إيلاف من بيروت: سلطت وفاة إسحق ارازي رئيس مجلس الطائفة اليهودية المنحسرة في لبنان الضوء على تاريخ وجودها الذي يمتد لقرون خلت. فرغم كونها إحدى الطوائف الـ18 المعترف بها في الدستور اللبناني الطائفي، لا يزيد عديدها في لبنان حاليًا عن ثلاثين شخصًا.

أرازي الذي توفي أمس الثلثاء عن عمر 80 عامًا، ودُفن في المقبرة اليهودية في العاصمة اللبنانية، أشرف في مطلع الألفية الجارية على أعمال ترميم الكنيس الوحيد في بيروت(ماغن أبراهان) الواقع في حي وادي أبو جميل حيث اشتهرت منطقة سابقًا باسم "وادي اليهود". وأمل عام 2009 أن تعزّز هذه الخطوة فرصة توسيع عديد أفراد الجالية مجددًا.

وفاة رئيس الطائفة اليهودية في لبنان
صورة متداولة لرئيس الطائفة اليهودية في لبنان الراحل اسحق ارازي

تساؤلات
وكانت التساؤلات قد توالت إبان الإعلان عن ترميم الكنيس عن جدوى إحياء هذا المعبد لطائفة تكاد تندثر من لبنان. حيث تساءلت وسائل الإعلام الدولية وحتى بعض أعضاء الجالية اليهودية داخل وخارج لبنان عمن سيصلي هناك بعدما تراجع عديدهم في مختلف المناطق اللبنانية تبعًا للأحداث المتعاقبة عبر العقود. فهذا الكنيس الذي يُعتبَر الأكبر في العالم العربي، كان قد دُشن عام 1926، حين كان عدد اليهود 22 ألفًا قبل الحرب الأهلية اللبنانية.

التاريخ القديم
معظم اليهود اللبنانيين كان من أصول مزراحية، ولقد عاشوا في العاصمة بيروت وضواحيها.
ويشير التاريخ القديم إلى دلائل على أن اليهود امتدوا إلى سفوح جبل الشيخ. وفي التوراة، سمي هؤلاء اليهود بقبائل "المنسي" والتي تعني في العبرية "الذين نسوا أنهم يهود".
ويشير الإنجيل المسيحي إلى وجود تجمعات يهودية حول صور وصيدا وقانا بناء على قصص رحلات يسوع المسيح.

وتقول المراجع التاريخية أنه عقب ثورة بار كوخبا التي حصلت عام 132، هرب اليهود من بطش الرومان واستوطنوا بعض المناطق في لبنان. وبين عامي 642 و 680، أنشأ معاوية مستوطنات يهودية في طرابلس. وعام 922، كان هناك وجود لليهود في مدينة صيدا، وأنشأ المعهد اليهودي الفلسطيني في مدينة صور عام 1071.

اضطرابات ونزوح
وخلال اضطرابات 1840 و1860 بين الدروز والمسيحيين في لبنان، نزح العديد من اليهود من دير القمر في الشوف إلى مناطق حاصبيا.

وفي بدايات القرن العشرين، وتحديدًا عام 1911، انتقل يهود اليونان وسوريا والعراق وتركيا إلى مدينة بيروت ليصبح عدد سكانها اليهود حوالي 5000 نسمة.
ونمت الجالية اليهودية بفترة الانتداب وشاركت بالعمل السياسي. وخلال فترة لبنان الكبير، نشرت صحيفتين يهوديتين هما "العالم الإسرائيلي" وصحيفة اقتصادية بعنوان "Le Commerce du Levant" الصادرة بالفرنسية.

