يبدو أن صورة جسم الإنسان في وعيه تختلف عن صورته الحقيقية أو صورته أمام المرآة، وهذه عقبة "دماغية" جديدة تعرقل أساليب تقليل نسب البدانة في العالم.
ماجد الخطيب: في علم البصريات، تتكوّن للإنسان صورة خيالية مكبرة ومقلوبة عندما يقف خارج بؤرة عدسة محدبة، ويبدو أن هذا تقريبًا ما يحدث للإنسان عندما يقف أمام المرآة. إذ يكوّن الدماغ، أو الوعي الباطني، صورةً زائفة عن شكل الجسم، رغم أنه يقف أمام مرآة اعتيادية. هل يكوّن الإنسان لنفسه صورة زائفة عن شكله يرضى بها، أو أن عوامل اخرى نفسية وانزيمية وجسدية تسبب ذلك؟
صورة زائفة
هذا ما حاول العلماء الألمان معرفته من خلال تجاربهم على النساء طالما أن نسبة البدانة بينهن هي أعلى منها بين الرجال على المستوى العالمي. عدا عن ذلك، تفضل النساء، كما هو معروف، أخذ صورة مقبولة عن أشكالهن وهن يقضين ما يكفي من الوقت أمام المرآة، علمًا أن بعضهن يملن إلى رؤية أنفسهن أكثر بدانة كي يبررن تعذيب النفس بالحميات التي لا ترحم، والتي تؤدي أحيانًا إلى الموت بالقهم العصبي، في حين تميل نسوة أخريات لرؤية أنفسهن في المرآة أكثر رشاقة، ويبررن بالتالي لأنفسهن التهام المزيد من الشوكولاتة والمشروبات الغازية والوجبات الجاهزة المشحونة بالسعرات.
درس علماء معهد ماكس بلانك الألماني مسألة وعي الإنسان بوزنه وشكله، وتأثير الثياب والألوان على ذلك، وتوصلوا إلى أن الإنسان لا يكون عادة صورة حقيقية عن نفسه. قد يرى نفسه غليظًا أو نحيفًا، وقد يرفض ثيابًا معينة، أو لونًا معينًا، تحقيقًا لصورة كونها عن نفسه وتقبع راضية في أعماق دماغه أو عقله الباطني.
المشكلة هي أن الخلل في وعي الوزن أو الشكل الحقيقي للجسم لا يقتصر على شديد البدانة أو شديد النحافة، أو على المرضى النفسيين أو المعانين من اضطراب التغذية، لأن العلماء توصلوا إلى أن الرشيقين الأصحاء يكوّنون ذات الصورة الزائفة.
صورة مجسّمة
استخدمت التجارب العلمية السابقة، التي أجريت للكشف عن مدى وعي الإنسان بصورته، صورًا تخطيطية أو صورًا من ملفات المصورين، لجعل المتطوعين في التجربة يقارنون أجسادهم بها. ويعتقد علماء معهد ماكس بانك أن هذه الطريقة لا تعكس صورة حقيقية بدورها، لانها لا تراعي توزيع الشحم في الجسم ولا القياسات المختلفة مثل الطول والعرض وطول الساقين...إلخ. لذلك، صنعوا صورًا حقيقية ومجسمة لأجساد المتطوعات من أجل المقارنة.
وكي لا يتركوا أي مجال للشك، استخدم الباحثون نظامًا للتصوير المجسم يأخذ&في الاعتبار حركة كل امرأة على حدة، وتم دمج هذ الحركة في الصورة بذات الطريقة التي يجري فيها تحريك الديناصورات في أفلام الخيال العلمي. وتم تطوير هذا النظام من قبل الدكتور ميكائيل بلاك، رئيس المعهد، بالتعاون مع شركة 3dMD الاميركية.
استخدم التقنيون 22 كاميرا و22 كاميرا ملونة تلتقط الصور بمعدل 60 صورة مجسمة في الثانية، لتصوير كل امرأة، كي يتمكنوا من صناعة صورتها المجسمة "افاتار" والتحكم بمقاييسها.
ميل للرشاقة
استخدمت ايفلينا بيرانكوفا، من معهد ماكس بلانك، متطوعات من أعمار 20 إلى 40 سنة، ومن مختلف الأوزان والأشكال، كي تتعرف على مدى وعيهن بأجسادهن. وتولى قسم الأنظمة الادراكية في المعهد تجسيد الصور الثلاثية الابعاد كما تصورها المرايا عن الإنسان.
