يروي ثلاثة موظفين أميركيين وزوجة موظف رابع تفاصيل عاصروها، كإنشاء المصرف المركزي السعودي، ودخول سيارة فورد إلى السعودية، وذلك في أوراق من التاريخ الشفوي السعودي* تنشرها "إيلاف".

إيلاف، واشنطن: ربما يكون التأريخ الأصدق هو الآتي من شهود عيان، شاهدوا الحدث، وعاصروه، وعايشوه، وتحدثوا مع أطرافه، أو كان طرفًا في حدوثه وتطوره، فرووه كما عاصروه. إنه ما يسمى التاريخ الشفوي للشعوب. هنا، تاريخ شفوي على صورة مرويات أميركية، تنفرد "إيلاف" بترجمتها ونشرها، بموجب حق حصري من "جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي" (Association for Diplomatic Studies & Training)، التي جمعت مقابلات حصلت مع أميركيين خدموا في السعودية بين خمسينيات القرن الماضي وسبعينياته، وشاهدوا تطورها.

في هذه الحلقة الثالثة، يروي غرانت ماكلاناهان، وكان قنصلًا أميركيًا في الظهران بين عامي 1954 و1957، ما شهده من توسع حققته أرامكو، بعد اكتشاف حقل البقيق النفطي.

&

أوّل بئر تجاري للنفط في المملكة العربيّة السعودية في عام 1938

يقول: "أنشأوا مصفاة في رأس تنورة، ولم يكن فيها مصفاة من قبل. ففي السابق، كانوا يستخدمون مصفاة في البحرين. وصل الإنتاج إلى أكثر من مليون برميل يوميًا بينما كنت هناك، وهو ينتج الآن أكثر من سبعة ملايين برميل".

&

أطلقت أرامكو &أول محطة تلفزيونية في المملكة عام 1957

بن جلوي

يروي ماكلاناهان: "حكم المنطقة الشرقية أمير سعودي يتمتع بالنفوذ والخبرة، كان الأمير سعود بن جلوي رجلًا قويًا معروفًا ومحترمًا ويخشاه الناس. تعامل معه القنصل الأميركي العام جون كاريغان بشكل منتظم، حيث كان يدعوه مرة في الأسبوع للقاء، فيتبادلان الحديث من خلال مترجم، يمزحان قليلًا ويتحادثان قليلًا. ذهبت مع القنصل العام للقائه ذات يوم، وعندما اكتشف أنني أتقن العربية كان سعيدًا للغاية. كان يدعونا إلى العشاء مرة أو مرتين في الأسبوع، وكان العشاء بعد ساعة واحدة من غروب الشمس، حتى يتمكنوا من أداء صلاة المغرب".

&

الامير سعود بن جلوي

اعتمد ماكلاناهان وصحبه في أغلب الأوقات على التقارير البريطانية ذات الصلة بالشؤون الخليجية. يقول: "أبلغنا عن التطورات الجديدة المثيرة للاهتمام، والتي كانت تحدث كل بضعة أشهر. أبلغنا ذات مرة عن تركيب أول إشارة مرور في شرق المملكة العربية السعودية. كان هناك قاعدة للقوات الجوية الأميركية في الظهران، لكننا لم نبلغ عنها، لأنها كانت مسؤولية البنتاغون".

&

طائرة أرامكو في الظهران في عام 1950

ولت أيام الريال

يروي جورج بنسكي أيامه حين كان مبعوثًا للخزانة الأميركية في الشرق الأوسط بين عامي 1952 و1956. حينها، لم تكن المملكة العربية السعودية غنية، "فلم تكن تملك المال الكثير، بل كانت ترزح دائمًا تحت ثقل الديون. وكان وزير المالية فيها رجلًا من البدو، شديد الذكاء"، كما يقول. وقد أرسل إلى السعودية للمساعدة في إنشاء مصرف مركزي سعودي وسكّ نقود ورقية.

&

الريال الفضة قبل العملة الورقية

يضيف بنسكي: "قبل أن أذهب إلى هناك، كنت في وزارة الخزانة في واشنطن، وكانت السعودية تستخدم الريال الفضة الكبير عملةً وطنية لها. واجهت هناك صعوبات عدة، فمثلًا لم أجد أحدًا يعرف ما كان ميزان المدفوعات. في إحدى المرات، رأيت أنه إذا تحدثت مع عدد كافٍ من الناس، يمكنني معرفة ما يبدو عليه ميزان المدفوعات في السعودية. لذلك، تحدثت مع الكثير من الناس، واكتشفت ما يفكرون فيه بشأن حجم التجارة والتمويل والخدمات وما إلى ذلك، وحسبنا ميزان المدفوعات. ربما كنت أول من حسب ميزان المدفوعات على الإطلاق في السعودية. حينها، كانت المملكة بلدًا ينتمي إلى قرن آخر غير الذي نعيش فيه، لكنه كان في طريقه السريع إلى الأمام، وبدأ السعوديون يستقدمون بعض من يتمتعون بالحنكة المالية والقدرة على العمل".