النكبة
أما بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، فقد تواجدت الجاليات اليهودية في وادي أبو جميل ورأس بيروت، وبشكلٍ أقل في منطقة الشوف وخصوصًا في دير القمر وعاليه وبشامون وبحمدون وصيدا وحاصبيا.
وتشير المدونات، إلى أن يهود لبنان رفضوا آنذاك دعم منظمة يشوب الصهيونية المتطرفة. وكان لبنان البلد العربي الوحيد الذي زاد تعداد الجالية اليهودية بعد اعلان دولة إسرائيل عام 1948. لكن، إثر أحداث الثورة عام 1958، هاجر العديد منهم إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وكانت لحرب لبنان الأهلية الاثر السلبي الأكبر على يهود لبنان حيث قُتِلَ فيها 11 زعيمًا يهوديًا عام 1982.

وفي العام نفسه، دمّر الطيران الإسرائيلي كنيس ماغين أبراهام في بيروت خلال الغزو الإسرائيلي للمدينة. فأصبح حي اليهود في وادي أبو جميل خاليا. وكان يوسف مزراحي، آخر الزعماء اليهود الذين هاجروا لبنان إلى فرنسا عام 2003.

معابد
يوجد في لبنان حاليًا 1500 يهودي. لكن 60 منهم مسجلين كيهود والباقين تحولوا إلى ديانات أخرى.
ولا يمارس يهود لبنان المتبقين شعائرهم لعدم وجود حاخاميين. كما أنهم يتحفظون عن إظهار أنفسهم كيهود خوفًا من اعتبارهم عملاء لإسرائيل.
والجدير ذكره أن هناك معابد لليهود اللبنانيين في الجالية الشتات. وهي التجمع ماغين أبراهام في مونتريال، وجبل لبنان (Har HaLebanon) لتجمع اللبنانيين السفارديم في نيويورك.

لمحة تاريخية
وفي لمحة تاريخية، انتقل اليهود من إيطاليا واليونان وسوريا والعراق وتركيا ومصر وإيران إلى بيروت عام 1911، فزاد عدد أفراد الجالية عن 5000 يهودي.
ولقد كفلت المادتان 9 و10 من دستور لبنان لعام 1926 حرية ممارستهم للشعائر الدينية كبقية الطوائف. فكان للطائفة اليهودية الحق في إدارة شؤونها المدنية الخاصة، بما في ذلك التعليم، وبالتالي كانت الطائفة اليهودية محمية دستوريًا.
وازدهرت الطائفة اليهودية في ظل الانتداب الفرنسي ولبنان الكبير. فقد كانوا أصحاب نفوذ آنذاك في جميع أنحاء لبنان.

ويمكن اختصار تطور وجود الجالية اليهودية في بيروت على ثلاث مراحل.
الأولى حتى عام 1908، حيث نما عدد السكان اليهود في بيروت بسبب الهجرة من الداخل السوري ومن مدن العثمانية مثل إزمير، سالونيكي، إسطنبول، و بغداد.
وشكّل النمو التجاري في المدينة الساحلية المزدهرة، والحماية القنصلية، والسلامة والاستقرار النسبيين في بيروت، عوامل أدت إلى الهجرة اليهودية.
وهكذا، من بضع مئات في بداية القرن التاسع عشر، نما عدد الجالية اليهودية إلى 2500 بحلول نهاية القرن، وإلى 3500 بحلول الحرب العالمية الأولى.
في هذه الفترة، كانت الفوضى تعم المؤسسات. وربما كانت المؤسسة اليهودية الأكثر تنظيمًا وشهرة في المدينة هي المدرسة الداخلية الخاصة تيفريت إسرائيل (مجد إسرائيل) التي أسسها زكي كوهين في عام 1874. وقد اجتذبت الطلاب اليهود من عائلات ميسورة مثل شلوش (يافا)، ومويال (يافا)، وساسون (بغداد).
كان مؤسسها، المتأثر بالإصلاحات العثمانية والاتجاهات الثقافية المحلية، يطمح إلى إنشاء مدرسة يهودية حديثة. فقدم من خلالها مواضيع علمانية ويهودية وتجارية بالإضافة إلى سبع لغات. لكن، هذه المدرسة أُغلِقَت في بداية القرن العشرين بسبب الصعوبات المالية.

