انتهز عدد كبير من دعاة القومية والوحدة والنضال فرصة رحيل برنارد لويس ليصوب على "صهيونيته" كما قالوا، خصوصًا أن اسمه ارتبط بخرائط جديدة للشرق الأوسط، تعيد النظر في تركيبة هذه المنطقة، وتطلق العنان للفوضى العارمة الخلاقة.

بيروت: أما وقد توفي المؤرخ المعروف برنارد لويس، وقامت قيامة الدنيا بين من يرثيه ومن يشتمه، فإن اسم هذا الأكاديمي برز قويًا عندما وضع أول مخطط مكتوب لتقسيم الشرق الأوسط وخصوصًا الدول العربية فيه، ودعمه بالخرائط، وذلك في عام 1980 بعدما قال زغبينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي حينها، إن المعضلة التي ستعانيها الولايات المتحدة هي كيف يمكن إشعال نيران حرب خليجية ثانية، تستطيع من خلالها تصحيح حدود سايكس - بيكو في الشرق الأوسط.

18 دويلة جديدة

تعود اتفاقية سايكس - بيكو إلى عام 1916، وهي معقودة بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم إرث الدولة العثمانية وتفكيك الدول الإسلامية. وفي تلك اللحظة، كلفت وزارة الدفاع الأميركية برنارد لويس ليصوغ مخطط التقسيم، ومع هذا التكليف صار مقررًا السياسات الأميركية المستقبلية.

في قراءة سريعة لتقرير نشره موقع فورين بوليسي بعنوان "إعادة التفكير في الشرق الأوسط"، يبدو أن المخطط المزعوم، والمردود إلى لويس يقوم على تقسيم 18 دولة عربية إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة، تجاور دولة إسرائيل الكبرى.

فظهرت مصر مثلًا في خريطة الشرق الأوسط الكبير مقسمة إلى أربعة دويلات: دولة تضم سيناء وشرق الدلتا وتتبع للنفوذ الإسرائيلي؛ ودولة مسيحية عاصمتها الإسكندرية؛ ودولة نوبية تضم قرى النوب في الجنوب المصري ومناطق من جنوب السودان عاصمتها أسوان؛ ودولة إسلامية عاصمتها القاهرة. وتمت قسمة العراق إلى ثلاث دول: دولة شيعية في الجنوب عاصمتها البصرة؛ ودولة سنية؛ ودولة كردية تُقتطع أراضيها من العراق وسورية وإيران.

قسمت الخرائط هذه سورية إلى أربع دول مذهبية: دولة علوية على امتداد الشاطىء الشمالي الشرقي؛ ودولة سنية في حلب؛ ودولة سنية أخرى في دمشق؛ ودولة درزية تضم الجولان ومنطقة جبل لبنان التي تتركز فيها أكثرية درزية.

داعش البداية

بدأت إرهاصات هذا التقسيم تظهر مع ظهور داعش في سورية والعراق، وتقسيم سورية إلى مناطق يحكمها النظام، وأخرى تحكمها المعارضة، وثالثة يحكمها داعش.

في السودان، تحققت رؤية لويس، فانفصل جنوبها عنها في عام 2011 بعد استفتاء شعبي، ويسعى إقليم دارفور إلى اليوم للانفصال عن السودان منذ عام 2003، متحججًا بخلفيات عرقية وقبلية، لتتحقق خطة لويس في تقسيمه إلى ثلاث دويلات.

ظهرت شبه الجزيرة العربية في هذه الخرائط، وقد ألغيت منها دول الكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان واليمن ودولة الإمارات العربية المتحدة، وصار الخليج في التقسيم الجديد يتضمن ثلاث دول: دولة الإحساء الشيعية (الكويت والإمارات وقطر وعمان والبحرين)؛ ودولة نجد السنية؛ ودولة الحجاز السنية.

ربطت "فورين بوليسي" هذه التغييرات بتسلسلين من الحوادث: واحد قصير الأجل وإقليمي (الحرب في الكويت والعراق)، وآخر طويل الأجل وعالمي (نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي)، إضافة إلى تسلسل حربي بين الدول العربية وإسرائيل، وفشل العرب في هذه الحروب، وموت فكرة الوحدة العربية. وقال التقرير إن انتهاء الحرب الباردة خفف من أهمية كون الشرق الأوسط جسرًا يصل بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، واختفاء روسيا يعيد رسم جغرافيا الشرق الأوسط، "فالخط الاصطناعي بين الشرق الأوسط والاتحاد السوفياتي ما عاد موجودًا، وروسيا كانت قد ضمّت إليها عبر التاريخ عدّة مناطق من القوقاز وآسيا الوسطى التي كانت في السابق جزءاً من الشرق الأوسط.

ومع تفكك آخر الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى واستقلال الجمهوريات الجنوبية السوفياتية، استأنف الشرق الأوسط أبعاده التاريخية.

