لم يُر أفظع من حق عادل يتولاه شخص عييّ جاهل، يخذل أصحاب الحق فلا يستنصر لهم، ولا ينطق بالفصيح عنهم، ضعيف البصيرة، فاقد الحجة، يكشف رباط قومه ويسلط عليهم، عوضَ استبساله لقضيتهم، ودفاعه عنهم.

فهو رث عاجز، وكلٌّ على ناسه، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وهو بين ذلك كله يرتطم بكوارثه، ويضع على أصحاب الحق أوزراً فوق التي كانت عليهم، ويحملهم أكلاف عتهه، وعواقب سقطات لسانه، وعقابيل فشله وعجزه.

وما كانت الرئاسة في تراث الأمم إلا مهمة شاقة، دونت فيها الآداب والمآثر، وكتب عن أصولها القصص والأمثال والنوادر. فالرئاسة والإمارة لمن أخلص لها وأتقنها مرهقة مكلفة، يحمل الآمر على كتيفه مصير أمته، ويتعهد لهم بالرفعة والسيادة، والتفوق والريادة.

عرف التاريخ البشري بكل حضاراته مدونات في الأخلاق الملكية، والآداب الرئاسية، والأصول الديبلوماسية مايعز حصره، ومن خيرة مادون لدى العرب كتاب الجاحظ "التاج في أخلاق الملوك" ويعرف بـ"التاج"، كما يقول محقق الكتاب أحمد زكي باشا، وفي المخطوطة كتب على طرة الغلاف عبارة "في أمور الرياسة". قدم الجاحظ كتابه للوزير العباسي الفتح بن خاقان، مستفيداً مما كتب قبله حول الموضوع لدى الأمم والشعوب، ومضمونه يختصر أساليب مخاطبة أهل الرئاسة للناس، ومخاطبة الناس لهم.

ومن أهم الأخلاق انتخاب جيد الألفاظ، واستبعاد الدنيء منها، فالرئاسة تحكمها قواعد، وتنشد إلى أسس متقنة، وتوثق علاقاتها الكلمات المحكمة.

من جليل أخلاق الملوك الحلم والرأفة، والكرم مع الرعية، وقوة البطش مع الأعداء، وعدم المنة، هذا يقترن شروطاً بصفة الكرم، وكله مشهود في تاريخ السعودية والإمارات، فما أعطوه للعالم من خيرات، ومابذلوه للمكلومين والمظلومين من تبرعات لم يعقب بأذىً ولامنة، فهي منحة وعطية، وماتبعها يوماً تذكير أو تعيير.

وحين تقرأ تحذير الجاحظ لأهل الرياسة، من الكوارث والبواقع، يذكرهم بأن عبارات مثل "اسمع مني، أو افهم عني، أو يا هذا أولا ترى، فإن هذا وما أشبهه عيٌّ من قائله، وحشو في كلامه، وخروج من بسط اللسان، ودليلٌ على الفدامة والغثاثة".

وما رأيت هذه الصفات شارحةً شكلها إلا حين شاهدتُ كلمات كلها فدامة وغثاثة، وخروج ومروق عن الكياسة وآداب الرئاسة، لمحود عباس أبو مازن، مع بعض حوارييه، حين تناوبوا على الشتائم الفجة، والعبارات المخزية، وهي بما تتضمنه من دوافع وغرائز ذاتية حاقدة ارتكاسية تمضغ ضغينتها وتنضح بمافي آنيتها. يتحدث عن الأمية في الخليج! محمود عباس الذي يعيره إدوارد سعيد بـ"الجاهل الذي يخوض مفاوضات وهو أمي اللغات ولا يجيد الإنجليزية"، ينبز الخليج بالأمية، وما علم أن في الخليج مئات الألوف من الطلبة والطالبات تعلموا في الجامعات بالشرق والغرب بأرقى الصروح العلمية. جهل الرئيس أن السعودية تستضيف قمم السياسة والاقتصاد والعلوم، ومنضويةً ضمن أقوى عشرين اقتصادٍ بالعالم!