بعدها، أشعلت ثورة تركيا الفتاة (1908) عملية التنظيم. وفي غضون ست سنوات، أنشأت طائفة بيروت اليهودية جمعية عامة، ومجلسًا منتخبًا مكونًا من اثني عشر عضوًا، وقام بصياغة القوانين الطائفية، وعيّن حاخامًا كبيرًا، وعيّن لجانًا لإدارة الضرائب والتعليم.


منظر عام يُظهر كنيس ماغن أبراهام، الذي كان يخضع للترميم، في العاصمة اللبنانية بيروت في 19 أكتوبر(تشرين الأول) 2010.

لبنان الكبير
ومع إنشاء لبنان الكبير (1920)، أصبحت الطائفة اليهودية في بيروت جزءًا من كيان سياسي جديد. فقد اعتمد حكام الانتداب الفرنسي تقاليد سياسية محلية لتقاسم السلطة واعترفوا بالاستقلال الذاتي لمختلف الطوائف الدينية. وهكذا، كانت الطائفة اليهودية واحدة من الطوائف الستة عشر في لبنان وتمتعت بقدر كبير من الحكم الذاتي.
وخلال المرحلة الثالثة من تطورها، أسس المجتمع مؤسستين رئيسيتين: كنيس ماغين أبراهام (1926)، ومدرسة مجتمع التلمود-توراة سليم طراب المتجددة (1927).
حينذاك، حافظ المجتمع على خدمات الرعاية الاجتماعية مثل جمعيات بيكور حوليم، وأوزير-دليم، ومتان-باستر بفضل مساهمات أفراد المجتمع القادرين، الذين ساهموا في الأعياد والاحتفالات اليهودية، من خلال اشتراك الأعضاء البارزين، وفعاليات جمع الأموال واليانصيب، بحيث كانت الطائفة مستقلة ماليًا ولم تعتمد على الأعمال الخيرية اليهودية الأوروبية حصرًا.

القرن العشرين
في القرن العشرين، أظهرت الجالية اليهودية في لبنان القليل من المشاركة أو الاهتمام بالسياسة. فقد كانوا تقليديين بشكل عام وليسوا متدينين، ولم يشاركوا في نزاعات الجماعات الدينية في البلاد. بشكل عام، كانوا يميلون إلى دعم القومية اللبنانية ويشعرون بالتقارب تجاه فرنسا التي لم تشجع في ذلك الوقت التعبير عن الصهيونية، التي اعتبرتها أداة في يد منافسها البريطاني.

القضية الصهيونية
وتشير المدونات التاريخية، إلى أن شاب يهودي لبناني اسمه جوزيف عازار، أخذ على عاتقه دفع القضية الصهيونية مع أفراد آخرين في أكتوبر 1930، وقال في تقرير للوكالة اليهودية: "قبل اضطرابات أغسطس 1929 أظهر يهود لبنان تعاطفًا كبيرًا مع القضية الصهيونية وعملوا بنشاط من أجل فلسطين، وقد أنشأوا جمعيات تجمع الأموال من أجلكيرين كايميث وكيرين هيسود."
وقال إنه بعد عام 1929، بدأ اليهود "يخافون من أي شيء له أي علاقة بالصهيونية وتوقفوا عن عقد الاجتماعات وجمع الأموال".
وقال أيضا إن مجلس طائفة اليهود في بيروت "سعى إلى منع أي شيء له طابع قومي يهودي لأنه كان يخشى أن يؤدي ذلك إلى جرح مشاعر المسلمين".
وأشارت مصادر أخرى إلى أن مثل هذا العمل الخيري لم يكن مدفوعًا بالصهيونية بقدر ما كان من خلال الاهتمام بمساعدة اليهود المحتاجين.

واعتُرِف بـ"اتحاد مكابي العالمي" رسميًا من قبل السلطات اللبنانية. وكان مركزًا نشطًا للشؤون الثقافية اليهودية في بيروت وصيدا. فقد قام المكابي بتدريس اللغة العبرية والتاريخ اليهودي، وكان نقطة التركيز للحركة الصهيونية الصغيرة في البلاد.

