يموت الناس في كل مكان بسبب كورونا، لكن جانبًا من العالم منشغل في ما يشبه جنس الملائكة.. السؤال الذي يحير هؤلاء هو: من صنع هذا الفيروس ليقتل الصينيين؟ هل طوره الأميركيون مخبريًا؟ أم صنعه الصينيون فانقلب عليهم؟ أم أنتجه الخفاش فعلًا؟ فأين الحقيقة من نظرية المؤامرة يا ترى؟

ليس الخيال علميًا دائمًا، فأحيانًا يكون مختبئًا خلف العلم ليبرّر نظريات مؤامرة أقل ما يقال فيها إنها مضحكة، على الرغم من أنها تسري في الناس كما النار في الهشيم. وليس أكثر تمثيلًا على هذا من نظريات المؤامرة التي تعج بها وسائل الإعلام التقليدي والجديد بشأن فيروس "كوفيد 19" المعروف عالميًا اليوم بفيروس كورونا المستجد.

دليل علمي دامغ

أولًا، وقبل الخوض في الثرثرات المتواترة حول هذا الوباء الذي يخيف العالم اليوم، لا بد من استعادة ما قاله عالم الفيروسات الماليزي وخبير الأمراض المعدية لام ساي كيت لموقع المجلة الطبية "ذا لانسيت" (The Lancet): " لا تستند نظريات المؤامرة بشأن مصدر فيروس كورونا المستجد إلى حقائق علمية".

وأصدر كيت وطائفة من العلماء حول العالم بيانًا نشره الموقع نفسه أدانوا فيه نظريات المؤامرة التي تزعم أن الفيروس لا يأتي من مصدر طبيعي، "والزعم أن هذا الفيروس تم تطويره وراثيًا في مختبر للسلامة الأحيائية في مدينة ووهان الصينية إشاعة لا صلة لها بالواقع".

البروفيسور لام ساي كيت

قال كيت: "مختبر ووهان ينفذ بحوثًا ممتازة بالتعاون مع منظمات دولية ومع باحثين أميركيين، كما أن لا تسلسل للجينوم فيروس كوفيد 19 يظهر أنه مصمم ليكون سلاحًا حيويًا".

أضاف كيت أن العديد من فيروسات كورونا الأخرى اكتُشف في الخفافيش، بما فيها ما سبب لاحقًا مرض "سارس" (الالتهاب الرئوي الحاد) ومرض "ميرس" (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية)، والتي أظهرت تسلسلات وراثية مشابهة لتسلسل فيروس كورونا المستجد، "وهذا دليل علمي دامغ على أن كوفيد آت من الخفافيش، وأن الحيوانات الأخرى والبشر هم حواضن وسيطة لا أكثر".

تصديقًا لذلك، نقلت تقارير صحفية عن الدكتور تريفور بيدفورد في مركز فريد هاتشينسون لبحوث السرطان في سياتل بولاية واشنطن الأميركية قوله إن طفرات هذا الفيروس أتت بتطور طبيعي، وليس فيه ما يشير إلى حدوث أي تغييرات غريبة أو غير متوقعة.

روسيا: مؤامرة أميركية

من أكثر نظريات المؤامرة بشأن هذا الفيروس إثارة للجدال النظرية التي تروج لها روسيا: "واشنطن بدأت المرض ونشرته في الصين، وذلك ضمن صراعها معها في حرب تجارية مستعرة".
نفت روسيا بشدة هذه المزاعم، لكن لا يمكن إلا التوقف عند استضافة القناة الأولى الروسية من سمتهم "خبراء في كشف المؤامرات" بينهم إيغور نيكولين الذي عمل في لجنة الأمم المتحدة للأسلحة الكيماوية والبيولوجية بين عامي 1998 و2003، فأسهب في شرح المؤامرة الأميركية قائلًا إن الأميركيين اختاروا مدينة ووهان الصينية لنشر الفيروس الجديد لأن فيها معهدا لعلم الفيروسات يؤمن لهم غطاءً ملائمًا في العملية برمتها، بحسب ما نقل عنه موقع "سي سي أن".

الروس يتهمون الأميركيين بأنهم من صنع هذا الفيروس لمحاربة الصينيين

إلى ذلك، بثت قنوات روسية تقارير قالت إنها تثبت التورط الأميركي في تفشي الفيروس المستجد الذي تم إنتاجه مخبريًا، استنادًا إلى قول إيغور غيورغادزه، وزير الأمن الجورجي الأسبق، في سبتمبر 2018 إن الأميركيين أجروا تجارب سرية على مدنيين جورجيين داخل مختبرات جورجية أدت إلى وفاة بعضهم؛ وإلى قول إيغور كيريلوف، مسؤول الحماية من الإشعاعات والأسلحة الكيميائية والبيولوجية في الجيش الروسي، إن المختبر الأميركي في جورجيا اختبر جرثومة الطاعون الأفريقي قبل أن تنتشر في روسيا وجورجيا.

