« إيلاف» من باريس: لم يستفق الاتحاد الأوروبي من أزمة تصويت البريطانيين لصالح خروجهم من الاتحاد الأوروبي حتى أتى فوز الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة ليزيد الوضع ضبابية لدى قادة الاتحاد الأوروبي حول مستقبل العلاقات الثنائية واتفاق التجارة العابر للأطلسي والتزام الولايات المتحدة تمويل حلف شمالي الأطلسي، في وقت تعزز فيه روسيا عتادها العسكري عند حدود الدول الأوروبية.

يمثل الاتحاد الأوروبي بقوانينه كل ما يتعارض مع ما تعهد ترامب في حملته الانتخابية بنقضه في سياسة الولايات المتحدة، ابتداءً بنظام شينغين الذي اتاح للدول الموقعة عليه في الاتحاد الأوروبي التنقل بحرية داخل الفضاء الأوروبي الموحد، فالرئيس الأميركي المنتخب من داعمي نظرية «الولايات المتحدة أولًا»، وهو دعا في حملته الانتخابية إلى بناء جدار فاصل مع المكسيك لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وتعهد الإنسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ لدى تسلمه السلطة في يناير، ونقض اتفاق باريس العالمي حول المناخ، وإعادة الصناعات التقليدية التي تضرّ بالمناخ.

التحدي الجذري

يقول حسن منيمنه، الأستاذ المحاضر في معهد الشرق الأوسط في واشنطن لـ «إيلاف» إن ترامب يشكل تحديًا جذريًا لأوروبا تحديدًا، ويلزمها إلى حد ما الإمساك بزمام المبادرة في بعض المسائل، التي تعود في الأصل إلى أوروبا، على الرغم من أن الولايات المتحدة هي التي اعتنقت هذه المبادئ ودافعت عنها في العقود الماضية.

ويقدم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب صورة إنطوائية وتصورًا انعزاليًا للولايات المتحدة يؤدي إلى تخلي الولايات المتحدة ليس فقط عن التزاماتها وفقًا للمواثيق والاتفاقيات، لكن أيضًا عن التزاماتها الأخلاقية تجاه حلفائها التقليديين.

يقول منيمنه: "ترامب ليس عقائديًا كما يبدو للوهلة الأولى، حتى في ما يتعلق ببعض الوعود الأساسية والجوهرية في حملته الانتخابية، وليست بالضرورة مبدئية، وصحيحٌ اننا نتوقع أن تكون اتفاقية التعاون التجاري في شرق آسيا قد انتهت ولن تنفذ لأنها على مستوى الصورة لا يستطيع أن يسير بها، لكن ترامب من جهة أخرى بحاجة إلى التواصل في ما يوضح المصلحة الأميركية، واود أن اذكر أن العديد ممن يؤيدون ترامب على مستوى السياسة يدركون تمامًا أن هناك مسائل لا يجوز التفريط فيها، لكنهم يسيرون معه في المرحلة الأولى شعبويًا على أن يحاولوا إعادته إلى مرحلة الاستقرار لاحقًا، ومن هنا لا نستطيع أن نتوقع أن تتحقق كل المخاوف، لكن المرحلة المقبلة هي مرحلة تواصل شديد وإتاحة المجال امام ترامب الرئيس أن يبدد ما قاله ترامب المرشح".

تراجع عن الدور القيادي

أما السؤال الذي اغضب الأوروبيين فهو: ما سيكون دور الولايات المتحدة الجديد في حلف شمالي الأطلسي الذي تمثل واشنطن 70 في المئة من قوته العسكرية؟ خصوصًا أنه سبق للرئيس الأميركي المنتخب أن حذر بأن بلاده لن تهرع لمساعدة حلفائها الأوروبيين الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي، في حال تعرضهم لتهديد ما.

تتطلع الولايات المتحدة في عهد ترامب إلى علاقات جيدة مع روسيا التي تعتبر حلف شمال الأطلسي عدوها الأكبر، وسبق أن عززت تواجدها العسكري في بحر البلطيق في وجه تعزيز الدول الأوروبية عتادهم العسكري في استونيا وبولندا ورومانيا، حتى أن نيوت غينغريتش، أحد أعضاء حملة ترامب، تساءل: "لماذا على الولايات المتحدة أن تغامر في حرب نووية لمساعدة إستونيا، ضاحية مدينة سان بيترسبورغ الروسية؟"، وأستونيا هي الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي.

