضي. { 12 سنة جندي هربت فيها عدة مرات وعشت حياتي متخفياً. 3 سنوات بعد تسريحي من الجيش أمضيتها ببغداد على الرصيف في الصعلكات والكحول من دون وظيفة معينة. 4 سنوات تشرد في العاصمة الأردنية عمّان التي لم أستطع أن أكتب فيها سوى قصيدة واحدة عن موت صديقي الشاعر المرحوم رياض ابراهيم }. في مدينتي السويدية هذه التي يعيش فيها بشر من 165 دولة. استطعت أن أجد الوقت الكافي للتأمل والقراءات العميقة وتطوير مشروعي الشعري عبر العزلة التي حرصت وأحرص عليها الآن. بعد العودة من المدرسة الاجبارية { سوق العمل مغلق في السويد دائماً ويتوجب عليّ الذهاب كل يوم الى دراسة اللغة من أجل أن يدفعون لي نقود الطعام وايجار البيت } أغلق بابي ولا التقي أحداً باستثناء صديق أو صديقين من الكتّاب العراقيين. حاولت التخلص دائماً من الماضي المؤلم الذي دمّر حياتي في الحب والحنين والأشواق، وأستطيع القول انني بعد أنجزت 7 كتب خلال 8 سنوات هنا، أشعر انني أصبحت أكثر دقة في عملي الشعري وتنظيمي الحياتي.
* هل تعتقد أن الوعي الآن وبعد المجموعة السادسة غير الكثير من وجهات نظركحول الشعر والتجربة؟
- لم يتغير فهمي لجوهر ووظيفة الشعر أبداً، لأنني منذ البداية أردت كتابة شعر ينأى عن أشنات وطحالب الواقع اليومي ويحرص على الحفاظ بالجوهر العميق للفاعلية الشعرية الحقيقية. أما التجربة الشعرية فهي قد تطورت كثيراً عبر الخبرات الحياتية والمعرفية والتجارب المختلفة. أغلب تجاربي في الحياة والمعرفة تظهر واضحة الآن في القصيدة التي أكتبها وأحاول أن أنأى بها عن ماهو سائد في الشعرية الراهنة.
* ساتوقف عند المجموعة الاخيرة، هناك اختلاف شاسع في المنجز الشعري وهناك اختراق للتجنيس، هل يمكن الاعتراف أخيراً بظهور جنس أدبي جديد اذا جاز لي التعبير؟
- مجموعتي السادسة امتداد للمجموعتين السابقتين المنشورتين في مواقع { ايلاف } و { الحوار المتمدن } و { بيت الشعر العراقي } وقد حاولت في هذه المجموعة أن أٌقدم شعراً كما قلت ينأى عما هو سائد في الشعرية العربية والعراقية من خلال اللغة الجديدة البعيدة عن الإرث الممل، ومن خلال معالجة موضوعات الشعر الكبيرة في الموت والزمان والحب والتحول والصيرورة والسأم وما وراء الطبيعة. في محاولاتي للاختلاف عن الآخرين حاولت وما زلت أحاول أن أخلق كلمات جديدة. أغلب الذين يكتبون الشعر منذ سنوات طويلة، يكتبون في لغة موروثة ولا يحاولون خلق كلمات خاصة بتجاربهم ورؤاهم. مشكلة هؤلاء هي الكلمات وليست اللغة. وبالنسبة للتجنيس فلا أعتقد أن هناك اختراقاً كما تقول، ذلك لأننا تعودنا أن نقدم قصيدة حسب المواصفات المطلوبة والجاهزة في الشعرية الراهنة. ليست لدينا كما في آداب أخرى أشكال شعرية مثل النص المفتوح كما عند ميشال ديغي أو لوكايزيو ولا الملاحم أو السونيت والبالاد الذي تتداخل فيه عناصر الحوار والحكاية وأشياء أخرى، ولا عندنا القصيدة الدرامية ولا الأنشودة.
