يرفض مصريون شق طريق جديد بالقاهرة، لأنه يهدم قبورًا أثرية للمماليك، رغم أنه يخفف من الاختناق المروري الذي تعانيه العاصمة المصرية.

القاهرة: تشق السلطات المصرية طريقًا جديدًا قد يساعد على فك الخناق المروري في العاصمة، لكنه يثير سخط المصريين بسبب مروره بـ "قرافة المماليك" في شرق القاهرة وتسببه في هدم قبور عديدة في واحدة من أقدم مناطق جبانات وأضرحة في العالم الإسلامي.

لم يمس المحور المروري الكبير بعضًا من رفات الراقدين تحت الثرى فحسب، بل شرد أيضًا العديد من الأسر التي كانت تتخذ من أحواش المدافن والأضرحة مساكن لها في ظل ارتفاع نسبة الفقر وعدم القدرة على شراء منزل.

ومن هذه العائلات، أسرة منة (33 عامًا)، الأم لثلاثة أطفال والتي فوجئت بجرّافة تهد جدار حوش مدفن أحد باشوات مصر القدامى، يعيشون فيه. وقالت لوكالة فرانس برس وهي تجلس على ركام المدفن: "أخذنا على حين غرة. فجأة وجدنا البلدوزر يهد علينا الحائط ووجدنا أنفسنا نرمي بأشيائنا مثل المجانين". وأضافت: "رمونا في الشارع و شرّدونا و شرّدوا أطفالنا (...) حرام".

من المفارقة أن هذا المحور المروري السريع الذي بدأ إنشاؤه في يوليو حين جثت أعمدته الخرسانية على القبور وأرّقت هدوء مدينة الموتى المدرجة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) للتراث العالمي، يدعى "الفردوس".

المنظر كان بشعًا

كان جد منة ومن بعده والدها هما المسؤولان عن هذا المدفن. وبعد وفاتهما تم دفنهما بداخله. وورثت الشابة المصرية المسؤولية بعدهما وعاشت في المدفن مع زوجها وأطفالها. لكن ما حدث جعلها تقوم بإخراج رفات الموتى من أجل نقلها إلى مكان آخر أكثر أمانًا، وقالت: "المنظر كان بشعًا (...) نقلنا الموتى على حصائر من القش".

بعد تشريدها، تعيش أسرة منة الآن مع جيرانها في جزء لم يتم التعرض له من قبل الحكومة، في "قرافة المماليك" نفسها التي دفن فيها العديد من سلاطين المماليك في مصر قبل نحو 700 عام وتمتد على مساحة 6,5 كلم مربع.

وتملأ "قرافة المماليك" القباب المصممة بشكل مزخرف محفور عليها الآيات القرآنية التي لطالما كانت موضع اهتمام الرسامين والمؤرخين المستشرقين. وتؤكد جليلة القاضي المعمارية المخضرمة والباحثة الحضرية التي تقيم في مرسيليا، لفرانس برس أن هذه القرافة تعتبر "عنصرا مهما في التاريخ الحضري" للعاصمة.

وتوضح أن هذه الجبانة تعود إلى ما قبل الفتح الاسلامي في مصر، إلى القرن السابع الميلادي.

وعبّرت القاضي التي ألفت كتابًا عن "القرافة"، عن أسفها بعد أن وصلت أعمال الهدم إلى محيط تاريخي من المشاهير المدفونة. وضربت مثالا قبة ضريح السلطان أبو سعيد قانصوه أحد سلاطين المماليك الذي حكموا مصر في القرن الخامس عشر. وقالت القاضي إن عمليات الهدم ستؤدي إلى "فقدان الهوية البصرية (للقاهرة) وذاكرتها".

سياسة الجرافات

يربط المحور المروري الجديد الذي يبلغ طوله 17,5 كلم، وسط العاصمة بشرقها المترامي الأطراف. وتأمل السلطات في أن يدفع هذا الطريق حركة المرور نحو العاصمة الإدارية الجديدة التي تبنيها الحكومة على بعد نحو 45 كلم شرق القاهرة.

وبعد موجة احتجاج على نشر صور هدم المقابر على منصات التواصل الاجتماعي، دافعت وزارة الآثار المصرية عن المشروع في بيان الشهر الماضي. وقالت إن "محور الفردوس بعيد عن الآثار الإسلامية المسجلة بقرافة المماليك".

وأكدت الوزارة في بيانها: "لم يتم هدم أي أثر وأن المقابر الموجوده بالصور المنشورة هي مباني غير مسجلة في عداد الآثار الإسلامية والقبطية وإنها مقابر حديثة وخاصة بأفراد".

من جهتها، أوضحت اليونسكو لفرانس برس أنه "لم يتم إبلاغها ولا استشارتها" حول أعمال الهدم في محيط القرافة. وأضافت "لكن مركز التراث العالمي يتابع مع السلطات المصرية لمراجعة الأمر وتقييم أي آثار محتملة على القيمة العالمية الاستثنائية للممتلكات وأصالتها وسلامتها".

وترى القاضي أن ما حدث في الموقع التاريخي "يكشف عن الطابع الأعمى والتعسفي" لرؤية تخطيط عمراني عشوائية يطلق عليها "سياسة الجرافات".

وتجربة "الفردوس" ليست الأولى من نوعها في أعمال البناء المثيرة للجدل. ففي مايو، أثار جسر علوي يجري تشييده في محافظة الجيزة غرب القاهرة جدلًا واسًعا في مصر بسبب اقتراب أجزاء منه من بعض المباني السكنية القائمة بالفعل لمسافة تمكن السكان من لمس سور الجسر أثناء الوقوف في شرفاتهم.

إلا أن وزير النقل المصري كامل الوزير دافع عن المشروع وقال آنذاك في تصريحات لقناة فضائية مصرية "لا يمكن التضحية بمصلحة محافظة بكاملها بسبب بناية أو اثنتين أو عشر". وأضاف أن "750 ألف سيارة ستستخدم هذا المحور".

يسيئون للأحياء والأموات

على وسائل التواصل الاجتماعي ، وثق المصريون الدمار الحضري بصور أقبية مقابر أسرهم بالإضافة إلى الخزائن التاريخية.

وأفاد أحد مستخدمي موقع تويتر من خلال حساب يدعى "موروكروبوليس" أن عائلته من ناحية والدته كانت تمتلك غرفة دفن تحت الأرض في القرافة منذ أربعينات" القرن الماضي. وصرح لفرانس برس من دون ذكر اسمه: "قالوا (السلطات) لنا انهم بحاجة إلى جزء من حجرة دفن النساء لكنهم بدأوا في تدمير السياج وشواهد القبور قبل نقل الرفات".

وأوضح أنه لن يحصل على تعويض من الحكومة لأن القبر دُمر جزئيًا وليس كليًا. وتعلّق منة حزينة: "إنهم يسيئون إلى الأحياء والأموات بلا رحمة (...) وفي النهاية لا أحد يهتم لأمرنا".