هل يستطيع محمود عباس بعد ألفاظه النابية أن يشرح معنى الذكاء الاصطناعي، الذي تستضيف السعودية قمةً خاصةً حوله؟ هل يعلم معنى التحولات التقنية والرقمية؟! هل يفهم معنى التعاونات الدولية للاستفادة من الطاقة النووية؟ ما الذي يفصل محمود عباس عن الأمية غير القراءة والكتابة؟!

هل من أخلاق الرئاسة أن يتحدث أبو مازن في مؤتمر عربي ويصف كبير مستشاري البيت الأبيض جاريد كوشنير بـ"زوج البنت هيدا شو أسمه"؟ هل هذا أسلوب رئيس يدافع عن أرض ويبحث عن دولة؟!

لقد عُمّر الخليج بأفكار قادته، ساعدتهم شعوبهم في نهضته، واستثمروا بمستشارين من كل الأمم والشعوب، من الانجليز كما العرب، ومن شتى الأمم، وكل ذلك بأجره وجُعله، كما ارتبط الملوك والزعماء بصداقاتٍ فريدة من مخلصين كثر ومن شعوب عديدة، لكن؛ من بنى الخليج أهلها وقادتها بجهدهم وطموحهم.

على الكثير من العرب الذين يزعمون أنهم بنوا الخليج - وهي عبارة صلعاء لاقيمة لها ولا ترقى لمستوى الحجة - أن يسألوا أنفسهم لماذا لم يحققوا في بلدانهم ما حققته دول الخليج؟!

الأسباب عديدة، وأبرزها ما شرحته مقولات كثيرين منهم متضمنةً: احتقار الناس، الشعور بالتفوق، الزهو الفارغ، الامتلاء بالادعاء والزيف، الارتهان لمشاعر الكراهية ومضغ الضنون، الخواء المعرفي، الانهيارات الأخلاقية، الارتكاسات الاجتماعية. وادعاءات البسالة بينما تذكر سيوف الورق تلك، ومعارك الهواء بقول الشاعر:

فأنتم عضاريط الخميس إذا غزوا ** غناؤكم تلك الأخاطيط في الترب. والعضاريط هم اللئام، الأجراء على ملء البطون، وبالأخاطيط يلمح لحليس الخطاط الأسدي، والجاحظ نقل هذا البيت في كتابه: "الحيوان".

قلتُ: وهذا غير قول الفرزدق:

وأنتُم عَضاريطِ الخَميسِ عَتادُكُم **إِذا ما غَدا أَرباقُهُ وَحَبائِلُه

وَإِنّا لَمَنّاعونَ تَحتَ لِوائِنا**حِمانا إِذا ما عاذَ بِالسَيفِ حامِلُه.

ليت بعض العرب، وأهل القضايا العابرة للحدود أن يعوا أن العالم يعيش تحولات استثنائية، القضية الساحرة، رفيقة الطبول والدبكات والأناشيد، الطيران في مهب الانتصارات الوهمية، الكلمات الشتائمية، حزب الله وحماس والمنظمة الفلسطينية، كلها نابعة من أوهام تحتاج إلى زلازل لإيقاظها من السبات، العالم اليوم يفكر بعقول لا بعواطف، بأرقام ومشاريع ورؤى لا بقصائد وشعارات ودبكات.

مهازل الهجائيات والشتائم تذكرني بجميل شعر شيخ المعرة، ومنه قوله:

إذا وصَفَ الطائيَّ بالبخل مادِرٌ

وعَيَّرَ قُسَّا بالفهاهة باقلُ

وقال السُّهي للشمس أنت خفيَّة

وقال الدُّجي للصبح لونُكَ حائل

وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهة

وفاخرتْ الشُهْبَ الحصى والجنادلُ

فيا موتُ زُرْ، إنَّ الحياة ذميمة

ويا نفسُ جِدِّي، إن دهرَك هازلُ.

فعلاً مهازل ليس لها أول ولا آخر.