لإيران دور مهم اليوم في العراق، لا يمكن نكرانه، خصوصًا أن طهران وواشنطن في خندق عراقي واحد ضد داعش، في علاقة إشكالية تريد منها إيران كسب النقاط في المفاوضات النووية.
أبرز ما خلصت إليه مؤسسة راند الاميركية للأبحاث في تقريرها عن العراق |
قتال إيران ضد داعش تذكير للعراقيين بأنها اللاعب الأقوى في بلدهم |
عراقيون شيعة يخشون الهيمنة الايرانية على العراق |
إيران تتحمل قسطًا من المسؤولية عن صعود داعش |
نفوذ إيران الروحي والديني في العراق ليس قويًا كما تطمح طهران |
العبادي: إيران لم تتردد في المساعدة حين تهددت بغداد بخلاف الاميركيين |
طهران تريد خليفة للسيستاني يدور في فلكها السياسي |
صار قاسم سليماني حامي الحكومة العراقية ووصيًا عليها |
يستعرض المدربون الايرانيين تفوقًا فارسيًا على المقاتلين العرب الشيعة |
الصين ترى في إيران شريكًا جيوسياسيًا وأمنيًا محتملًا بوجه أميركا |
اعتماد العراق على إيران يقوي موقعها التفاوضي النووي |
داعش يقدم فرصًا لإيران أكثر مما يهدد أمنها |
الحرب الأهلية السورية أكبر ضربة تلقاها نفوذ إيران بين السنة |
&عبد الاله مجيد: أثار صعود تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) دعوات إلى تعاون الولايات المتحدة وايران في محاربة التنظيم، لأن للدولتين مصالح مشتركة في العراق حاليًا. فهما تنظران إلى داعش والحركة "الجهادية السنية" عمومًا على انهما تهديد لمصالحهما القومية.
وهناك قوات اميركية وايرانية في العراق تقاتل عدوًا واحدًا، ويبدو أن القوة الجوية الاميركية في السماء تستكمل وجود إيران على الأرض في العراق. وبالتالي، فإن تعاونهما تكتيكيًا جائز رغم اختلافهما على الأهداف بعيدة المدى في العراق، وجملة قضايا أخرى.
ضد نفوذ إيران
نشرت مؤسسة راند الاميركية للأبحاث دراسة تتناول أهداف إيران ونفوذها في العراق على خلفية صعود داعش، وتركز على علاقات إيران بالأحزاب والميليشيات الشيعية العراقية، إلى قضايا أخرى.
فايران، إلى جانب التصدي للخطر الذي يهدد مصالحها ومصالح حلفائها في العراق من خلال تعبئة الميليشيات الشيعية الحليفة في اطار الحشد الشعبي، تريد أن تؤكد أهميتها ونفوذها في الشرق الأوسط عمومًا.
وحملتها ضد داعش تذكير للعراقيين بأن جارتهم الشرقية هي اللاعب الأقوى في بلدهم، أقوى ربما حتى من الولايات المتحدة ومن أي بلد عربي آخر. كما انها رسالة إلى دول المنطقة الأخرى.
تريد إيران تذكير العالم، وخصوصًا قوى كبرى كالصين وروسيا والاتحاد الاوروبي، بأنها لاعب كبير في الحفاظ على الاستقرار الاقليمي. ومن شأن هذا أن يحد من عزلتها الدولية ويمكن ايضًا أن يعزز موقعها في المفاوضات النووية.
ورغم العلاقات الايديولوجية والروحية والتاريخية التي تربط الأحزاب الشيعية العراقية بإيران، فإن الحكومة العراقية ليست نظامًا لاهوتيًا مثل إيران التي يحكمها الملالي باسم ولاية الفقيه. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من العراقيين، بمن فيهم الشيعة، يخشون الهيمنة الايرانية على بلدهم.