علاقات مستجدة

بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت سياسة الولايات المتحدة قائمة على فكرة منع دخول الاتحاد السوفياتي إلى المناطق. فدعمت الموقف البريطاني المتداعي حتى وصلت إلى الحلول محل بريطانيا كمدافع عن الشرق الأوسط ضد الهجوم الخارجي، وبالتحديد من الاتحاد السوفياتي. كان همّ الولايات المتحدة مقاومة ضغط الاتحاد السوفياتي على الحزام الشمالي. وقد نجحت هذه السياسة في إنقاذ تركيا وإيران.

لكنّ توسيع هذه السياسة إلى العالم العربي من خلال حلف بغداد كانت نتيجته كارثية: لجأت بعض الدول والمسؤولون مثل جمال عبد الناصر إلى الاتحاد السوفياتي. ومنذ عام 1955، تخطّى السوفيات حاجز الحزام الشمالي، وتراوح الوضع في الأراضي العربية الأخرى بين العدائي والحيادي. فتغيّرت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتبلورت من منطلقين إيديولوجي أو عاطفي، وآخر استراتيجي: عاطفي لأنّ الولايات المتحدة تتعاطف مع فكرة وجود أرض الميعاد الموجودة في الكتاب المقدّس؛ واستراتيجي لأن البعض يرى أنّ اسرائيل حليف استراتيجي مهم لأميركا في الشرق الأوسط وحصن في وجه التدخل السوفياتي. لكنّ هذه الفكرة أدّت إلى تزايد النفوذ السوفياتي في الأراضي العربية.

بحسب "فورين بوليسي"، في الماضي، تدخلت القوى الخارجية لمنع الحروب العربية الإسرائيلية أو للحد منها أو وقفها، لكن سيكون من الصعب على العرب والإسرائيليين على حد سواء الاعتماد على مثل هذه التدخلات في المستقبل. فالاحتمال الذي يواجهه العالم في الوقت الحالي هو الأصولية الإسلامية. فقد تركت العروبة الأصولية الإسلامية باعتبارها البديل الأكثر جاذبية لكل أولئك الذين يشعرون أنه يجب أن يكون هناك شيء أفضل وأكثر صدقاً وأكثر أملًا من الطغيان الخاطئ لحكامهم والإيديولوجيات المفلسة التي فرضت عليهم من الخارج. هذه الحركات تتغذى على الحرمان والإذلال وعلى الإحباط والاستياء ، بعد فشل جميع الأنماط السياسية والاقتصادية، سواء الواردات الأجنبية أو التقاليد المحلية. وكما رأى الكثيرون، تمت تجربة الرأسمالية والاشتراكية في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وفشلت التجربتان. كل من النماذج الغربية والشرقية أنتجت فقط الفقر والطغيان.

طغيان جديد

تتمتع الأصولية الدينية بمزايا كثيرة تعزز موقعها ضد الأيديولوجيات المتنافسة، وتقدم مجموعة من المواضيع والشعارات والرموز المألوفة للغاية، وبالتالي هي فاعلة في حشد الدعم وصوغ نقد لما هو خاطئ ووضع برنامج لتصحيحه. ليس التطرف الإسلامي جديدًا، منذ بدايات التأثير الغربي في القرن الثامن عشر، تواجدت حركات معارضة متشددة ومتدينة، ومهما كانت الشكوك حول قدرة الأصوليين على تحقيق أهدافهم المعلنة بمجرد وصولهم إلى السلطة، فينبغي عدم التقليل من قدرتهم على اكتساب القوة واستخدامها.

ثمة احتمال آخر يمكن أن تسرعه الأصولية: "اللبننة". فمعظم دول الشرق الأوسط بناء حديث ومصطنع وهي عرضة لهذه العملية. إذا ضعفت القوة المركزية بما فيه الكفاية، لا يوجد مجتمع مدني حقيقي يمسك النظام السياسي، ولا شعور حقيقي بالهوية الوطنية المشتركة أو غلبة الولاء للدولة، الوطن. بعدها، تتفكك الدولة كما حدث في لبنان، وتعم الفوضى والتناحر بين الطوائف والقبائل والمناطق والأحزاب. إذا ساءت الأمور وسقطت الحكومات المركزية وانهارت، يمكن أن يحدث نفس الشيء، ليس في دول الشرق الأوسط الحالية فحسب، لكن أيضًا في الجمهوريات السوفياتية السابقة، حيث تركت الحدود الاصطناعية التي رسمها أسياد الإمبراطورية السابقين كل جمهورية، كفسيفساء من الأقليات والمطالبات من نوع أو آخر على أو من جيرانها.

يقول تقرير "فورين بوليسي" إن السعوديين والمصريين وغيرهم، وبتشجيع ودعم من الولايات المتحدة، يضعون نوعًا من الترتيبات الأمنية الإقليمية - أقل من تحالف لكن أكثر من احتضار جامعة الدول العربية - لتأمين الحماية من العدوان والتخريب. في أدنى حد، هذا سيعني أن كل طاغية سيحصر طغيانه في رعاياه، ولا يتدخل في شؤون جيرانه. لكن، عاجلاً أم آجلاً، سيخرق بعض الطغاة أو المتعصبين القواعد، ويتسببون بصراع إقليمي يمكن أن تتدخل فيه القوى غير الإقليمية.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "فورين بوليسي". الأصل منشور على الرابط:

https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/1992-09-01/rethinking-middle-east​​