* هناك تحليق واضح نحو ما يمكن أن أسميه فضاء شعرياً مطلقاً، بمعنى أن الموضوع قد انتهى الى غير ما رجعة، وأن اللغة هي الفضاء الشعري الذي يتعامل معه القارئ؟ هل تؤمن في القارئ؟
- حاولت في المجموعة الأخيرة أن أقدم شعراً تكون مناخاته المطلق بشكله السري والعميق. الموضوعات وهي تسمية لا أحبذها هنا، موجودة وقد ذكرتها قبل قليل. لا نستطيع أن نقدم قصيدة ونتحدث فيها عن المطلق بلغة صحفية. ينبغي خلق أشياء جديدة من أجل التخلص من الكتابة وفق العادات والركاكة والتقليد. يتملكني شعور بالاحباط وأنا أرى أغلب الشعراء العرب والعراقيين يكتبون بلغة وأنساق وأساليب متشابهة. وبالنسبة الى القارئ فأنا أود دائماً طرد القارئ من قراءة القصيدة، لأنه بصراحة غبي ويود أن يفهم، واذا مهدنا له مهمة الفهم فأنه يدمر عمل الشاعر. في جميع العصور كان جمهور الشعر الحقيقي قليلاً. وهنا تكمن قداسته وجذوته المستمرة أبداً. الموضوع المعين والواضح في القصيدة الراهنة انتهى منذ زمن طويل. لا يمكننا التفكير في كتابة القصيدة. التفكير يقتل كل شيء. الكلمات لا الموضوع هي التي تخلق القصيدة كما يقول بول فاليري.
* لقد حلق العشق في فضاءات الصوفية، في مجموعتك الاخيرة { فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية } فكأن الحلول الحاصل بين روح الشفيع والشفيعة قد احتوى العالم وأصبح المعادل الموضوعي للواقع، هل تعتقد أن اللغة الصوفية هي غاية الشعر؟
- لا أعتقد أن اللغة الصوفية هي غاية الشعر. الشعر يستطيع خلق لغته الشفيفة والخطرة والخاصة دائماً، بشرط الاخلاص للتجربة والمغامرة والتجريب الدائم. في محاولتي عبر هذه المجموعة أردت التوحد في الروح الكبيرة للعالم لكن ليس من منظور لاهوتي. السيدة الشفيعة في هذه المجموعة تمثل عندي المجهول أو بعبارة أخرى { السيدة الغريبة } عند الشاعر الروسي الكسندر بلوك أو السيدة الجميلة عديمة الرحمة في الآداب الاوروبية، لم أحاول أن أجد في بحثي عن طيفها للعالم معادلاً موضوعياً في الواقع. محاولاتي هنا ضرورية بالنسبة لي لامتلاك الجوهر السري لأشياء العالم. أشعر الآن انني عشت وسأعيش في جميع العصور. ربما هي حالة توحد مع الروح الكلية للطبيعة. منحتني هذه التجربة الفهم لعميق لجوهر الموت. موت الانسان والأشياء في الطبيعة.
* هل تعتقد أن تجربة الشعر العراقي قد نضجت ثمارها الحداثية على ايديكموهل يمكن الاشاره الى أهم الاسماءالمجاورة لكم؟
- لا يمكننا القول أن ثمار التجربة الشعرية الحداثية في العراق قد نضجت على يد شاعر معين. يجب أن لا ننسى المغامرة الستينية في شعرنا العراقي وهي مغامرة كبيرة وأصيلة استطاعت أن تنقل شعرنا من أنماطه وأساليبه وأساطيره السابقة التي حاول أن يعكسها الشعراء الرواد على واقعنا المتردي عبر النظرة الآيديولوجية للشعر، الى آفاق أكثر سعة ومسؤولية في التعامل مع العالم والنظرة العميقة للشعر وجوهره. يشكو البعض الآن من كثرة عدد الشعراء في العراق. هذه الحالة ليست غريبة على الوسط الشعري في العراق. في كل عقد يظهر عشرات الشعراء ويحاولون ايجاد أشياء جديدة عبر التجريب والمغامرة والجهود الكبيرة. تهمنا المحصلة النهائية وهي بقاء عدد صغير جداً من هؤلاء يواصلون الابداع الحقيقي. اذا كان لا بد من ذكر أسماء من شعراء الثمانينات منحت شعرنا الراهن دفقات جديدة ورائعة، فأود أن اذكر حسب رأي شخصي خاص بي الشعراء محمد مظلوم وباسم المرعبي ومحمد النصار وصلاح حسن وأحمد عبد الحسين وطالب عبد العزيز وناصر مؤنس وأرجو هنا أن لا يعتبر ترتيب هذه الأسماء حسب الأفضلية. كل شاعر من هؤلاء له ابداعه وتجاربه وميزاته الجديدة والخاصة التي تميزه عن الآخرين.
* هناك تغلغل عميق في الارث العربي لمفهوم العشق داخل مجموعتك الأخيرة { فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية } هل تحاول تمرير شفرات تعتمد الثقافة العربية مرجعاً لك؟
- أنا شاعر عربي ولا يمكنني الاّ أن أنطلق من إرثي وهو إرث كبير وعميق على صعيد الابداع والتجربة الانسانية. مفهوم العشق كما يبدو في مجموعتي الأخيرة ينطلق من العشق العربي وهو عشق خائب فيه ألم وحسرة شعرية مستمرة. طبعاً سيكون من المستحيل أن أمرر شفرات تعتمد الثقافة العربية فقط كمرجعيات معرفية في نصوصي. لأنني الآن غير منقطع عن الثقافة الانسانية كلها.
