ما هو مؤكد ومعلوم لدى الجميع هو أن يهود الولايات المتحدة الأميركية دأبوا على إبداء مساندتهم المطلقة لإسرائيل منذ نشأتها، ولم يجروؤا أبدًا على إدانة حروبها ضد الفلسطينيين والعرب مُعتبرين ذلك حقًّا مشروعًا للدفاع عن وجودها. إلاّ أنه يبدو بحسب صحيفة "لوموند" في عددها الصادر يوم الأحد السادس والعشرين من هذا الشهر، أن الأوضاع تغيّرت، وأن يهود أميركا الليبيراليين منهم تحديدًا، شرعوا في التمرّد على ما أسموه بـ"انحرافات" الدولة العبرية التي يتحكم فيها راهنًا اليمين الوسطي، واليمين المتطرف الذي لم يتردد في الفترة الأخيرة في نفي وجود شعب اسمه شعب فلسطيني، بل يوجد عرب فقط_ بحسب زعمه. كما أن اليمين المتطرف مُتمثلا بوزير المالية الحالي بتسائيل سموتريتش وضع خريطة للدولة العبرية تضمّ الأردن، الشيء الذي أثار غضب المملكة الهاشمية.

وعبر المنابر، وفي الصحف، وفي مختلف وسائل الاتصال الاجتماعي، ارتفعت أصوات اليهود الأميركيين للتعبير عن مساندتهم المطلقة للمظاهرات الشعبية الضخمة التي تنتظم يوميًا في إسرائيل للتنديد بسياسة بنيامين ناتانياهو الذي يدعو إلى الحدّ من سلطة المحكمة العليا لكي يتمكن من تمرير قراراته ومخططاته.

ولعل الحاخام الأميركي ريك جاكوبس هو أفضل من عبّر عن غضب مواطنيه من نفس الجنسية، وذلك خلال الزيارة التي أداها إلى اسرائيل في أواخر شهر فبراير-شباط الماضي.

وفي تصريح عبر الهاتف لجريدة "لوموند"، قال ريك جاكوبس: "نحن نتكلم هنا بلغة الحب. لقد حان الوقت للعمل من أجل إقامة دولة يهودية ديمقراطية. وهذه الدولة مُهددة الآن من قبل المتطرفين الأرثوذوكس، والمتطرفين الشوفينيين. وهؤلاء لهم رؤية مُتعالية لليهودية ترفض العلمانيين والاصلاحيين. وأنا لا أستطيع أن أتصور دولة يهودية من دون أن تكون دولة ديمقراطية. أما هؤلاء المتطرفون فلا يرغبون في ذلك. ومثل هذه التغيرات التراجيدية ستكون لها تداعيات خطيرة على الأقليات في غياب دستور، وفي غياب محكمة عليا لأنها لن تجد طرقا لحماية نفسها".

ويبلغ عدد اليهود في الولايات المتحدة سبعة ملايين ونصف مليون. وتقول جريدة "لوموند" بإنه من المبالغة أن نتحدث عن توافق الأغلبية الساحقة منهم في الرأي، إلاّ أن تقارير الاحصائيات التي أجريت مؤخرًا تؤكد أن هناك سبعين بالمائة منهم ديمقراطيون. وجميعهم يؤكدون أن المبادئ الديمقراطية تتفوق على المبادئ الدينية والعرقية وغيرها.

وتقول اليهودية الأميركية هالي سوافير التي عملت مستشارة لدى أربعة أعضاء ديمقراطيين من مجلس الشيوخ إن غضب يهود أميركا "خارج عن المعتاد"، لأن هؤلاء كانوا يعلنون دائما عن مساندتهم المطلقة للدولة العبرية خصوصا حين يتعلق الأمر بهجومات إرهابية، أو بتهديد مباشر لوجودها. أما الآن فإن الأمر يتعلق بمصير الديمقراطية، وهي الركيزة الأساسية التي قامت عليها الدولة العبرية. فإن هي تقلصت أو انقرضت، فإن إسرائيل ستفقد الكثير من مصداقيتها، بل ربما تفقدها تماما.

وفي شهر ديسمبر-كانون الأول من العام الماضي، وقّع 400 حاخام أميركي على لائحة تتضمن منع كل متطرف من الكلام في الاجتماعات والندوات.
وهناك رسالة كان الحاخام دافيد تويتش المعروف بمواقفه المناهضة لضم الضفة الغربية إلى الدولة العبرية من محرريها، وفيها إدانة إلى ما سُمّي بـ"الفاشية اليهودية".

وقد لاقت هذه الرسالة انتشارا واسعا لدى يهود الولايات المتحدة الأميركية. وفي سان فرانسيسكو هناك منظمة تدعىUN -XEPTABLE. وهي تدين بشدة سياسات اليمين الإسرائيلي. وقد قامت هذه المنظمة في الثاني عشر من شهر مارس-آذار الحالي، بتنظيم تظاهرة أمام الفندق الذي أقام فيه وزير المالية الإسرائيلي بيتسائيل سموتريتش خلال زيارته لواشنطن للتنديد بالانحرافات الخطيرة في سياسة الدولة العبرية راهنا.

وفي افتتاحيته بجريدة "نيويورك تايمز" بتاريخ السابع من الشهر الحالي، طالب الصحافي المعروف توماس فريدمان يهود أميركا بأن يختاروا معسكرهم تماما مثلما هو الحال في الحرب الأهلية التي يكون فيها الحياد والتحفظ مرفوضين.

ويضيف توماس فريدمان قائلا :"تواجه إسرائيل الآن أكبر نزاع داخلي منذ تأسيسها. وكل حاخام، وكل زعيم يهودي في أميركا يختار الصمت إزاء هذه المعركة، لن يكون له أي معنى".