فيما أغذي طفلي الأميركي الفلسطيني في نيويورك، لا أستطيع التوقف عن التفكير في معاناة تقع على بعد آلاف الأميال

إيلاف من بيروت: لا أطفال في غزة. هذا ما تقوله والدتي. لا أطفال، إنما أرواح هرمة في أجساد صغيرة، فكيف يمكنك أن تكون طفلًا وأنت تواجه احتمال الموت منذ لحظة ولادتك؟ هكذا تبدأ رند عبد الفتاح مقالتها في "ذا أتلانتيك".

تروي: "مر ما يزيد قليلًا على شهر منذ الهجوم المروع الذي شنته حماس في 7 أكتوبر الماضي. وما زلت أتذكر الشعور الذي يفطر القلب عندما رأيت أبرياء ملطخين بالدماء، مكسورين قد تغيروا إلى الأبد، ومثقلين بألم لا ينبغي أحد أن يتحمله. بعد ذلك، فكرت في ما سيحدث لاحقًا، وغرق قلبي في الحزن أكثر لأنني علمت أن غزة ستعيش معاناة رهيبة".

في الأسابيع التي تلت ذلك، نفذ الجيش الإسرائيلي حملة انتقامية لا هوادة فيها في واحدة من أكثر الأماكن كثافة سكانية على وجه الأرض. وسط القصف المستمر، تبكي الأمهات، ويهرع الأطباء لإنقاذ المرضى قبل نفاد الوقود، ويرتعد الأطفال خوفًا. ويموت الكثير. تقول رند: "كنت أشاهد هذه الصور للأطفال الموتى والمحتضرين، تم تسجيلها على الهواتف ونقلها الصحفيون الذين تتعرض أسرهم للخطر، فيما كنت أغذي ابني حديث الولادة، على بعد آلاف الأميال، على أريكة في نيويورك، إلى جانب والدتي، التي تركت منزلها في مخيم للاجئين في الضفة الغربية خلال الفترة التي سبقت الحرب العربية - الإسرائيلية في عام 1967".

نكبة أخرى

تضيف: "عامل إسعاف يحتضن طفلًا لا يكبرني كثيرًا. طفلة صغيرة تصرخ طالبة والدتها المدفونة الآن في مكان ما تحت الأنقاض. طفل صغير يحمل ما تبقى من أخيه إلى المستشفى. ذكّرتني عيناه الرماديتان الواسعتان بطفلي. الدموع تملأ عيني أمي. إنها لا تتحدث عن طفولتها، وعما كان عليه الحال عندما نشأت في مخيم للاجئين. غادرت عائلتها إلى الأردن قبل سنوات قليلة من دخول الدبابات إلى الضفة الغربية. قالت لي بالعربية: ’عائلة والدك غادرت أثناء الحرب، ولم يكن معها سوى الملابس التي. هذه نكبة أخرى‘".

تتابع عبد الفتاح: "النكبة.. هكذا يتذكر الفلسطينيون ما حصل في عام 1948، عندما تم تهجير ما يقدر بنحو 700 ألف فلسطيني قسرًا أو فروا خوفًا من المجازر. كان والدي والدتي بينهم. أتخيل أن النزوح بدا مشابهًا لما نراه في غزة اليوم، بحر من الناس يغادرون منازلهم سيرًا على الأقدام، ويشقون طريقهم عبر متاهة من الحطام، غير متأكدين مما إذا كانوا سيتمكنون من العودة يومًا ما، بحثًا عن الأمان. لكن في غزة، لا مكان آخر للذهاب إليه، ولا مكان آمنًا. هذه الصور التي تملأ شاشاتنا قد تحكي جزءًا فقط من القصة. من يدري أي عنف مجهول يشهد عليه الظلام هناك".

بحسبها، ما نعرفه هو أن طفلًا يُقتل كل 10 دقائق في غزة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. وتفيد وزارة الصحة في غزة أن أكثر من 4500 طفل فلسطيني قتلوا منذ بدء هذه الحرب. تقول: "ولد هؤلاء الأطفال ونشأوا في ما تشير إليه العديد من منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة هيومن رايتس ووتش، باعتباره أكبر سجن مفتوح في العالم. ما هي الجريمة التي يمكن أن يرتكبها طفل؟ أنظر إلى ابني العاجز والضعيف، الذي ينام براحة في الحضانة مع أصدقائه من حيوانات الغابة الذين يراقبونه. هذا ما يراه ابني. أما أطفال غزة، فما الذي يزين جدرانهم؟ تلك الجدران التي لا تزال قائمة؟ أحدق في وجوه هؤلاء الأطفال المغطاة بالغبار والدماء بينما أمسح وجه طفلي المبتسم المخمور بالحليب، وأتساءل: ماذا سأقول له عندما يبلغ من العمر ما يكفي ليفهم؟ كيف سأشرح ما يعنيه أن تكون فلسطينيًا؟"

أن تكون فلسطينيًا

وفقًا لرند عبد الفتاح، هذا سؤال كافحت للإجابة عليه طوال حياتها، وهو أحد الأسباب التي دفعتها إلى العمل في الصحافة. مع ذلك، يتعلق هذا السؤال أيضًا بجزء من هويتها الذي غالبًا ما تخجل من التحدث عنه علنًا. تقول: "أن تكون فلسطينيًا يعني أن تفقد السيطرة على قصتك". تضيف: "هذا سؤال ربما لا يكتفي بإجابة واحدة كبيرة بل يريد 100 إجابة صغيرة. رائحة المنسف اللذيذة، اللون الأحمر النابض بالحياة في الثوب الذي كانت جدتي ترتديه دائمًا، والشغف المتقد بزيت الزيتون، والخطوة الأولى والثانية للدبكة التي نرقصها في الأعراس، والتهويدة التي تغنيها أمي لتهدئة ابني حتى ينام. الألم. دفن الأطفال عامًا بعد عام، وعقدًا بعد عقد، والنضال من أجل الحفاظ على هذه الهوية حية".

تتابع عبد الفتاح: "مع كل طفل جديد يتم العثور عليه بين حطام مدرسة أو منزل أو مستشفى أو مخيم للاجئين، أشعر بأنني مضطرة إلى معرفتهم بالأسماء التي كتبها آباؤهم على أجسادهم خوفا من عدم التعرف عليهم بطريقة أخرى. حمزة. جود. لانا. يوسف. علي. ريان. أسماء مثل أختي وأبناء عمومتي وبنات إخوتي وأبناء إخوتي. الأسماء التي فكرت بها لابني".

تنتهي عبد الفتاح إلى القول: "لا أطفال في غزة. قيل لنا فقط هناك إرهابيون ودروع بشرية. بغض النظر عن الطريقة التي تنظر بها إلى الأمر، أطفال غزة محاصرون في عالم بني قبل فترة طويلة من ولادتهم، تهزه قوى خارجة عن سيطرتهم، وقد سُلبت منهم إنسانيتهم. مثل الأمهات في كل مكان، أسمع بكاء ابني الصغير، وأذهب إليه. احمله وأريحه. إنه إنسان فقط. إذا شعرنا بالخدر تجاه صرخات أطفال غزة، ألا نجازف بخسارة إنسانيتنا؟".


أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن مقالة كتبتها رند عبد الفتاح ونشرتها "ذا أتلانتيك"