وكان فلاديمير جيرينوفسكي، زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، صريحًا في القول إن البنتاغون نفسه يقف خلف تفشي كورونا لنشر أوبئة تدمر مجموعة مختارة من الناس دون آخرين.

على نفسها جنت الصين

حسنًا.. إن لم تكن أميركا، فلم لا تكون الصين؟ إحدى نظريات المؤامرة الأخرى تزعم أن الصين هي من صنع هذا الفيروس في مختبراتها السرية ليكون سلاحًا بيولوجيًا، وأطلقته خطأً، بحسب صحيفة فاينانشيال تايمز الأميركية. ودعم هذه النظرية وجود مختبر سري حكومي صيني للفيروسات في مدينة ووهان، بؤرة تفشي الفيروس.

استندت هذه المزاعم إلى تقرير نشرته صحيفة "واشنطن تايمز" الأميركية يستشهد بضابط المخابرات الإسرائيلي السابق داني شوهام الذي كان السباق إلى نشر هذه النظرية.

إلى ذلك، نشرت صحيفة "ديلي ستار" البريطانية تقريرًا يقول إن الفيروس "صدر في مختبر سري"، لكنها عادت وألحقت التقرير بملحق استطرادي قالت فيه إن لا دليل على هذا الادعاء.

(صورة رواية "عيون الظلام" التي يُذكر فيها فيروس شبيه بكورونا)

إلا أن أنصار هذه النظرية يعودون إلى رواية "عيون الظلام" (The Eyes of Darkness) للخيال العلمي، ألفها دين كونتز في عام 1981، تشير إلى سلاح بيولوجي خيالي يسمى "ووهان-400" (Wuhan-400)، تم تصميمه في أحد المختبرات لقتل الناس. غير أن التفاصيل المذكورة في الرواية لا تطابق الواقع اليوم في الكثير من التفصيلات المهمة، خصوصًا في توصيف الفيروس وفي انتقاله بالعدوى.

كما يعودون إلى كتاب آخر، عنوانه "آخر الزمان: توقعات ونبوءات عن نهاية العالم" (End of Days: Predictions and prophecies about the end of the world)، ألفته ليندساي هاريسون والعرافة سيلفيا براون، وصدر في عام 2008، ورد فيه الآتي: "في نحو عام 2020، سينتشر مرض شبيه بالالتهاب الرئوي الحاد في جميع أنحاء العالم، ويهاجم الرئتين والشعب الهوائية في الرئتين ويقاوم جميع أنواع العلاج المعروفة".

التواصل حاضن التلفيق

لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي هي البيئة الأكثر ملاءمة لنشر هذه النظريات وغيرها. فموقع "تويتر" على سبيل المثال أدرك أن القصص المتواترة عن أصل هذا الفيروس وفصله ليست صحيحة كلها، بل يعتريها الكثير من التشويه، لذا قررت إدارته وضع المعلومات الطبية الموثوقة بين أيدي المستخدمين؛ فمن يبحث في الموقع عن "كورونا" أو "ووهان" أو "كوفيدا" تظهر له رسالة تحثّه على التفريق بين الحقيقة والشائعة، عارضة روابط وصلات لمواقع طبية موثوقة.

كما حظرت إدارة الموقع حسابات تثابر على نشر نظريات المؤامرة، في مقدمها حساب "زيرو هيدج" (ZeroHedge) المعروف في هذا المضمار، بحسب ما قالت "فورين بوليسي".

من جانبه، انتهج "غوغل" المنهج نفسه: متى بحث مستخدموه عن أنباء الفيروس ومستجداته أحالهم إلى ما تقدمه منظمة الصحة العالمية من معلومات عن انتقال الفيروس والإجراءات الوقائية الملائمة.

ظهرت في موقع "ريديت" جماعات مكرسة لكورونا، بقي بعضها فيما تعرض بعضها الآخر للعزل بعد ترويجه معلومات مضللة عن الفيروس والإصابات وعددها.

أما "فايسبوك" فاستعان بأدوات رقمية للتحقق من صفحة المنشورات التي يتشاركها الناس على صفحة "نيوزفيد" بغية الحد من المعلومات الخاطئة أو التي تفتقر إلى الدقة، وثابر على ترويج المعلومات الموثوقة، وأتاح للمنظمات الصحية مساحات إعلانية مجانية.

بحسب "فورين بوليسي"، واجه تطبيق "واتساب" مشكلات عدة بشأن انتشار شائعات خطرة في دول عدة، بينها الهند، خصوصًا أن بلدانًا مثل ماليزيا والفلبين وإندونيسيا تشهد تدفقًا كثيفًا من المعلومات المضللة بشأن كورونا، وتحرض على كراهية الصينيين وعلى نبذهم.

