تعطلت لغة الرسائل الرومنسية القديمة، وانحسرت أماكن لقاءات العشاق في المدن العراقية، فحلّت المشاعر الرقمية والتواصل بالرسائل القصيرة، لتزيد العواطف الانسانية جفافًا.


بغداد:تعدّدت وسائط التواصل الحديثة التي يمكن أن يتوسّلها العشاق العراقيون لتبادل الأشواق ولوعات الحب، لكنّ أماكن اللقاءات التقليدية استعادت عافيتها تدريجًا مع استتباب الأمن، لكنّها تستدعي توخي الحذر بسبب الطبيعة المحفزة للمجتمع العراقي المحافظ. من هذه الأماكن، كانت الحدائق والكازينوهات والكافيتريات مثالية للقاءات الحب على مدى عقود، لكنها شهدت انحسارًا بسبب الحروب التي مر بها العراق.
يتوافق العراقيون، شيبًا وشبانًا، على أن أيام الرومنسية التقليدية ولّت إلى غير رجعة، بسبب تقنيات التواصل الحديثة ووتيرة العصر المتسارعة التي لم تترك وقتًا للبوح بالمشاعر على الطريقة التقليدية القديمة. ويعترف أحمد حسين، الطالب الجامعي في جامعة كربلاء، أنه دائم التواصل مع حبيبته عبر موقع فايسبوك وعبر الهاتف الجوال، مؤكدًا أن التقنيات الحديثة وفّرت على العشاق جهد اللقاء المباشر وأمّنت لهم تواصلًا بلا انفصال.
يستطيع حسين، بحسب زعمه، مواعدة حبيبته في أي وقت وفي أي مكان، لكنّ اللقاء الالكتروني هو الغالب، إذ يتم اللقاء المباشر مرة واحدة كل أسبوعين، في شارع مزدحم أو في كافيتريا، مع ما يرافق ذلك من مضايقات إجتماعية.
مشاعر رقمية
تعرّف رعد حسين بفتاة عبر quot;الماسينجرquot;، يحادثها يوميًا عبر الانترنت، لكنه لم يلتق بها سوى مرتين فقط، وهو يعرفها منذ شهرين. يعترف حسين أن الوسيلة الأفضل للتواصل مع حبيبته هي الهاتف الجوال، على أن تتم الاتصال في أوقات محددة مسبقًا، quot;وهذا ما يطفئ نار الفراقquot;، كما يقول. ويضيف: quot;لقاءاتنا المباشرة تتمّ في المناسبات، في إحدى الحدائق العامة أثناء ازدحامها بالناسquot;.
ومع انتشار المشاعر الرقمية، انحسرت الكلمة المكتوبة أيضًا، وتعطّلت لغة الرسائل الغرامية، إلا في ما ندر.
يقول جاسم حسن، صاحب متجر للقرطاسية أنشأه منذ 30 عامًا: quot;صارت بطاقات الحب التي تزينها الزهور والقلوب الحمراء سلعةً بائرة، لم يعد يقبل عليها العشاق، فبدلًا من أن يشتري الشاب بطاقةً، يفضل شراء بطاقة لهاتف الجوال، يشحن بها رصيده، ليتصل بحبيبته، أو الجلوس لساعة من الزمن في إحدى مقاهي الانترنت ليحادثها عبر أحد برامح المحادثةquot;. ويرى الباحث الاجتماعي أن ما سبق دليل واضح على اختلاف وسائل التواصل والتعبير عما كانت عليه، وتحوّلها رقمية خالصة.
الهاتف الجوال
يعترف الجامعي مراد حسن بأن خدمة الرسائل القصيرة التي يوفّرها الهاتف الجوال هي وسيلته المثلى للتواصل مع حبيبته التي تعرف عليها في الجامعة ويستعدان للزواج بعد التخرج.
في هذا السياق، يتذكر الحاج السبعيني أبو أيمن الثورة الاجتماعية التي أحدثها الهاتف السلكي وقتها ثورة وسائل اتصال العشاق، وهو يرى أن التقنيات الحديثة أحدثت اليوم ثورة أعمق وأشمل. لكن ثم إحساس بتبدّل طبيعة المشاعر بين أفراد الجيل الجديد، إذ quot;كانت في الماضي صادقة ومشحونة بالعاطفة الجياشةquot;. ويتابع: quot;كنت أكتب وأقرأ رسائل ساخنة، وقصائد فيها لوعة. أما اليوم، يكتفي الشاب برسالة نصية قصيرة، كلمتها مختصرة، توفيرًا للمال وكسبًا للوقت، فتأتي بلا عاطفةquot;.