&

ريال سعودي ورقي إصدار عام 1956

فورد!

أما موريس درايبر، فكان مستشارًا اقتصاديًا في السفارة الأميركية في جدة بين عامي 1961 و1964، وشهد تطورات اقتصادية وتجارية عدة، وأدى دورًا في الترويج للصناعات والشركات الأميركية كي يتعاقد معها السعوديون.

&

إعلان لكرايزلر في السعودية في 1954

واجه الأميركيون في البداية بعض العراقيل في العلاقات التجارية مع السعودية. يقول درايبر: "كان السعوديون مقيدين للغاية في إصدارات تأشيرات الدخول، وكانوا سلبيين بوجه الشركات التي يملكها يهود. كانت تلك مشكلة بالنسبة إلينا، لأن ليس في صالحنا أن نظهر داعمين لنظام يعتمد هذا التحيز الديني".

يتابع درايبر: "في بلد تسمى فيه أي سيارة باسم ’فورد‘ لأنها كانت أول سيارة تباع في السعودية، لم يكن صناع السيارات الأميركيون يولون السوق هناك اهتمامًا كبيرًا. كانت المعادلة الاقتصادية ’أن تربح أو تخسر‘، ولا منزلة بين المنزلتين. أحب السعوديون شراء سيارات كاديلاك، لكن الأميركيين فشلوا في إدراك كيف ستكون السوق السعودية ضخمة في غضون وقت قصير".

&

إعلان فورد عام 1961

يختم: "كان أفراد الطبقة الوسطى المتنامية والبدو جميعًا يشترون السيارات أو الشاحنات الخفيفة. ظهر أول اختراق تجاري ياباني للسوق السعودية عندما اشترى السعوديون حمولة ضخمة من المركبات الصغيرة، التي أصابت نجاحًا هائلًا. بعد ذلك، صار لليابانيين وكلاء يمنة ويسرة، فسياراتهم تلبي المتطلبات السعودية: موثوقة وغير مكلفة".

"افسحن المجال"

الشهادة النسوية المروية هي شهادة جون سيلي، زوجة الرجل الثاني في السفارة الأميركية في جدة بين عامي 1965 و1968، التي تبعت زوجها تالكوت سيلي إلى السعودية، حيث عاشت ثلاثة أعوام، شهدت فيها الكثير من الحوادث.

عاصرت سيلي الملك فيصل بن عبد العزيز، وهي تتكلم عنه بالكثير من الإعجاب. تقول: "كان الملك فيصل رجلًا متنورًا، أمضى وقتًا طويلًا في الولايات المتحدة وهو شاب، حين كان يعد السعودية لدخول الأمم المتحدة. لذلك، كان يعرف الكثير جدًا عن أميركا. التقيته مرتين من طريق الصدفة. ذات مرة، كان هناك حفل زفاف ملكي كبير في جبال الطائف، دعيت إليه زوجات السفراء. دُعيت لأن زوجة سفيرنا كانت خارج السعودية، فأحضرت معي أربع أو خمس أميركيات أخريات".

&

سعوديات في الخبر في السبعينيات

تابعت سيلي روايتها: "في ذلك المساء، جرى حفل الزفاف في حديقة ضخمة، وحضره مئات من الإناث. كان الملك هو الرجل الوحيد الحاضر في حفل زفاف إحدى بناته. كان جالسًا على خشبة مسرح صغيرة إلى جانب زوجته الملكة عفت. حين رآني، قال للجميع: ’أفسحن الطريق أمام نساء السفارة الأميركية‘. لكن أحدًا لم يتحرك، فنزل عن مجلسه فوق المسرح، ومشى، فأفسحت النساء المجال أخيرًا للملك كي يمر، فوصل إلي وحياني من دون أن يصافحني، لأن الرجال لا يصافحون النساء في السعودية، وطلب مني أن أتبعه إلى الأمام، وكان تقديرًا كبيرًا لي ألا يقودني بهذه الطريقة إلا الملك نفسه!".

* ملاحظات:

• & &تأريخ شفوي ينشر حصريًا في "إيلاف" أول مرة.
¥ & &أعدت "إيلاف" هذا التقرير بالتعاون مع الدكتور عودة أبو ردينة، ورئيسة موقع جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي سوزان جونسون (Association for Diplomatic Studies & Training/ADST)، وبعد الإطلاع على مقابلات مع شخصيات أميركية شغلت مناصب دبلوماسية أو إدارية في السعودية في عقود مختلفة في القرن العشرين.&
¥ & &المقابلات جميعها منشورة ضمن مجموعة التاريخ الشفوي للشؤون الخارجية على موقع جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي - في فرجينيا، على الرابط: https://adst.org.
¥ & &جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي مؤسسة خاصة غير ربحية تأسست في عام 1986. وأنشأت أكبر مجموعة من التاريخ الشفوي الدبلوماسي، وتعمل على تنميتها. تؤمن الجمعية بأن هذه الروايات الآتية من أفواه رواتها مباشرةً تضيف سمتي العمق والسياق إلى فهم الدبلوماسية الأميركية وتاريخها الغني.
&