إيلاف من بيروت: اتّهم أعضاء جمهوريون في الكونغرس الأميركي إدارة الرئيس جو بايدن بأنها حجبت تقريرًا عن إمبراطورية حزب الله المالية. ويُعتبر هذا التقرير، الذي كُلِّفت بإعداده وزارتا الخارجية والدفاع، أحد المقتضيات التي نصّ عليها قانون تعديلات منع التمويل الدولي لحزب الله الصادر في العام 2008.

هذا ما كتبه مايكل يونغ في موقع مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، مضيفًا أنه بحسب مقال نُشر على موقع Washington Free Beacon المحافِظ، يرتدي هذا التقرير أهمية شديدة للجمهوريين، "نظرًا إلى أن إدارة بايدن تدرس احتمال رفع العقوبات الاقتصادية عن لبنان الذي يسيطر عليه حزب الله، فيما ترزح البلاد تحت وطأة أزمة نقدية هائلة".

وقال النائب الجمهوري بات فالون: "إذا تراجعت الإدارة الحالية ورفعت العقوبات المفروضة على لبنان، فستكون هذه خطوة مأخوذة من قاموس السياسة الخارجية التي انتهجها نيفيل تشامبرلين. حزب الله وحده يتحمّل مسؤولية الانهيار الاقتصادي في لبنان".

أسئلة مثيرة

ولّد تعليق فالون أسئلة مثيرة للاهتمام، إذ ما من مؤشّر على أن الولايات المتحدة قد فرضت فعليًا عقوبات على لبنان. الأكيد أنها فرضت عقوبات على سياسيين لبنانيين وعلى أعضاء في حزب الله وشركاء له، لكن لا شيء يشير إلى أنها ستعيق مثلًا خطة صندوق النقد الدولي لإنقاذ لبنان. بل واقع الحال أن إدارة بايدن حاولت مؤخرًا مساعدة الجيش اللبناني، فيما زار وفد من أعضاء الكونغرس الأميركي بيروت في أيلول/سبتمبر لدراسة سبل مساعدة البلاد.وصرّح أحد أعضاء الوفد، ريتشارد بلومنثال، قائلًا: "لا أستبعد خيار تطبيق مشروع مارشال مصغَّر من أجل لبنان، لأن مصالح الأمن القومي الأميركي تقتضي ذلك...".

هذه ليست اللهجة التي تُستخدم في معرض الحديث عن دولة خاضعة للعقوبات. والأمر الأكثر دلالة ما نقلته مصادر في الكونغرس لموقع Washington Free Beacon عن أن "الكونغرس يدقّق بشكل متزايد" في رفض إدارة بايدن الإفراج عن تقرير وزارتَي الخارجية والدفاع، "وسط تقارير منفصلة عن استعدادها للموافقة على بعض الإعفاءات من العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام الأسد من أجل تسهيل التوصل إلى اتفاقية مع لبنان حول الطاقة". وتنطوي هذه الاتفاقية على ضخّ الغاز المصري في خط أنابيب يمرّ عبر الأردن وسورية ووصولًا إلى لبنان لتزويد محطة دير عمار الواقعة بالقرب من طرابلس. يُشار إلى أن لبنان يعاني من انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، في ظل نقص الأموال وشحّ الوقود. لذا، من شأن هذه الخطة أن تساعد على إنتاج الطاقة في ظل الركود الاقتصادي الذي تعانيه البلاد.

لكن تطبيق هذه الخطة يتطلّب من الولايات المتحدة استثناء لبنان والأردن من العقوبات الأميركية المفروضة في إطار قانون قيصر الذي صُمِّم لمعاقبة النظام السوري على الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه. والمُلفت أن السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، هي من أعلن عن خطة الغاز في آب/أغسطس، ولكن الطلب الأولي بالسماح بها أتى على لسان العاهل الأردني الملك عبدالله أثناء زيارته إلى واشنطن في تموز/يوليو. وقد تطرّق رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري إلى خطة الغاز بُعيد لقاءٍ جمعه مع مسؤولين مصريين في القاهرة في 16 تموز/يوليو. يشي كل ذلك إذًا بأن مصر والأردن متّفقان حيال لبنان، وأنهما نجحا على ما يبدو في إقناع إدارة بايدن بدعم مقاربتهما.