ويمكن للنفوذ الايراني في العراق أن يدفع العراقيين، سنة وشيعة، إلى الوقوف بوجه هذا النفوذ. ويعني هذا، بحسب دراسة مؤسسة راند، أن عراقًا موحدًا حتى في ظل حكم شيعي لن يكون بالضرورة تابعًا لايران. لكن السياسة الطائفية السائدة في العراق وانعدام الاستقرار ثم صعود داعش، كل ذلك اسفر عن نفوذ ايراني اوسع في العراق.
أذكت النزاع الطائفي
كان على الحكم الذي جاء به الاميركيون إلى العراق أن يكون حكمًا جامعًا، يمثل سائر مكونات الشعب العراقي. لكن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي انتهج سياسة شيعية صارخة، محولًا القوى الأمنية العراقية إلى حرس شخصي لحمايته.
وبين 2010 و2014 أصبحت القوى الأمنية العراقية شيعية بنسبة 95 في المئة بعدما كانت شيعية بنسبة 55 في المئة، بحسب راند.
كما اتهم القادة السنة المالكي بتمكين جماعات مسلحة، مثل عصائب اهل الحق، من استهداف خصومه، بما في ذلك السماح لعناصرها بارتداء ملابس عسكرية لتمويه نشاطاتها.
كما أن حكومة بغداد فقدت ما كانت تتمتع به من تأييد بين السنة بقمعها احتجاجاتهم السلمية. وبعد ذلك مباشرة، يئس قادة السنة من التفاوض مع المالكي، وتوقفوا عن ذلك.
ولا شك في أن دعم إيران للميليشيات الشيعية، التي كانت تقتل السنة وتقاتل القوات الاميركية في سنوات الاحتلال، أسهم في إذكاء النزاع الطائفي، ممهدًا الطريق لتعاظم الاستياء بين السنة، وصعود داعش لاحقًا.
وقد تعتبر إيران معركتها الحالية ضد داعش دفاعًا مشروعًا عن مصالحها ومصالح حلفائها. لكنها تتحمل قسطًا من المسؤولية عن صعود داعش، وهي الآن تخوض معركة في العراق تديم نفسها بنفسها، من دون أن يكون لدى طهران حل واضح.
واسفر دعم الأحزاب الشيعية عن زيادة نفوذ ايران، لكنه أوجد تهديدًا كبيرًا يمكن أن يشكل تهديدًا دائمًا لمصالحها. فإن موقف السنة العراقيين من إيران ازداد تشددا في حين أن الكثير من شيعة العراق ينظرون بريبة إلى ما تضمره إيران من نيات تجاه بلدهم. وقد يكون موقع إيران قويًا الآن في العراق... لكن إلى متى؟
النفوذ الديني
تقوم الأواصر الدينية بين إيران والعراق بدور مهم في الأمن القومي الايراني. كان مسؤولون أمنيون ايرانيون يرون أن مشاعر الارتباط الديني بين إيران وشيعة العراق يمنع الولايات المتحدة من توجيه ضربات عسكرية إلى ايران، انطلاقًا من الأراضي العراقية. لكن نفوذ إيران الروحي والديني في العراق ليس قويًا كما تطمح، وبالتالي تهدف سياسة إيران إلى ربط الشيعة بفلك الجمهورية الايرانية بعيدًا عن المرجعية الدينية القوية في النجف، وخصوصًا آية الله علي السيستاني الذي يرفض ولاية الفقيه ويدعو إلى تعددية مذهبية في الحكم.
رغم وجود احساس برابطة دينية مشتركة بين شيعة إيران والعراق، فإن العراقيين يتخوفون من نفوذ إيران الديني والسياسي في بلدهم.
وأظهر استطلاع أُجري في العام 2007 أن 62 في المئة من الشيعة العراقيين يعتقدون أن إيران تشجع العنف الطائفي. وفي العام 2010، ابدى 48 في المئة من الشيعة العراقيين رأيًا سلبيًا حول علاقات إيران مع القادة السياسيين العراقيين، مقابل 18 في المئة كان رأيهم ايجابيا.