يدعو منيمنه إلى التمييز بين خطابات المرشح ترامب الذي أراد استمالة الناخبين وتحدث فيها عن حلف شمالي الأطلسي كأنه عبء على الولايات المتحدة، وبين الواقع الذي يؤكد أن حلف شمالي الأطلسي هو فعل إيجابي مفيد للولايات المتحدة.

ويتابع: « الولايات المتحدة بحاجة إلى حلف شمالي الأطلسي بقدر ما هي حاجة أوروبا له، أي أن هذا الحلف ليس عملًا تبرعيًا تقوم به الولايات المتحدة لمساعدة الآخرين، بل هو من مصلحتها الذاتية».

فرصة لأوروبا

في مقالة له نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية، اعتبر بيار موسكوفيتشي، مفوض الشؤون الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، أن انتخاب ترامب يمكن أن يشكل فرصة لأوروبا، ودعا للإقرار بأن العولمة ليست دائمًا هذا المحفز او العامل السعيد للشعوب ولإتباع سياسة اقتصادية، ولا تكون مرادفًا للتقشف.

أضاف موسكوفيتشي: «بعد بريكسيت، يُطلق انتخاب ترامب صفارة انذار لإيقاظ أوروبا من نومها العميق، فستكون الوعود الأكثر تطرفًا في حملة انتخابية شائنة في زنزانة النسيان لأن الولايات المتحدة ستظل شريكًا قويًا للاتحاد الأوروبي ولأن القوتين العالميتين ستتفقان لمواجهة التحديات لكبرى كالأمن والتغير المناخي، لكن هذا لا يعني أن على الاتحاد الأوروبي أن يطمئن وأن يعود إلى نومه».

وتابع: «هذه فرصة لإعادة النظر في بعض المبالغات في العولمة، لكن من دون الانجرار إلى مسايرة الشعبوية التي أظهرت هذه العولمة وكأنها كارثة، وهي لم تكن كذلك، هذا ما يقر به حسن منيمنه ويعزو ذلك لتحولات لا بد منها، لكن لن يستطيع ترامب ولا غيره إعادة التصنيع في الولايات المتحدة إلى ما كان عليه سابقًا، من هنا نحتاج إلى معالجة مخلفات الانتقائي من حالة اقتصادية وسياسية من دون الوقوع في فخ الشعبوية التي غزاها ترامب وما يزال».

الفارق كبير

يقارن موسكوفيتشي بين الوضع في الولايات المتحدة الذي دفع أكثر من 60 مليون أميركي إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع للتصويت ضد العولمة التي جعلت منهم عرضة للمخاطر والمؤسسات التي لم تؤمن الحماية لهم، والحال في أوروبا حيث يصوت جزء كبير من الشعوب الأوروبية في الانتخابات لأحزاب اليمين المتطرف كما هو الحال في فرنسا، حيث أجمعت جميع استطلاعات الرأي على حتمية تأهل زعيمة الجبهة الوطنية، اليمني المتطرف، للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في مايو القادم على حساب المرشح اليساري، وفي ألمانيا حيث تراجعت شعبية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد اتباعها سياسة الأبواب المفتوحة لمواجهة ازمة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين.

يقول منيمنه: "تعتبر أوروبا الكتلة الوحيدة خارج الولايات المتحدة التي تجاهد بأنها تسعى إلى استقرار على مستوى العالم غير قائم على التحدي، ويعود ذلك إلى أسباب عدة، منها أن روسيا تفرض عسكريًا وسياسيًا مقومات الحرب الباردة الجديدة وإن كانت تحاول التنصل منها ونشهد غياب الحديث حول العولمة خارج القارة الأوروبية".

يقر موسكوفيتشي بأن أوروبا بحاجة اليوم إلى تجانس اقتصادي واجتماعي وحماية قيمها: الحرية والمساواة للجميع، حق التنوع، انفتاح على الاخر وتقاسم الأمن للنهوض من جديد.