* هل يمكن الحديث عن العشق خارج لغة الجسد أم أن العشق هو الطبيعة بمفهومها المطلق؟
- لا يمكن الحديث عن عشق خارج الجسد. كان الشاعر العربي العذري حسب ما يقول هادي العلوي لا يحب حبيبته ككيان انساني له جسد ورغبات محمومة. انه يحب الحب فقط. في حبي الخائب والعاثر لانخيدوانا سعيت دائماً الى خلق علاقة حميمة مع الحب كمطلق من خلال منظور شعري. ربما هي محاولة تعويض شيء مفقود وعصي. لقد تغيرت الان مفاهيم العشق كلها وأصبح امتلاك المحبوب سواء كان رجلاً أو امرأة يجري بطريقة أكثر سهولة. لكن من جهة أخرى وهنا أود أن أوضح الطريقة المختلفة في العشق خارج نطاق الثقافة والعالم العربي. تتعرف على فتاة ما أو هي تتعرف عليك في مكان معين وربما تذهبان الى السرير بعد احتساء فنجان قهوة أو وجبة طعام. تتكرر اللقاءات أو تعيشان معاً ثم يأتي الحب بعد شهر أو أكثر أو تتركها وتتركك. ليست هناك طريقة معينة في الحب. في حالتنا العربية تبدو المسألة مرضية وبحاجة الى علاج نفسي طويل.
* لغتك متعالية في المجموعة الأخيرة. الى أي مدى تربط المعرفة بالنص الحديث؟
- ما يرّسخ النمطية والتفاهات والغثيان في الشعرية العربية الآن، هو الاصرار الدائم على كتابة الشعارات والانشاء والتداعيات الفارغة من أي جوهر معرفي أو شعوري. لا أعتقد أن لغتي متعالية في مجموعتي الأخيرة. كيف يمكنني التعبير عن محنة الانسان في متاهة العالم ووحشته، ومسائل ما وراء الوجود أو الزمان أو التحول والصيرورة في الطبيعة وفي الأشياء من خلال لغة انشائية تخلو من الأفكار والأحاسيس؟ ما يعوز شعرنا العربي الآن هو الأفكار العميقة. تمت وتتم الآن التغطية على مشروعات وتجارب شعرية كبرى في الشعر العربي من أجل ترسيخ الجماهيري والآيديولوجي وتلبية احتياجات القطيع عبر مفاهيم سياسية واجتماعية واعلامية بعيدة عن جوهر الشعر. يظهر النقد المتهافت تجارب شعرية هزيلة لأسماء طنّانة تتغنى بمشروعات التحرير ووحدة الأمة العربية وقضية فلسطين، ويحجب هذا النقد ووسائل الاعلام المتهافتة مثله التجارب الكبيرة والحقيقية لشعراء من أمثال خليل حاوي وتوفيق صايغ وشوقي أبي شقرا وبلند الحيدري وسواهم. كل نص شعري يخلو من المعرفة لا يستحق القراءة. كيف يمكننا قراءة قصيدة لا تقدم لنا سوى لعثمات وتأوهات تافهة وفارغة للشاعر الذي يكتبها؟ أعتقد أن الثقافة المتجددة وتجاربها المستمرة مع المعرفة ضرورية جداً لاعطاء النص بعده الابداعي العميق.