ما هو الجوهر؟

مع أن العناوين العريضة للخطة تركّز ببساطة على تزويد لبنان بالغاز في هذه المرحلة العصيبة التي يشهدها، يبقى الجوهر الحقيقي هو أن مصر والأردن يحاولان استخدام الأوضاع الراهنة في لبنان وسيلةً من أجل إعادة سورية إلى كنف الدول العربية. ويبدو بشكل متزايد أن مساعي إدارة بايدن التي يصوّرها البعض في واشنطن بأنها ميلٌ نحو إيران ونظام الأسد، تحمل دلالةً أكبر، تتمثّل في أنها مساعٍ عربية لاستخدام الانفتاح على سورية ولبنان لمواجهة النفوذ الإيراني في البلدين وتحويلهما إلى ساحة مساومات بين الدول العربية وطهران.

إذا كان ذلك صحيحًا، فهو يشير إلى حدوث تغييرات جذرية في المواقف العربية حيال الجمهورية الإسلامية. وحتى فترة ليست ببعيدة، كان أمل الكثير من الدول العربية هو أن تعمد الولايات المتحدة، وحتى إسرائيل، إلى احتواء التوسع الإيراني في المنطقة. وقد شكّلت هذه السياسة الرامية إلى احتواء إيران ركنًا من أركان المقاربة الأميركية، إذ اقترحت إدارة كلينتون اتّباع استراتيجية "الاحتواء المزدوج" تجاه إيران والعراق في عهد صدام حسين قبل ثلاثة عقود.

بدت اتفاقات التطبيع التي أُبرمت العام الفائت بين دول الخليج وإسرائيل خطوة إضافية في هذا الاتجاه. فقد شكّلت نوعًا من ثقل موازن في وجه إيران، بعد أن أحجمت الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب عن الردّ على الهجمات الإيرانية التي استهدفت سفنًا سعودية أو إماراتية في أيار/مايو من العام 2019، وبعد أن بدا واضحًا تردّد ترامب في التدخّل نيابةً عن حلفائه السعوديين عقب الهجوم الذي نفذّته طائرات إيرانية من دون طيار على منشأتين تابعتين لشركة أرامكو في مدينتَي بقيق وخُريص في أيلول/سبتمبر 2019.

محاولة فاشلة

مع ذلك، باءت محاولات الولايات المتحدة لاحتواء الجمهورية الإسلامية بالفشل. فقد اتّسعت رقعة نفوذ إيران في الشرق الأوسط على الرغم من خضوعها للعقوبات طيلة عقود. هي لا تقدّم مثالًا يُحتذى به، إلّا أنها استغلت الطبيعة المفكّكة والمتشرذمة للكثير من الدول العربية لتحقيق مصالحها الخاصة. ويبدو الآن أن بعض الدول العربية عمدت إلى تغيير تكتيكاتها بعد إدراكها هذا الواقع وتنبّهها أيضًا إلى أن إسرائيل، من دون دعم أميركي، ستفكّر مليًا قبل شنّ حرب ضدّ إيران من شأنها زعزعة استقرار المنطقة. وإن دلّت سياسات الدول العربية في سورية ولبنان على شيء فإنما تدلّ على أنها قررت التدخل في دولتين تمتلك فيهما إيران نفوذًا كبيرًا، على عكس السعودية التي أوقفت بشكل كامل دعمها للبنان ولحلفائها اللبنانيين منذ سنوات، معتبرةً البلاد حالةً ميؤوسًا منها.

