ما عادت الحياة السياسية في فرنسا تختلف كثيرًا عنها في الولايات المتحدة الأميركية بسبب تعزيز التيار اليميني حضوره في المشهد السياسي الفرنسي.

إيلاف من بيروت: ما عادت الحياة السياسية في فرنسا تختلف كثيرًا عنها في الولايات المتحدة الأميركية بسبب تعزيز التيار اليميني حضوره في المشهد السياسي الفرنسي، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، ولهذا السبب يقول شبان فرنسيون يتبنون أيديولوجية ناشطي "حياة السود مهمة" إن عنف الشرطة يمثل مشكلة بالنسبة إليهم.

أما بالنسبة إلى آخرين، فإن الاتجاه يمينًا يفسر تدهور جودة البحث الأكاديمي الفرنسي، مع ازدهار الأفكار الخيالية التي انبثقت في الجامعات الأميركية، مثل مفهومي "التقاطعية" و"ما بعد الاستعمار". كما أن هذا هو السبب وراء عجز الناس عن التعبير بحرية عن آرائهم، إذ خنقت أصواتهم ثقافة الإلغاء.

هوس الاحتلافات

ووفقًا للصحيفة الأميركية، ربما تكون الشكوى الأوسع شيوعًا في فرنسا اليوم هي أن الأفكار والممارسات المتأمركة تزيد هوس الفرنسيين بالاختلاف العرقي والديني والجنسي على حساب الشعور بالهوية المشتركة بصفتهم مواطنين في الجمهورية الفرنسية، "وهم لا يخطئون في هذا، فالسياسة الفرنسية، في الواقع، قد تأمركت.

إلا أن المشكلة لا تكمن فعليًا في النظريات اليسارية أو في الانتقادات اللاذعة، إنما تكمن في صعود خطاب يميني انعزالي قومي عدائي ظاهر جليًا في التغطية الإعلامية. فالمحتوى فرنسي بامتياز، لكنه تقليد للمحتوى الأميركي، متن مثل التظلم الذي يستحضر المرارة نتيجة التدهور في الشعور القومي والهجرة والدين".

تضيف الصحيفة: "وكما هو الحال في الولايات المتحدة، النتيجة مشهدٌ سياسيٌ متدهور يمكّن اليمين المتطرف، ويجر البلاد قاطبة في هذا الاتجاه". فقناة "سي نيوز"، أو "فوكس نيوز الفرنسية" كما يسميهما كثيرون، تقلّد بشكل حرفي قواعد واتفاقيات القنوات الإخبارية الأميركية. أطلق الملياردير المحافظ فينسينت بولوريه هذه الشبكة الإخبارية في عام 2017، فجذبت المشاهدين إلى شاشتها من طريق تقديم نقاش جدلي يتميز بميل يميني متشدد. وفي مايو الماضي، حققت إنجازًا كبيرًا إذ سجلت تقييمات أعلى من تقييمات أي شبكة إخبارية فرنسية أخرى تبث على مدار الساعة.

أخبار المخاوف

إيريك زمور هو المتحدث الرئيسي بلسان الشبكة، وهو كاتب مقالات قومي أدين مرات عدة لاعتماده خطاب كراهية متعصبًا ضد الأقليات العرقية والمسلمين، بينما يؤدي مقدم البرامج باسكال براود دور وسيط موضوعي في هذه المسألة. وشأنه شأن تاكر كارلسون، يميل إلى القصص المثيرة التي تتيح له فرصة التحدث باسم "أغلبية صامتة مظلومة في فرنسا".

يفضل مقدمو البرامج في هذه الشبكة تشريح الفضائح لمشاهديهم خارج البلاد، حيث تثير الشائعات الضيوف فور نطقها. كما هو الحال في فوكس نيوز الأميركية، غالبًا ما تعكس الموضوعات المعروضة للبحث مخاوف المحافظين بشأن دولة متغيرة: حجم المولودين في الخارج، والتجاوزات المفترضة للتصحيح السياسي، ومكانة الإسلام، وشعور مكلوم بالفخر الوطني الفرنسي.