* هل نستطيع الحديث عن خطاب انثوي أو ذكوري والى أي مدى يمكن أن يتحقق ذلك؟
- لا يمكننا الحديث أبداً عن خطاب انثوي أو ذكوري في الابداع. المناسبة الدائمة التي يتكرر فيها هذا الحديث عندنا نحن العرب، عن الفصل بين الخطاب الانثوي والخطاب الذكوري في الكتابة هو أن المرأة عندنا تخلق لغتها المتخلفة والقاصرة عن لغة الرجل بسبب الثقافة الذكورية المنحطة السائدة والمفاهيم والعادات والأخلاق. تقرأ لشاعرات من أمثال ايديث سودغران وكارين بويا وسوزانا روكسمان وبوديل مالمستين وكارين لينتز من السويد، وآنّا اخماتوفا وآنّا أحمدولينا ومارينا تسفيتايفا من روسيا، وسيلفيا بلاث واليزابيث باريت براوننغ واميلي ديكنسون واميلي برونتي وسواهن في اللغة الانكليزية، ولا تشعر بمفاهيم خاصة في الخطاب الابداعي تفصل كتابة المرأة عن كتابة الرجل. وهنا أود أن أشيد بمحاولة الشاعرة الكوردية السورية خلات أحمد في مجموعتها المهمة {أوشحة الفجر / الترياق} حيث كتبت مجموعتها هذه بصيغة جمالية وشعرية عالية وهي تعالج موضوعات عالجتها الشاعرة الاغريقية سافو بجرأة ولطافة. الشعر الذي تكتبه المرأة العربية متخلف جداً. اذا استثنينا تهويمات نازك الملائكة وفلسطينيات فدوى طوقان وجرأة سنية صالح وصباح زوين خراط وجمانة حداد وامل الجبوري ومنى كريم وسعدية مفرح ودنيا ميخائيل {استثني هنا الشعر الذي كتبته شاعرات عربيات بلغات أخرى}. لا أعتقد اننا سنعثر على ابداع حقيقي في الشعر النسوي العربي الآن. قد يبدو رأيي هذا متطرفاً لكنني شديد الاقتناع فيه. نعرف أن الشعر الذي تكتبه النساء العربيات تدور أغلب موضوعاته حول العلاقة الوهمية والمأزومة مع الرجل دائماً. تصفح الآن أي مجموعة شعرية لشاعرة عربية فستجد أن أغلب موضوعاتها هي العلاقة اللامتكافئة في الجنس والحب مع الرجل. أود أن أقرأ لشاعرة عربية ابداع يتحدث عن معاناتها الوجودية وعن القلق الذي تشعر فيه من الموت والحياة أو عن موضوعات الزمن والطبيعة والمعرفة، وأعتقد انك لو تسأل الآن الشاعرة لميعة عباس عمارة التي زاملت بدر شاكر السياب في سنوات الدراسة عن آخر قصيدة كتبتها، فستجيبك انها قصيدة غزل.
* الجملة الشعرية لديك طويلة وغير منقطعة وتبدو للوهلة الأولى لغة مقعرة، وهو تحول كبير لم نشهده عندك من قبل.
- الرهان الدائم عندي حول المران الطويل في الكتابة هو الذي يجعلني أواصل المغامرة والتجريب من أجل خلق لغة وكلمات وأنساق خطابية جديدة للقصيدة التي اكتبها عبر الصراع الطويل مع اللغة وانزياحاتها وبلاغتها. ما عادت الطريقة الغنائية الآن في النص الشعري تلبي الحاجات النفسية والشعورية للشاعر. لا يمكنني أن أكتب جملة من سطرين أو أكثر وأنا أحاول التعبير عن محنتي الدائمة من زوال الأشياء في العالم، أو استحالة وجود الانسان على الأرض كما يقول هايدغر. أنا أعيش حيرة كبيرة ووعي مدمر في التحولات وصيرورة الانسان والعالم والزمن والطبيعة. عندما صدرت مجموعتي {أرض خضراء مثل أبواب السنة} عام 1996 كتب عنها الشاعر خيري منصور في صحيفة { الدستور } الأردنية أن لغتها محتدمة. أنجزت بعدها 4 مجموعات وواصلت التصعيد والاحتدام عبر التجريب الدائم لأن المشاكل التي واجهتني في الحياة وتجاربها تطلبت مني أن أغيّر في كل حين طرائقي الكتابية وقاموسي اللغوي والانساق الخطابية في النص.
* هل كان للعزلة دور في انتاج هذه اللغة أم هي مشكلات وعي جديدة؟
-الاثنان معاً، لكن ربما يكون العامل الأول أقل شأناً وسأوضحه الآن. بعد نهاية دوام المدرسة اليومي أعود الى البيت وأبقى الى اليوم التالي مع القراءة والكتابة والموسيقى والتأمل وحيداً { قبل تعرفي الى شبكة الانترنت }. أحياناً التقي صديق أو أكثر أثناء النزهات المسائية لمدة معينة وأعود من حيث أتيت. في المدرسة أثار انتباهي ذلك الحديث السريع والجمل الطويلة التي لا تنقطع في كلام الناس الذين يعيشون مثلي بمفردهم. اكتشفت أن العزلة تجعلني أتكلم كثيراً جداً حين التقي الناس في الخارج للتعويض عن ساعات الصمت الطويلة في البيت، وبما انني كنت معجباً في الشاعر الأمريكي آلن غينسبرغ وحاولت في الماضي أن تكون جملتي الشعرية طويلة كما هي عنده، فقد استثمرت هذه الحالة الغريبة وواصلت المران الدائم في الكتابة حتى تجلت أخيراً في مجموعاتي الجديدة. الوعي الشعري الذي يتطور باستمرار عبر التجارب والأحاسيس المختلفة، كان له الدور الأساسي في انتاج هذه اللغة التي أستخدمها الآن من دون قصدية.
التعليقات