تحدث أكثر من عالم مختص في سيكولوجيا الانتحار إلى مجلة "الطبيب الألماني" عن احتمال سوء سلوك الطيار الانتحاري أندرياس لوبيتس بسبب العقاقير التي يتعاطاها.
ماجد الخطيب: أثارت سلسلة الأفلام الارجنتينية "وايلد تيلز" اعجاب الكثيرين ممن شاهدوها في ألمانيا وأوروبا بسبب غرابتها، وبفعل العوامل النفسية الإنسانية التي تنطوي عليها. في إحدى هذه الحلقات، يدعو طيار مريض، مستخدمًا اسمًا سريًا، كل المقربين منه الذي يعتقد أنهم تسببوا بمرضه، إلى رحلة على متن طائرة، ويقودها ثم يغلق كابينة الطيار، ويقود الجميع إلى حتفهم في عملية انتحار مبرمجة.
حكاية متوحشة
لا دليل حتى الآن على أن لوبيتس اقتبس الفكرة بعد أن شاهد هذه الحلقة من "حكايات متوحشة"، لكن العالم النفساني مارتن غروترز لا يستبعد أن يكون الطيار الانتحاري حقق انتقامه من العالم ومن المجتمع حين ارتكب جريمته المسماة في الصحافة الألمانية بعنوان: "انتحار واحد و149 جريمة قتل".
ويعزز غروترز نظرية الانتحار الانتقامي بحقيقة أن لوبيتس نال من طبيبه النفسي تقرير إحالته إلى مستشفى الأمراض العقلية قبل أيام من ارتكابه مجزرة الألب. ولم يكن هذا التقرير يعني غير نهاية حلم الطيران، ونهاية عمله كطيار، وربما نهاية علاقاته الاجتماعية والغرامية.
مزق لوبيتس التقرير في البيت، أخفى اجازته المرضية، وعزم على تنفيذ فعلته الرهيبة في أقرب فرصة للطيران.
وغروترز واحد من الأطباء النفسيين، المتخصصين في حالات الانتحار، الذين تحدثوا إلى مجلة "الطبيب الألماني"، لسان حال نقابة الأطباء الألمان، عن تحليلاتهم للأسباب التي دفعت الشاب (27 سنة) إلى فعلته.
يموتون بمفردهم
البروفيسور مانفريد فولفرسدورف، رئيس عيادة الأمراض النفسية والعقلية في مدينة بايرويت، أيد زميله غروترز في نطرية الانتقام من المجتمع ككل. لكنه يرى أن المكتئبين ينتحرون عادة بمفردهم ولا يجرون هذا العدد الكبير من الأبرياء إلى الموت معهم. وربما تقتل الأم المكتئبة طفلها عند انتحارها لأنها لا تشعر بالإطمئنان إلى بقائه دونها، وربما بهدف حمايته من هذا العالم الشرير، لكن العكس لايحدث.
وركاب طائرة جيرمان وينغز كانوا أغرابًا بالنسبة لوبيتس. ولهذا، يمكننا الحديث هنا عن الجانب العدواني من الانتحار، وفرض خيار المنتحر على الآخرين، والانتقام من الجميع بغض النظر عن أعمارهم وجنسهم. يقول لنفسه النرجسية: "العالم لا يحبني، لا أحد يريدني، ولا أحد يحترمني، ولهذا لا أحد منهم يستحق الحياة". هنا كانت "قطرة" واحدة، بحسب الباحث، تكفي لملء برميل المكتئب حد الطوفان، وربما تكفي اشارة سيئة من زميل، أو مزحة بائخة من آخر كي تسقط هذه القطرة.
ويرجح فولفرسدورف أن يكون الطيار الانتحاري يتعاطي عقار "كريستال ميث" المخدر الشائع الآن بين الشباب وبين المعانين من حالات الاكتئاب. إن جرعة زائدة من هذا العقار، بالإضافة إلى أدوية معالجة الاكتئاب التي يتعاطاها، تولد اضطرابًا عقليًا حادًا، كما تجعل المتعاطي يعاني من وهم الملاحقة والخوف من القتل على يد أحدهم، وحينها نرى المريض يغلق الباب على نفسه، كما فعل لوبيتس، وتنتابه بعدها الرغبة بالانتحار أو ربما القتل.
الطائر أم البندورة؟
كان لوبيتس يميل منذ طفولته لتسمية نفسه بـ"أندي الطائر" تعبيرًا عن حبه للطيران ورغبته الجارفة بالتحول إلى طيار. وأصبح أندي طيارًا، لكنه لم ينل من زملائه غير لقب "أندي البندورة" بسبب قلة ساعات طيرانه، وبسبب طيرانه الدائم كمساعد طيار. وهنا عمق الشعور بأنه مظلوم شخصيًا مهنيًا من كآبته، بحسب رأي الدكتور فولفارم دورمان رئيس قسم الأمراض العقلية في عيادة مدينة فورت.
وقال دورمان لمجلة "الطبيب الألماني" أن فكرة الانتحار تراود مثل هذه الشخصيات لسنوات طويلة، لكن القرار بالتنفيذ، في نصف الحالات في الأقل، لا يتخذونه إلا في الساعة الأخيرة التي تسبق الانتحار.