ويقول المدرّس شامل العتبي إن علاقات الحب في الماضي quot;كانت أكثر صدقًا، وغالبًا ما تنتهي بالزواج، أما اليوم فهي علاقات زائفة لقضاء الوقت وتبديد اللذائذquot;.
مجتمع محافظ
لم تعد لقاءات الأحبة محصورة في الأسواق المكتظة بالناس، أو في الحدائق العامة، بل تطورت إلى لقاءات في الكازينوهات والكافيتريات الحديثة، وفي الجامعات والمراكز الاجتماعية والرياضية، خصوصًا في بغداد ومراكز المدن الرئيسية. لكنّ العشاق يتجنبون الإفراط في اللقاءات، تجنبًا لأية مضايقات تفرضها الطبيعة المحافظة للمجتمع. وهذا ما يرجّح كفّة وسائل التواصل الحديثة.
يقول حليم كامل، المتزوج من امرأة أحبها طيلة ثلاث سنوات، إن طبيعة المنطقة العشائرية في مدينة الديوانية حيث يعيش، تفرض على العشاق الاحتراس في لقاءاتهم. ويتابع: quot;يعرف سكان المدن الصغيرة بعضهم بعضًا، ما حتّم على العشاق اختصار لقاءاتهم والاسراع فيها، إذ يخيم عليها جو من الخوف والرهبةquot;.
والهاتف الجوال، كوسيلة تواصل بين العشاق، ليس محصورًا في المدن. يقول كامل إنه مستخدَم لهذه الغاية في القرى والأرياف أيضًا، حيث يعبّر العاشق بإرسال نغمة أو مقطع من أغنية لمحبوبته.
بالرغم من كل ما سبق، لا يجد كامل بديلًا للقاء الحبيب، وجهًا لوجه، إذ لا يُعادله مليون لقاء عبر الانترنت أو رسالة عبر الجوال. ويوافقه أحمد أمين، الجامعي في سنته الأخيرة، إذ يقول إنه يجري مئات المحادثات الرقمية وعبر الجوال مع حبيبته، quot;إلا أن اللقاء الحي معها يبقى الأرسخ في الذاكرة، ويمنح الأماكن خصوصيتها لانها تكون مليئة بالذكريات الجميلةquot;.
شارع أبو نؤاس
في معظم مدن العراق، ثمة أماكن خاصة معروفة باحتضانها للعشاق، وهي أماكن تاريخية تحمي قصص الحب في كل مدينة. ففي مدينة الحلة مثلًا، شكّلت آثار بابل وحدائقها أماكن مثالية للقاءات العاطفية طيلة عقود، كما كورنيش المدينة على طول نهر الحلة المتفرع من نهر الفرات، حيث تنتشر المطاعم والاستراحات.
أما في بغداد، فيجتمع الأحبة في الحدائق العامة كالزوراء وكورنيش الأعظمية، بعيدًا عن عيون الناس والرقباء.
ذاع صيت شارع أبو نؤاس لعقود بفضل احتفائه بالعشاق على شاطئه الجميل، حيث تمتد ممرات يقصدها العاشقون في لقاءاتهم.
يقول أحمد سالم (65 عامًا) إنه كان يضطر للسفر إلى بغداد في سبعينيات القرن الماضي، قاصدًا شارع أبو نؤاس ليلتقي حبيبته، وهي زوجته اليوم، بسبب الطبيعة المحافظة لمدينته الديوانية.
لكنّ المدرس أبو نمير، الذي عاصر شارع أبو نؤاس طيلة عقود، يقول إن الشارع لم يشهد الا قصص الحب العفيفة والبريئة. وفي أحيان نادرة جدًا، تحوّل مكانًا للهو والصخب وانعدام البراءة.
يروي الشاب أيمن حسن طريقة اخرى للقاءات العشق، وذلك في السيارات الحديثة المظللة والمجهزة بالتبريد، لكنه يعترف أن الكثير من الفتيات يتجنبن هذه الطريقة بالمواعدة. بينما يتذكر الحاج أبو قيس الحافلات الحمراء في بغداد، والتي كانت أحد الأمكنة المثالية للقاء الأحبّة. ويتابع: quot;كنت ألتقي فنانةً أحببتها في الحافلة الحمراء، حيث تلتقي العيون وتتشابك الأيدي، لكن بحذر شديدquot;.