وتبذل إيران جهودًا كبيرة لتعزيز نفوذها الديني في العراق، بسبب هذه الموقف السلبي منها حتى في اوساط الشيعة، وكذلك بسبب نفوذ السيستاني الذي يقلقها.
لذا تنشط المؤسسات الدينية والشركات الانشائية الايرانية في بناء مدارس دينية ومساجد ومستوصفات في بغداد والنجف وغيرهما من المراكز السكانية الشيعية.
بل إن نفوذ إيران في مدن العراق الدينية بلغ حدا في العام 2009 دفع وزير الداخلية وقتذاك إلى منع استخدام الاشارات الفارسية في مدينة كربلاء.
وفي العام نفسه تظاهر الشيعة العراقيون في شوارع كربلاء احتجاجًا على توقيع الحكومة عقدا بقيمة 100 مليون دولار مع شركة ايرانية لإعادة بناء المدينة المقدسة.
وصاية سياسية
لكن السيستاني، الذي يقف عقبة في طريق المشاريع الايرانية، لا وريث معروف له يخلفه على رأس المرجعية الشيعية في النجف.
ويتوقع باحثون أن تقع النجف تحت تأثير قم حين يرحل، بسبب انعدام الاستقرار والقلق السائد في العراق.
وإذا كانت إيران غير قادرة على اختيار خلف السيستاني فانها قادرة على استخدام نفوذها العسكري والسياسي لتحديد شكل المرجعية الشيعية في العراق، والتأكد من أن يكون خلف السيستاني أكثر تجاوبًا مع المصالح الايرانية، إن لم يكن خاضعًا لها.
وتهدف السياسة الايرانية في الحفاظ على نفوذ طهران إلى ضمان مجيء حكومات تقودها احزاب شيعية في بغداد، مع التوثق من ألا تصبح هذه الحكومات قوية. وبذلك يكون النفوذ الايراني قويًا داخل الحكومة الاتحادية، وبين التنظيمات غير الحكومية التي تتحدى سلطة المركز.
ويمنح انعدام الاستقرار في العراق اليوم فرصة أكبر من ذي قبل لتقوية إيران نفوذها فيه. فالأحزاب الشيعية في الحكم تتطلع إلى إيران كي ترسم لها استراتيجية عسكرية ناجعة، وكي تقدم لها الدعم اللوجستي والتقني، وتمدها بالسلاح والمستشارين على الأرض.
ويعمل دور إيران العسكري المتزايد على تقوية نفوذها السياسي. ولم يعد دور الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني التوسط في النزاعات السياسية بين القادة الشيعة فحسب، بل أصبح أكبر حماة الحكومة العراقية والوصي الرئيسي عليها.
ولا يعني هذا أن العراق سيصبح قريبًا جمهورية اسلامية أخرى، لكنه يمنح إيران فرصة لتصبح القوة السياسية والعسكرية بلا منازع في العراق.
رهن الإشارة
هناك الآن نحو 50 ميليشيا شيعية في العراق، بينها منظمات شكلتها إيران بعد الغزو الاميركي في العام 2003. وبحلول العام 2004، كان فيلق القدس يمد الميليشيات الشيعية بالسلاح مباشرة.
كما تولى فيلق القدس وحزب الله اللبناني تدريب آلاف المسلحين الشيعة من عناصر هذه الميليشيات. ويُدرَّب البعض ليكونوا مدربين لدى عودتهم إلى العراق، ونقل ما تعلموه إلى مسلحين آخرين. ويمتد نطاق الدورات من التدريب الأساسي لمدة 20 يومًا، إلى إعداد المتقدمين لتبؤ مناصب قيادية بتعليمهم المهارات اللازمة.
حضر عناصر الميليشيات الذين يتدربون في المعسكرات الايرانية دورات تثقيف دينية وعقائدية، لتكريس الولاء للجمهورية الاسلامية. ويُلاحَظ أن المتدربين يفضلون مدربي حزب الله على مدربي الحرس الثوري الايراني بسبب اللغة. كما أن المدربين الايرانيين غالبًا ما يستعرضون احساسهم بالتفوق الفارسي على تلاميذهم العرب.