وربما يفسر هذا القرار المتأخر (الانتحار) سبب عدم مبالاته بحياة الآخرين، لأن الرغبة بالانتحار تغلبت على كل مشاعره الأخرى. إلا أن عملية انتحار تستمر 8 دقائق تعبر عن اصرار وقتل عمد لتفسرها الرغبة الآنية بالانتحار، وربما كان لوبيتس تحت تأثير المخدرات، أو العقاقير التي يتعاطاها بسبب وضعه النفسي.
دور العقاقير
يعتبر دورمان من أهم علماء النفس في قضايا الانتحار، وهو مؤلف كتاب "الانتحار" الذي يدرس في بعض كليات الطب الألمانية، وفي أقسام علم النفس والأمراض العقلية. ويشير دورمان بأصبع الاتهام إلى العقاقير التي توصف لمعالجة الاكتئاب مثل كابحات القلق وعقار ايزوتريتورين أو بداية العلاج بعقار ايروتونين. فهذه العقاقير تؤثر في عملية الاستقلاب في الدماغ ومعروف عنها أنا تطمئن مخاوف وقلق المريض إلى حد الاستهانة بالموت أحيانًا، كما معروف عنها أنها قد تعزز أو تولد الرغبة بالانتحار عند البعض.
وغالبًا ما يتعزز السلوك الانتحاري عند مثل هؤلاء المرضي بارتفاع حالة الـ"أنا" وطغيانها على كافة المشاعر الأخرى. وهذا يفسر أيضًا استهانتهم بحياة الآخرين، وخصوصًا حينما يمرون بحالة يأس تام.
يكشف التحقيق الرسمي أيضًا أن لوبيتس لم يكن يزور طبيبًا نفسيًا محددًا، وإنما كان يزور عدة أطباء. وكان هذا تصرفًا ذكيًا منه الغرض منه طمس الحقائق وتجنب الإحالة إلى المستشفيات، لكن تعدد الأطباء لايعني غير تعدد الأدوية والعقاقير، لأن كل طبيب يتعامل مع شركة أدوية محددة ويصف الأدوية حسب خبرته. ومعروف عن العقاقير المستخدمة في الأمراض العقلية انها خطيرة وان اختلاطاتها أخطر، وان بعض مضاعفاتها شديد الخطورة.
اليوم السابق!
تكشف خبرة دورمان بأن معظم الانتحاريين من هذا النوع، الواقعين تحت تأثير العقاقير، هو انهم ينفذون فعلتهم بعد فترة قصيرة من آخر زيارة لهم للطبيب النفسي. وهذا بالضبط ما حصل مع لوبيتس لأنه كان لدى الطبيب النفسي قبل يوم من عملية الانتحار، ومنحه الطبيب اجازة مرضية، كما يبدو بعد أن شخص دقة وضع النفسي، لكنه تجاهل الإجازة. وكان من الواضح أن منحه الاجازة على أساس معاناته من حالة اكتئاب شديدة ستدفع إدارة شركة "جيرمان وينغز" لارساله إلى الفحص الطبي، وعرف لوبيتس أن هذا لا يعني غير نهاية مهنته كطيار.
ويضيف دورمان أن الراغبين بالانتحار، وخصوصًا من الرجال، يعانون من حالة انفعال غريبة، ومن أرق شديد تسبق الانتحار بأيام. وهذا يدفعهم لزيارة الطبيب النفساني الذي يوصف لهم العقاقير المزيلة للقلق والاضطراب، وهي العقاقير التي تطمئن بعض المرضى إلى حد الاستهانة بالموت.
درجة محدودة
تبقى كلمة أخيرة حول أهمية الكشف عن الأمراض النفسية لدى الطيارين. إذ ترسل لوفتهانزا، وشركتها الفرعية "جيرمان وينغز"، الطياريين بشكل منتظم إلى أطباء متخصصين يعملون في وكالة الفضاء الألمانية لاجراء فحص الكفاءة الجسدية والنفسية، وهذا ما حصل مع لوبيتس أيضًا. ورغم كفاءة هؤلاء الأطباء إلا أنه لا أحد منهم متخصص بالأمراض النفسية والعقلية، بحسب رأي مارتن غروترز.
كما انه من الضروري عند الفحص الانتباه إلى حالات الانفعال والنرفزة والأرق لأنها مؤشرات على الأمراض النفسية. ولا يجب على الطبيب أن ينسى أن للأمراض النفسية والعقلية انعكاسات جسدية، ولا أن يتجاهل التاريخ الشخصي للطيار، وما إذا كان مؤخرا قد فقد عزيزًا أم لا.
ولايبدو أن حالة لوبيتس فاتت على أطباء وكالة الفضاء الألمانية رغم انهم غير مختصين في علم النفس والأمراض العقلية. ونال الطيار الانتحاري إجازة الطيران بعد أن أدى الفحص عام 2009، ومع اشارة (SIC) التي توصي بدرجة طيران محدودة وبضرورة اخضاعه إلى اختبار خاص، والاتصال مع الشركة التي يعمل بها. ولما أعاد الطيار الفحص في تموز (يوليو) 2014 نال اجازة الطيران المحدودة مع اشارة& SICالتي ثبتت في رخصة الطيران التي يحملها.
التعليقات