تم أخذ قياسات النساء الحقيقية ومؤشر الجسد - الكتلة قبل بدء التجربة، ثم عرضت عليهن صورهن المجسمة فقلن جميعًا إنهن ارشق من الصورة المعروضة عنهن. ثم غيرت العالمة القياسات قليلًا وغيرت معها ألوان الملابس، فاختارت النساء لهن صورة أرشق من أجسادهن، وحصل ذات الشيء حينما عرضت عليهم صور تظهرهن ارشق من حقيقتهن. أي كن يخترن الصورة الرشيقة دائمًا، وهي، كما يبدو، صور ثابتة في وعيهن.
وذكرت بيرانكوفا أن التجربة أثبتت أن وعي النساء بأوزانهن جيد وكن يخترن وزنهن الحقيقي على الدوام، لكنهن كن يخترن صورة أرشق عن أجسادهن لا تتناسب مع هذه الأوزان. بل انهن لم يخترن الأشكال التي تتناسب مع أعمارهن، مع انها كانت مقبولة، وكن يملن دائمًا لاختيار الصورة المتمناة عن أجسادهن المطبوعة في وعيهن.
وعي الجسد
بعد هذه التجربة، تبدأ بيرانكوفا رحلة طويلة للكشف عن أفضل سبل لتوعية الناس بأشكالهم الحقيقية، وهذا لا يتوقف عند البدناء فحسب، لأن المشكلة تمس شديدي النحافة أيضًا، وكذلك المعانين من حالة تجويع النفس (القهم) ومن متلازمة قسر النفس على تقيؤ الطعام حد الموت (القهم العصبي)، ومن اضطراب التغذية عمومًا.
تثبت الدراسات النفسية-الجسدية على المعانين من القهم العصبي انهم لا يعانون من اضطراب التغذية فقط وإنما من اضطراب في "وعي الجسد" أيضًا. وحينما يقفون عراة أمام المرآة لا يشاهدون العظام والعضلات والجلد وإنما يشاهدون الشحم فقط مهما كان قليلًا.
ويلعب الشعور بالسيطرة على النفس وعلى الجسد دورًا هامًا في نشوء الحالة عند الرجال والنساء على حد سواء. فتجويع النفس يجعل الشباب لأول مرة يشعرون بالانتصار على أجسادهم التي صارت تنمو دون إرادتهم في مرحلة المراهقة. ويخشون لهذا السبب أن يسمنوا قليلًا، لأن ذلك يشعرهم بخروج الجسد مجددًا عن سيطرتهم.
وتمهد صور "افاتار البدانة" المجسمة، التي طورها المعهد، الطريق أمام دراسات جديدة حول علاقة الوعي بالجسد والأسباب العقلية وراء القهم العصبي ومحاولة علاجه. كما سيتم تطوير طريقة التصوير المجسمة الابعاد واضافة بعد رابع يتعلق بالنشاط والحركة. وتحدثت بيرانكوفا عن تفاقم مشكلة القهم العصبي بين النساء وانتقالها إلى الرجال الألمان أيضًا.
قهم رجالي
استشهدت الباحثة باحصائية نشرتها وزارة الصحة في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا الألمانية، التي يسكنها نحو 20 مليون شخص، وتتحدث عن نحو 100 ألف مريض يعانون "القهم"، أي الفقدان الارادي للشهية إلى الطعام. يضاف اليهم 300 ألف يعانون من هوس تجويع النفس عن طريق التقيؤ (القهم العصبي).
والمقلق في الاحصائية أن 10 في المئة من المعانين من هذين المرضين تنتهي حياتهم بعد أن يفقدوا السيطرة على الغذاء. وغالبية المصابين هم من النساء، ومن الفتيات الصغيرات أساسًا، ممن تستهويهن رشاقة "المانيكان".
وكان القهم العصابي حتى الآن، أي قبل انتشار هوس النحافة واللياقة البدنية، مرضًا نسائيًا يصيب النساء بنسبة 95%، لكن الباحثة الألمانية قدّرت أن عدد الرجال المصابين بالقهم العصابي قد تضاعف ثلاث مرات منذ عام 1988.
التعليقات