ويتمتع كثير من عناصر الميليشيات الشيعية بخبرة قتالية تفوق خبرات قوى الأمن العراقية، بعد أن أمضوا سنوات في القتال ضد القوات الاميركية في العراق، ودفاعا عن نظام بشار الأسد في سوريا. وهم يطيعون قادتهم الدينيين والعسكريين الذين يتلقون دعمًا من إيران بدرجات متفاوتة.
ويخدم توزع المسلحين الشيعة على هذا العدد الكبير من الميليشيات والتنظيمات مصالح ايران. فهو يجعل من الصعب على أي منها أن تكون قوية بما فيه الكفاية للاستقلال وانهاء تبعيتها لايران التي تمدها بالتمويل والتسليح.
قيادات تطيع طهران
على جبهات القتال، تنضوي الميليشيات الشيعية الصغيرة تحت لواء قيادات كبيرة ومتمرسة مثل هادي العامري قائد منظمة بدر، أكبر ميليشيات الحشد الشعبي.
وتربط العامري علاقة وثيقة بالجنرال سليماني، الأمر الذي يعني أن إيران في الواقع هي صاحبة الكلمة الأخيرة في العمليات العسكرية.
ويبدو أن إيران والعامري شاركا في عملية تحرير تكريت من داعش.
وكثيرًا ما تتحدث تقارير المنظمات الحقوقية عن انتهاكات ترتكبها الميليشيات الشيعية، كأعمال قتل وخطف وتعذيب يذهب ضحيتها سنة عراقيون. وبالتالي، فإن هذه الميليشيات قد تبدو قوة موثوقة في معركة إيران ضد داعش، لكن طبيعتها الطائفية وانتهاكاتها ضد السنة تقدم خدمة ايديولوجية وسياسية إلى العدو، بدفع السنة إلى احضانه هربًا من ارتكاباتها.
وتواجه إيران مأزقًا لأنها على الأرجح لن تتمكن من الحاق هزيمة ساحقة بالجماعات السنية المتطرفة كداعش، ما دام نفوذها في العراق يرتكز على الميليشيات الشيعية. لكن إضعاف الميليشيات الشيعية يمكن أن يسفر عن تقوية الحكومة المركزية في بغداد، وربما تمكينها على المدى البعيد من تحدي النفوذ الايراني.
تداعيات صعود داعش
زاد سقوط الموصل ومناطق واسعة من محافظة الانبار بيد داعش، والأداء الهزيل للقوات المسلحة العراقية، اعتماد القادة الشيعة العراقيين على ايران.
وبسبب افتقار حكومة بغداد برئاسة حيدر العبادي إلى قوات تقليدية يمكن الركون اليها، لجأت بغداد إلى الميليشيات المرتبطة بايران لحماية العاصمة ومواجهة تقدم داعش.
وكان الحرس الثوري الايراني أكثر من سعيد بالاستجابة لاستغاثة الحكومة. فاعتماد العراق على إيران يمكن أن يخدم اهدافًا ايرانية أكبر في مجال السياسة الخارجية، من تخفيف عزلة طهران الدولية إلى تقوية موقعها التفاوضي في المحادثات النووية. لذا لم يكن مستغربًا أن تجاهر إيران بدور قوات الحرس الثوري الايراني، وأن يكون هذا الدور مكشوفًا أكثر مما كان خلال الاحتلال الاميركي.
لم تعد إيران تبتعد عن الأضواء في المعركة ضد داعش. وبحلول خريف 2014، اصبح سليماني بطلًا شيعيًا. واشادت جماعة عصائب اهل الحق علنا بدوره في توحيد "قوات المقاومة". والأكثر من ذلك أن المواقع الاخبارية الايرانية سلطت الضوء على دور الحرس الثوري الايراني على جبهات القتال، كما في عملية فك الحصار عن بلدة آمرلي التركمانية ذات الأغلبية الشيعية في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي.