يُعتبر النهج السعودي إلى حدّ كبير مجموعة من الفرص السياسية الضائعة. ففيما لجأ الإيرانيون إلى استخدام علاقاتهم مع حركة أنصار الله في اليمن لإقحام السعوديين في مأزق، توشك السعودية على سحب يدها كليًا من لبنان الذي يضم طائفة سنّية كبيرة يضاهي حجمها حجم الطائفة الشيعية، وتبحث عن راعٍ إقليمي من أجل التصدّي لحزب الله.

لكن ما لا يدركه السعوديون تمامًا أن الكثير من السنّة غير مستعدّين لإطلاق شرارة حرب أهلية جديدة لتحقيق هذا الهدف.

أما المنحى السائد في أماكن أخرى من العالم العربي فيبدو مبتكرًا أكثر. ويشي سلوك مصر والأردن في لبنان، على غرار الإمارات العربية المتحدة وقطر، بأن الدول ذات الغالبية السنّية، إذا نجحت في حشد تحالفاتها وأنصارها في الشرق الأوسط، فهي تملك فرصة أفضل في إرغام إيران على مراعاة مصالح الدول العربية، مقارنةً مع الفرص التي يوفّرها اعتمادها على الأسلحة الأميركية أو الإسرائيلية. إن ما يحدث في العالم العربي إذًا هو عودة إلى اللعبة السياسية.

ونظرًا إلى أن الكثير من الدول التي تهيمن فيها إيران، مثل سورية واليمن ولبنان والعراق، تُعتبر ذات غالبية سنًية أو تسكنها أقليات بارزة معادية لطهران، من المنطقي البحث عن فرص من شأنها دفع إيران إلى القبول بتسويات.

حلبة تناحر

يعيد ذلك إلى الأذهان وضع الشرق الأوسط في خمسينيات القرن المنصرم، حين كانت دول المنطقة تشهد انقسامات داخلية مدفوعة بالتوجهات السياسية لسكانها، من ناصريين أو بعثيين أو شيوعيين أو هاشميين أو موالين للغرب.

وتُعدّ المنطقة اليوم حلبة تتناحر فيها الجهات الإقليمية والدولية، على غرار إيران وتركيا وإسرائيل وروسيا وفرنسا، فيما تحتفظ الولايات المتحدة أيضًا بنفوذ هناك، وبالتالي لا يمكن تجاهل الاحتمالات المتاحة لإحلال توازن مع جهات فاعلة أخرى.

في الواقع، يبدو أن إدارة بايدن، من خلال غضّ الطرف عن صفقة الغاز المصري مع لبنان، تتبنّى هذا المنطق. فقد كان هدف إدارة أوباما إرساء توازن قوى إقليمي قادر على إحداث تغيير من دون تدخلات خارجية بعد الانسحاب العسكري الأميركي، وهو ما يوافق عليه جو بايدن على الأرجح.

وكان باراك أوباما قد صرّح لجيفري غولدبرغ من مجلة ذي أتلانتيك بأن "المنافسة القائمة بين السعوديين والإيرانيين، والتي ساهمت في تغذية الحروب بالوكالة وزرع الفوضى في سورية والعراق واليمن، تتطلّب منا أن نصارح أصدقاءنا، وكذلك الإيرانيين، بحقيقة أن عليهم التوصل إلى طريقة فعّالة لتشارك المنطقة وإحلال نوع من السلام البارد".

تتردّد أصداء هذه الرسالة في العالم العربي اليوم. ففي ظل توقّف الولايات المتحدة عن تنظيم شؤون الشرق الأوسط، تعمد الدول العربية إلى جمع أوراقها لخوض لعبة نفوذ خاصة بها على المستوى الإقليمي. أما في واشنطن، فيبقى النقاش محدودًا، إذ يركّز على خطوات الإدارة الحالية وتأثيرها على الساحة الداخلية، لكن في الشرق الأوسط، تفرض الأنظمة قواعد جديدة للعبة النفوذ، تحضيرًا لرسم معالم منطقة تحوّلت بعيدًا عن أميركا.