يروي جيمس بيكر تفاصيل اللقاء الأخير بينه وبين طارق عزيز، قبل ساعات من الحرب على العراق، وكيف رفض استلام رسالة جورج بوش التي وجهها لصدام حسين.


عبد الاله مجيد: كان طارق عزيز، المتوفى عن 79 عامًا الجمعة، الوجه الأبرز في دبلوماسية نظام صدام حسين.

ويتذكر جيمس بيكر، وزير الخارجية الاميركي السابق، حين اقدم صدام على غزو الكويت في صيف 1990، لقاءه مع طارق عزيز، في محاولة أخيرة لحمل صدام على الانسحاب من الكويت بالطرق الدبلوماسية، قائلًا إن فكرة اجراء محادثات مع النظام العراقي كانت تدور في ذهن الرئيس جورج بوش الأب خلال الأسابيع التي سبقت قرار مجلس الأمن الدولي الشهير باستخدام "كل الوسائل اللازمة" لطرد صدام من الكويت.

وقال بيكر في مقابلة صحافية مطولة نُشرت على موقع "فرونتلاين" إن وزير الخارجية السوفياتي حينذاك إدوارد شيفردنادزة كان يفضل هذه الصيغة المبهمة بعض الشيء، لأنها لا تذكر عبارة "استخدام القوة العسكرية"، إذ كان من الصعب على الاتحاد السوفياتي أن يصوت مع قرار يجيز استخدام "القوة العسكرية" ضد دولة متحالفة معه كعراق صدام.

فكرة راودت بوش

وروى بيكر أنه اتصل بعد التصويت على القرار في مجلس الأمن، بالرئيس بوش، الذي ابلغه بأن لديه فكرة يود أن يناقشها معه. في صباح اليوم التالي، اجتمع بيكر وبوش ومستشاره لشؤون الأمن القومي برينت سكوكروفت.

أضاف بيكر: "كنا مجتمعين نحن الثلاثة فقط حين اقترح الرئيس فكرة اللقاء وجهًا لوجه مع صدام حسين، يتيح النظر الينا في حكم التاريخ بأننا لم نعدم وسيلة إلا وجربناها من أجل السلام".

وكان من غير الوارد بالطبع أن يتوجه بوش إلى بغداد أو تقترح الحكومة الاميركية على صدام حسين أن يأتي إلى الولايات المتحدة، "لذا اقترح الرئيس بوش أن يأتي طارق عزيز إلى واشنطن أو أذهب أنا إلى بغداد"، كما يتذكر بيكر. وفي النهاية التقى الاثنان في جنيف.

نفى بيكر أن يكون المقترح خطة أعدها هو لتفادي الحرب، قائلًا: "اللقاء مع طارق عزيز في جنيف أتاح لنا أن نحصل على تأييد الكونغرس لأمر كان الرئيس عازمًا على القيام به في كل الأحوال".

وأكد بيكر أن مقترح اللقاء لم يكن مقامرة، لأنه لم يكن هناك شيء يمكن أن تخسره الولايات المتحدة، معترفًا في الوقت نفسه بأن صدام كان يستطيع أن يجعل الموقف أصعب على الولايات المتحدة لو اقترح مثلًا أن يلتقي الولايات المتحدة في منتصف الطريق من خلال الانسحاب بنسبة 50 في المئة مثلًا. وشدد بيكر على أنه لم يكن مستعدًا للتراجع عن نص قرار مجلس الأمن الذي يطالب بالانسحاب الكامل.

لا تليق بصدام

قال بيكر إنه لم ينظر إلى لقائه مع عزيز داخل غرفة في جنيف على أنه حدث تاريخي مثلما كان تصويت مجلس الأمن على استخدام جميع الوسائل اللازمة، لكنه اعتبره "اجتماعًا مهمًا على نحو استثنائي".

أضاف: "لم احضر ذلك الاجتماع معتقدًا بأننا سنحقق حلًا سلميًا للنزاع، لأني لم أكن مستعدًا للتراجع عن قرارات الأمم المتحدة تلك، وجعلتُ ذلك واضحًا جدًا منذ البداية".

وعما جرى خلال اللقاء، يروي بيكر: "قلتُ إن لدي رسالة من رئيس الولايات المتحدة إلى الرئيس صدام حسين، وبودي أن أبدأ الاجتماع بتسليمك هذه الرسالة. قال عزيز: هل لديك نسخة منها أستطيع قراءتها؟، قلتُ نعم، وكانت الرسالة في مظروف معنون إلى الرئيس صدام حسين من الرئيس جورج بوش. أخذ عزيز النسخة وقرأها.

استغرقته قراءة الرسالة ربما 10 دقائق أو نحو ذلك، ثم قال: لا أستطيع أن أقبل هذه الرسالة، فهي ليست مكتوبة بلغة تليق بالاتصالات بين رؤساء دول، ويمكنكم أن تنشروها في اعلامكم. قلتُ: حسنًا، يؤسفني أن تختار عدم تسلم الرسالة، لكننا لن ننشرها في اعلامنا، ويبدو لي أيها الوزير انك تلقي عبئًا كبيرًا على عاتقك لأنك الشخص الوحيد على جانبكم من الطاولة. حينذاك قال العديد من المساعدين الذين كانوا معي في الاجتماع انهم رأوا يديه ترتجفان قليلاً".