في الأغلب، سي نيوز هي من يصوغ أجندة الدولة الفرنسية، وهذا يظهر بتحول أخبار تغطيها الشبكة إلى موضوعات للحوار الوطني، مثل التنمر على مراهقة على وسائل التواصل الاجتماعي بعد وصفها الإسلام بأنه دين الكراهية، أو ضغط حزب الخضر على رئيس بلدية ليون ليقدم وجبات بلا لحوم في المقاصف المدرسية، أو تقديم أقدم اتحاد طلابي في البلاد دعمه للاجتماعات المخصصة للنساء وغير البيض، أو قبول حزب الرئيس إيمانويل ماكرون بمرشحة تعتمر الحجاب الإسلامي على قائمة انتخابات محلية، رغم سحب الحزب ترشيحه بسبب ما تعرض له من ضغط.

علمانية فرنسا على المحك

رغم أن هذه المخاوف تنشط في القلقين بشأن هوية فرنسا العلمانية، فقد ارتقت إلى مصاف القضايا الوطنية، لأن سياسيين بارزين اختاروا التدخل في هذه المسائل، وهم لا ينتمون إلى اليمين المعارض وحده. فقد انضم أعضاء رفيعو المستوى في حزب ماكرون إلى الجدال المشاكس، حتى أن بعضهم فتح جبهات جديدة لتسعير الحرب الثقافية.

في وقت سابق من هذا العام، اشتكت فريديريكا فيدال، وزيرة التعليم العالي، من آفة مفترضة لـ"اليسار الإسلامي"، وهو مصطلح كان استخدامه سابقًا مقتصرًا على اليمين المتطرف حين يشير إلى تحالف سياسي وهمي بين المسلمين المحافظين والمناهضين للرأسمالية، حتى أنها دعت إلى البحث في طمس بعض الأساتذة الخطوط الفاصلة بين البحث والنشاط السياسي، في خطوة أدانتها أكبر مؤسسة بحوث في البلد غذ عدّتها هجومًا على الحرية الأكاديمية في الجمهورية الفرنسية.

يعتقد مستشارو الرئيس الفرنسي أن لهذه المعارك الثقافية منافع سياسية: تجذب الناخبين اليمينيين قبل السباق الانتخابي ضد مارين لوبان، رئيسة التجمع الوطني اليميني المتطرف، في الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، كما تلحق الضرر باليسار الذي يعاني انقاسامات داخلية حادة، ويجد صعوبة في الحديث عن مشكلات التمييز العنصري والديني داخل الإطار القانوني الفرنسي العلماني.

لا "تَأمْرُك" أكثر من هذا

بحسب "نيويورك تايمز"، سواء أتت الإستراتيجية بثمارها أم عجزت عن ذلك في عام 2022، "فإن الحروب الثقافية تدعم اليمين المتطرف، فتُظهر استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الإقليمية أن التجمع الوطني اليميني يتمتع برؤية قوية للسيطرة على الأغلبية في المنطقة لأول مرة على الإطلاق، في حين أن مارين لوبان تنافس ماكرون في الانتخابات الرئاسية منافسة جادة".

لا يستغرب المراقبون ذلك عندما تشغل الناس أخبار حول قضايا خلافية مثل الحجاب الإسلامي وشعور اليسار بتفوقه الأخلاقي والمبالغة في الكلام عن عنف ضد الشرطة. ويلفتون إلى الانحدار الكبير في مستوى الخطاب السياسي في بلد يفتخر بقدرته على النقاش العام رفيع المستوى.

ففي عز تفشي كورونا، وبعد أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا تناقش الأخبار الفرنسية قضايا شاملة مثل التمييز في الثروة أو ثغرات النظام الصحي أو التغير المناخي. بدلا من ذلك، يركز الإعلان الفرنسي على نقاشات بشأن الهوية. فهمل من تأمرك أكثر من ذلك؟

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "نيويورك تايمز". الأصل منشور على الرابط:
https://www.nytimes.com/2021/06/02/opinion/france-cnews-americanization.html