وجاءت معركة تحرير بلدة جرف الصخر في بابل دليلًا آخر على دور الميليشيات المدعومة ايرانيًا في تحرير منطقة استراتيجية من داعش. واعلن عضو في منظمة بدر للصحفيين أن انتصارات كبيرة تحققت ضد داعش بمساعدة ايران، من دون تدخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
ويمكن تفسير الترويج العلني لدور إيران والكلام الصريح عن مساهمتها بحرص طهران على أن تثبت انها حليف موثوق للحكومة العراقية التي تسيطر عليها احزاب شيعية. ويُراد بهذه الدعاية إيصال رسالة بأن إيران تفعل أكثر مما تفعله الولايات المتحدة لحماية العراقيين.
إيران لم تتردد
وكانت إيران سريعة في التحرك بعد سقوط الموصل، وبدأت بارسال مستشارين واسلحة إلى الحكومة العراقية في غضون 48 ساعة من سيطرة داعش على المدينة، بينما لم تبدأ الولايات المتحدة ضرباتها الجوية إلا بعد شهرين. ولم تكن الحكومة العراقية غافلة عن هذا الأمر، بل لاحظ العبادي في مقابلة تلفزيونية أن إيران لم تتردد في مساعدته حين كانت بغداد مهددة "بخلاف الاميركيين".
السبب الآخر لاستعراض دور إيران في العراق أمام العالم هو تعزيز جهود الرئيس حسن روحاني لكسر عزلة ايران، وتقوية نفوذها الاقليمي، وتمتين شراكتها مع قوى دولية. ويمكن لدور إيران في العراق أن يُري شعوب الشرق الأوسط الأخرى أن قوتها تفوق قوة دول أخرى لم تتحرك لانقاذ العراقيين من داعش.
لكن احتواء نفوذ إيران الاقليمي بالعقوبات وحدها ليس سهلًا. وتستطيع طهران العمل على مواجهة المصالح الاميركية والغربية في الشرق الأوسط رغم استمرار المفاوضات النووية.
فثمة بلدان آسيوية واوروبية عديدة تتلهف للعودة إلى السوق الايرانية، وتنظر الصين واليابان إلى إيران على انها مصدر مهم للطاقة على المدى البعيد، كما ترى الصين أن لايران ثقل مضاد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهي شريك جيوسياسي وأمني محتمل. كما يشعر الاوروبيون والصينيون بالقلق من انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط، ويرون في إيران سدًا محتملًا بوجه داعش.&
&
مخاطر على المدى البعيد
يبدو أن داعش يقدم لايران فرصًا أكثر مما يشكل تهديدا لأمنها. لكن تدخل إيران السافر في العراق يمكن أن يضعف مصالحها بعيدة المدى في الشرق الأوسط. فإن نزاع إيران مع قوى اقليمية كبيرة مثل المملكة العربية السعودية ومع دول الخليج الأخرى كلفها ثمنًا باهظًا، لا سيما من الناحية الاقتصادية.
وكانت الجمهورية الاسلامية حققت منافع من تصوير نفسها قوة اسلامية في الشرق الأوسط، لكن ايران، بوصفها دولة شيعية في منطقة سنية عمومًا، يعني انها لكي تحقق نفوذا وتحافظ عليه في المنطقة يجب أن تبني رصيدًا من الشعبية بين الجماهير السنية إلى جانب الشيعة.
وكان العداء لاميركا والصهيونية ورقة مربحة في السياسة الخارجية الايرانية بسبب موقف الجماهير السنية ضد احتلال اسرائيل للأراضي العربية والدعم الذي تتمتع به من الولايات المتحدة.
لكن إيران اليوم قوة طائفية وليست اسلامية في المنطقة، ولم تعد سياساتها المعادية لاميركا والصهيونية ذات جاذبية كما في السابق. وإذا كان هناك قوى مستعدة للتعامل مع إيران مثل جماعة الاخوان المسلمين، فإن اتساع النفوذ الايراني والدعم الذي تقدمه طهران إلى منظمات شيعية تحديدًا أسهما في صعود جماعات "جهادية" اسلامية سنية بالمقابل، وانحسار نفوذها بين السنة مع تزايد نفوذها في المناطق ذات الأغلبية الشيعية.