البحث المسموم

من الأمثلة التي ساقتها "فورين بوليسي" على دور خطر لمواقع التواصل الاجتماعي في الترويج لنظرية المؤامرة بشأن كورونا، يتعدى التغريد العادي لمغردين ناشطين لا صفة طبية أو بحثية لهم، المثال الآتي: في 31 يناير الماضي، نشر باحثون من كلية كوسوما للعلوم الحيوية التابعة للمعهد الهندي للتكنولوجيا في دلهي بحثًا طبيًا يلمح إلى "تماثل مريب" حاصل بين سلاسل معينة من البروتينات التي وجدت في فيروس كورونا المستجد والسلاسل الموجودة في فيروس نقص المناعة البشرية (إيدز)، وإلى أن تبادل الخواص الوراثية بين الفيروسات أمر لا شائع ومعروف، وبالتالي ثمة ضرورة لبحث أكثر عمقًا في العلاقات بين سلالات الفيروسات التي يبدو ظاهريًا أن لا صلة بينها.

نشر موقع "بايوركسيف" (www.biorxiv.org) العلمي هذا البحث، لكن ذيّله بأنه غير مسؤول عما ورد فيه من معلومات، وأكد أن ما انتهى إليه البحث ليس نهائيًا، ولا يجوز أبدًا استخدامها ضمن برتوكولات الممارسة العيادية.

وما أن تم نشر هذا البحث الرقمي حتى غرّد الكاتب الهندي أناند رانغاناثان مشاركًا محتوى البحث، قائلًا في استنتاج متسرع إن "مؤلفي البحث يلمحون إلى احتمال أن يكون الفيروس الصيني قد طور في المختبرات". تبين رانغاناثان الحقيقة، فسارع إلى حذف تغريدته، إلا أن الوقت كان قد فات، وانتشرت تغريدته فساهمت في انتشار واسع النطاق للبحث غير الموثوق على الإنترنت.

(صورة إعلان سحب البحث المضلل من موقع بايوركسيف)

وما زال التشارك جاريًا

سُحب البحث لاحقًا من التداول، لكنه كان قد وصل إلى عدد كبير من الناس حول العلم، وتُرجم إلى لغات عدة، ما ساهم في تفشي أنباء مغلوطة عن أصل فيروس كورونا المستجد ومصدره؛ فقد نقلت "فورين بوليسي" عن شركة "كراودتانغل" (CrowdTangle) المختصة في تحليل المحتوى الرقمي على مواقع التواصل الاجتماعي إفادتها بأن البحث المشكوك فيه قد تمت مشاركته آلاف المرات على "فايسبوك" و"تويتر" و"ريديت" و"إنستاغرام" بلغات عدة، ولا يزال التشارك جاريًا إلا في موقع "ريديت" الذي حُذف منه رابط البحث، وأضيف مكانه إعلانٌ يحذر من الاعتماد على البحث المذكور لأن معلوماته مستقاة من مصادر غير موثوقة.

انتهز موقع "زيرو هيدج" فرصة شيوع هذا البحث، فنشر مديره تايلر دردن (وهذا اسم مستعار) رابطًا للبحث مؤكدًا الفرضية القائلة إن الفيروس مطور جينيًا ليكون السلاح الأشد فتكًا على الإطلاق. وعلى الرغم من أن دردن نشر منشورًا يقر فيه بسحب البحث من التداول، فإنه لم يتراجع عن اعتناقه نظرية المؤامرة، حتى وصل به الأمر إلى زعمه كشفه هوية الباحث الصيني الذي طور هذا الفيروس لحساب جهات خارجية.

سجلت منشورات "زيرو هيدج" على موقع "فايسبوك" أكثر من 15 ألف مشاركة. أما "توتير" فقد حظر كل المنشورات في حساب "زيرو هيدج".

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن مصادر عدة. الأصول منشورة على الروابط الآتية:
https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(20)30418-9/fulltext
https://www.ccn.com/many-russians-think-america-created-the-wuhan-coronavirus/
https://www.dailystar.co.uk/news/world-news/coronavirus-outbreak-started-secret-lab-21343995
https://www.washingtontimes.com/news/2020/jan/24/virus-hit-wuhan-has-two-laboratories-linked-chines/
https://foreignpolicy.com/2020/02/05/coronavirus-epidemic-wuhan-misinformation-online-social-media/

كما يمكن قراءة رواية "عيون الظلام" (The Eyes of Darkness)على الرابط:

https://epdf.pub/dean-r-koontz-the-eyes-of-darkness3b40f1e2837452382318169fc49e92a419856.html