اضاف بيكر: "كان عزيز تحت مراقبة شديدة في ذلك الاجتماع، إذ كان معه أخ صدام غير الشقيق برزان، وسفير العراق لدى الأمم المتحدة في جنيف جالسًا على يمينه، ومترجم صدام الشخصي على يساره. وأنا متأكد انه لم تكن لديه أية فرصة على الاطلاق للخروج بأي شكل عن التوجيهات الصادرة اليه".

تصافحنا قبل الحرب

لكن هل كان عزيز يدرك حجم القوة الهائلة التي حُشدت في مواجهة صدام؟ قال بيكر انه حاول خلال اللقاء أن يبين له أن رسالة بوش إلى حسين تشير إلى أن الأميركيين جادون تمامًا، "وان هذه مسألة تتعلق بمصداقية الأمم المتحدة، ومسألة قرار تدعمه الأغلبية الساحقة من المجتمع الدولي، وعليهم أن ينسحبوا من الكويت انسحابًا غير مشروط، وإلا فان قوة متفوقة تفوقًا ساحقًا ستُستخدم ضدهم. وقلتُ إن عليهم ألا يخطئوا بافتراض قدرتهم على التحكم بشروط المعركة، كما افترضوا ربما في حربهم مع ايران. فإن هذا سيكون وضعًا مغايرًا بالكامل، وان تفوقنا التكنولوجي تفوق ساحق وسنوظفه بالكامل".

أضاف بيكر: "استمع عزيز إلى ذلك كله، ولم يقتنع بل قال ما معناه 'انكم لم تقاتلوا في الصحراء من قبل، وحلفاؤكم العرب سيهربون، فهم لن يقاتلوا أشقاءهم وسيتفاجأون بقوة الجيش العراقي وتصميمه وشجاعته'، فالنقاش لم يكن نقاشًا مثمرًا، وأعتقد أن تقييماتنا لما يمكن أن تفعله قواتنا العسكرية المتفوقة تفوقًا ساحقًا كانت صائبة".

ويتذكر بيكر كيف افترقا في نهاية الاجتماع: "النقاشات استمرت نحو ست ساعات ونصف الساعة، وقلتُ ذات لحظة خلالها: أيها الوزير أنا لا أُريد أن أُنهي هذا قبل الأوان، لكني قلتُ كل ما أعتقد أنه من المهم قوله، لا أُريد قطع الاجتماع وإذا كان لديك جديد تقدمه فأنا سأبقى هنا طالما تريدني أن أبقى. وفي النهاية، قال: كلا ليس لديّ ما أقوله، ورفعنا الاجتماع وكان لديّ إحساس بأنه كان مسلّمًا بما سيحدث".

وتابع بيكر: "في النهاية تصافحنا، بل أعتقد في الحقيقة أن غالبية أعضاء كل وفد تصافحوا مع اعضاء الوفد الآخر، وكنتُ متأكدًا وقتذاك من أننا ذاهبون إلى الحرب في وقت قريب جدًا جدًا".

طلب غورباتشيف

قال بيكر إن ادارة بوش ما كانت لتنال تصويت الكونغرس لصالح الحرب لولا اجتماعه مع طارق عزيز في جنيف، مشيرًا إلى أن مجلس الشيوخ صوت بأغلبية 52 مقابل 48 مع الحرب وان أشد المعارضين للحرب قالوا إن معارضة استخدام القوة تآكلت بعد اجتماع جنيف.

لكنه اضاف: "كان بوش سيمضي قدمًا باستخدام القوة لطرد صدام من الكويت في كل الأحوال، بصفته قائدًا عامًا للقوات المسلحة بمسؤوليات دستورية على عاتقه". واعتبر بيكر أن التوجه إلى الكونغرس للتصويت على الحرب كان مخاطرة أكبر من محاولة تشكيل تحالف دولي لاستخدام القوة لأن استراتيجية الادارة كانت عدم الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاصدار قرار يجيز استخدام القوة من دون تفويض باستخدامها من الكونغرس.

وقال بيكر إنه اتصل بنظيره وزير الخارجية السوفياتي لابلاغه ببدء الحرب الجوية قبل ساعة على بدايتها، وإن شيفردنادزة اتصل به في غضون 10 إلى 15 دقيقة بطلب شخصي من الرئيس ميخائيل غورباتشيف إلى الرئيس بوش لتأخير الحرب لتمكينه من توجيه مناشدة أخيرة إلى صدام. ويتذكر بيكر انه ابلغ وزير الخارجية السوفياتي أن القوات تحركت بالفعل ولا يمكن وقف العملية الآن، وانه اعتذر لأنه لا يستطيع أن يلبي طلب غورباتشيف، و"كنا وقتذاك نبعد نحو 20 إلى 25 دقيقة عن بدء الحرب الجوية، وأنا واثق من أن الطائرات كانت اصلاً متوجهة إلى اهدافها".

ومما يتذكره وزير الخارجية الاميركي السابق ايضًا أن خبراء قانونيين ابلغوا القادة العسكريين بأن مقتل صدام حسين خلال العمليات لن يكون انتهاكًا للقوانين الدولية، لأن صدام كان القائد العام للقوات المسلحة.

وختم بيكر انه تابع بداية الحرب الجوية على شبكة سي أن أن من مكتبه في وزارة الخارجية، "وأتذكر اني كنتُ أفكر بأن هذه هي المرة الوحيدة التي سـأشاهد فيها على شاشة التلفزيون حربًا قمتُ بدور كبير فيها".