حدث هذا التراجع بعد الشعبية التي كسبها حزب الله اللبناني بين السنة خلال حربه مع اسرائيل في 2006، وما نالته إيران ايضًا من سمعة متزايدة، لأن كثيرين يعرفون أن حزب الله وكيل إيران في المنطقة، مؤكدا بذلك أهمية إيران بوصفها قوة معادية لاميركا واسرائيل.
ارتياب السنة
لكن بمرور الزمن، اثار تنامي النفوذ الايراني ردود فعل بين السنة. وأصبحت قوى اقليمية كبيرة ترتاب بما يبيته حزب الله وايران للمنطقة.
لعل الحرب الأهلية في سوريا كانت أكبر ضربة تلقاها النفوذ الايراني بين السنة. فإن الانتفاضة التي اندلعت بمشاركة الجماهير السنية اساسًا قمعها النظام بوحشية، مستعينًا بتدخل إيران وحزب الله في النزاع. وأصبح سنة المنطقة ينظرون إلى إيران على انها مدفوعة باعتبارات طائفية ومذهبية.
وقد يعزز دعم إيران القوي لميليشيات شيعية في العراق ولحزب الله في لبنان نفوذها في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، لكنه يضعف مواقعها في دول قوية أخرى في المنطقة. كما أن دور إيران في العراق ينال من دعاواها الاسلامية ويضعف نفوذها بين السنة، لا سيما أن إيران تعمل مع ميليشيات شيعية كثيرًا ما تُتهم بارتكاب اعتداءات على السنة.
ومن المرجح أن تنظر قوى اقليمية كبرى مثل السعودية وتركيا إلى تدخل إيران المتزايد في العراق إلى جانب القوى الشيعية على أنه سبب يدعوها للوقوف إلى جانب سنة العراق، ودعم منظماتهم الوطنية.
مجال للتعاون
اثار صعود داعش نقاشًا في الولايات المتحدة حول منافع التعاون مع إيران في العراق، ومخاطره. ويرى محللون أن على واشنطن وطهران أن تعملا معا ضد داعش في حين يعتقد آخرون أن النظام الايراني مصدر رئيسي للمشاكل في العراق.
وتكشف النظرة الفاحصة للوضع أن المصالح الاميركية والايرانية ليست متطابقة تماما في العراق، لا سيما بسبب انعدام الثقة والمنافسة الاقليمية بين الدولتين.
ويمكن أن تتعاون الدولتان على طرد داعش من الأراضي العراقية، رغم اختلاف اهدافهما على الصعيد الاقليمي الأوسع. لكن مثل هذا التعاون التكتيكي ضد عدو مشترك لن يؤدي إلى انفراج أكبر في العلاقات بين الدولتين.
فطبيعة السياسة في إيران والولايات المتحدة، إلى جانب المعارضة التي سيصطدم بها هذا الانفراج من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ستجعل التعاون الاميركي الايراني على نطاق أوسع في العراق عملية محفوفة بالمطبات.
قد يكون المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي مستعدًا للسماح بالتعاون مع الولايات المتحدة بشأن "قضايا محدَّدة"، لكنه لا يعتقد على ما يبدو أن إيران ستحصل على الكثير مقابل مثل هذا التعاون. ومن الجائز نظريًا أن تتعاون إيران مع الولايات المتحدة ضد داعش، لكنها ترجح أن تعود واشنطن إلى سياستها التقليدية المعادية لإيران بعد ذلك.
التعاون الاشكالي
قد تكون لدى الولايات المتحدة أسباب وجيهة للتعاون مع ايران. ويقدم حل النزاع النووي فرصًا للتعاون بينهما، وهي يمكن أن تعتبر الرئيس روحاني محاورًا مفيدًا. ولكن على واشنطن ألا تضخم فرص النجاح من جهة وتقلل من مخاطر مثل هذا التعاون من الجهة الأخرى.
فان العمل مع إيران في العراق قد يخدم مصالح الأمن القومي الاميركي ولكن بطرق محدودة فقط مثل انهاء سيطرة داعش على مناطق من العراق.
كما أن سياسات إيران الطائفية في العراق تُسهم في زيادة مشاعر السخط والاستياء بين السنة، وتقوية جماعات متطرفة مثل داعش. فسنّة العراق ينظرون إلى دعم إيران للأحزاب السياسية الشيعية والميليشيات في اطار حملة أوسع لإقصائهم وتهميشهم. ومن المشكوك فيه أن تنتهج إيران سياسات تشجع على بناء حكم غير طائفي يمثل العراقيين على اختلاف انتماءاتهم المذهبية والقومية.
إلى ذلك، يثير تعاون الولايات المتحدة وإيران قلق حلفاء اميركا في المنطقة، ويزيد السياسة الاميركية تعقيدًا في ما يتصل بالمفاوضات النووية. ومن المرجح أن يعارض الكونغرس الاميركي بقوة أي تقارب اميركي إيراني.
وعليه، لا يُنصح بالتعاون الاميركي الايراني قبل التوصل إلى اتفاق نووي، حتى بعد الاتفاق يمكن أن يكون هذا التعاون إشكاليًا. فالولايات المتحدة لن تنهي النفوذ الايراني في العراق من خلال مثل هذا التعاون الإشكالي اصلًا، لكنها قد تجد طرقًا في اطاره للضغط على حكومة بغداد لتكون حكومة غير طائفية. كما تستطيع واشنطن أن تحاول اقناع إيران بتقليل دعمها للميليشيات الشيعية إذا طمأنتها إلى أن مصالحها في العراق ستكون محمية.
في سوريا أيضًا
يصح المنطق نفسه على سوريا، حيث لا تستطيع واشنطن أن تجبر طهران على التخلي عن نظام الأسد. لكن طهران قد تكون مستعدة للقبول بتسويات سياسية ما دامت مصالحها محمية.
ويعني هذا أن اي حكومة تُقام في سوريا على اساس هذه التسويات ستكون تحت سيطرة عناصر وثيقة الارتباط بطهران، أو على الأقل حكومة تضم عناصر إيرانية.
وقد يكون تعاون الولايات المتحدة مع إيران أكثر نجاحًا إذا تعزز موقع الرئيس روحاني بالتوصل إلى اتفاق نووي مع القوى الدولية الست، أو إذا وقعت احداث غير متوقعة تؤدي إلى اضعاف المؤسسة الايرانية التي يقودها خامنئي والحرس الثوري الايراني.
لكن ليس من المضمون أن يؤدي الاتفاق النووي إلى إحداث تغييرات جذرية في إيران، ومن المستبعد أن تكون لدى روحاني القدرة أو الارادة لاحداث تغييرات حقيقية في السياسة الايرانية. لذا، يتعين ألا تقوم السياسة الاميركية تجاه إيران على تطبيع العلاقات أو التحالف بل التركيز على إيجاد مجالات يمكن أن تتحمل الدولتان نفوذ احداهما الأخرى فيها، والبحث عن صيغة لتحقيق الاستقرار الاقليمي. ولا بد من الاعتراف بأن أي بادرة تعاون بين واشنطن وطهران كثيرًا ما تؤدي إلى ردود افعال قوية، ليس في واشنطن وطهران فحسب، بل في عواصم اقليمية أخرى ايضًا.
وليس من الضروري أن يكون التعاون مع إيران دليل ضعف وتهافت اميركي، بل بعدًا من أبعاد السياسة الخارجية الاميركية، لا يأخذ مصالح الحلفاء في الاعتبار فحسب، بل ويستطلع امكانيات العمل مع الأعداء ايضًا، وفق ما تخلص إليه دراسة مؤسسة راند للأبحاث.
التعليقات