طرد مفتي القدس
بعد أعمال الشغب عام 1929، طُرد مفتي القدس من فلسطين واختار الاستقرار في لبنان، حيث واصل حشد المقاومة ضد المطالبات الصهيونية بفلسطين.
وخلال أعمال الشغب، سعى بعض القوميين المسلمين ومحرري إحدى الصحف اليونانية الأرثوذكسية الكبرى_ الذين رأوا مصير الدولة اللبنانية الناشئة ضمن سياق عربي أوسع_ إلى التحريض على الاضطرابات في لبنان.
فحينذاك، كانت معظم الجماعات العرقية والدينية بعيدة عن الصراع المرتقب في فلسطين.

أما خارج بيروت، فكانت المواقف تجاه اليهود عادة أكثر عدائية. وفي نوفمبر 1945، قُتل أربعة عشر يهوديًا في أعمال شغب مناهضة لهم في طرابلس.
ووقعت أحداث أخرى معادية لليهود في عام 1948 في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948.


مدافن يهودية في لبنان دمرتها الفيضانات عام 2019

هجرة
هاجر ما يقدر بنحو 6000 يهودي لبناني في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، ما أدى إلى تقليص عدد المجتمع إلى 450 شخصًا بحلول عام 1975. فالحرب الأهلية اللبنانية والحرب مع إسرائيل 1982 قللت من عدد اليهود في البلاد.

وكانت الحرب الأهلية اللبنانية، التي بدأت في عام 1975، أسوأ بكثير بالنسبة للجالية اليهودية اللبنانية، حيث قُتل حوالي 200 شخص في المذابح.
وفي عام 1982، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، قُبِضَ على 11 من قادة الجالية اليهودية، وتم قتلهم على يد متطرفين.

وأثناء تقدم الجيش الإسرائيلي نحو بيروت، قام رئيس حركة فتح آنذاك ياسر عرفات بتعيين مسلحين فلسطينيين لحراسة كنيس ماغين أبراهام، الذي كان أحد أهم رموز المجتمع اليهودي، ويقع بالقرب من البرلمان.
لكن، الطيران الإسرائيلي قصف الكنيس على افتراض أنه تم استخدامه كمخزن للأسلحة من قبل الفلسطينيين. فيما عاد بعض اليهود اللبنانيين خلال الغزو الإسرائيلي إلى بيروت، كقوات غازية.

جرائم خطف
يُذكر أنه في السنوات الأخيرة من القرن العشرين حين دارت الحرب الأهلية اللبنانية، اختُطِفَ إسحق ساسون، زعيم الطائفة اليهودية اللبنانية، تحت تهديد السلاح في 31 آذار(مارس) عام 1985، وهو في طريقه من مطار بيروت الدولي، في حادثة أتت عقب اختطاف الطبيب إيلي الحلاق (60 عامًا)، وعدد آخر من اليهود اللبنانيين الذي قُتِلوا على يد خاطفيهم.

وادي أبو جميل، الحي اليهودي في بيروت، أصبح الآن مهجورًا وخاليًا إلا من حوالى 30 يهوديًا معظمهم من كبار السن.
ورغم قلة عددهم، يجد هؤلاء صعوبة في مواصلة تقاليدهم الدينية وعبادتهم في غياب الخاخامات.
والأهم، أنهم يميلون للابتعاد عن الأضواء لحماية أنفسهم من الهجمات المرتبطة بالمفهوم الخاطئ القائل بأن كل يهودي هو عميل لإسرائيل في لبنان الذي يتسع فيه مفهوم العمالة ويضيق وفقًا لمصالح قوى الأمر الواقع، التي ترمي التهم جزافًا بصبغة طائفية، أو لغاية سياسية كيدية، بملفات حاضرة دوما في جعبة المغرضين!
يهود لبنان طائفة انحسرت بفعل العوامل الداخلية والتبعات الاقليمية ناهيك عن المخططات الدولية الداعمة لفكرة دولة إسرائيل. لكن، فوق كل الاعتبارات ثمة سؤال يطرح نفسه: هل كان اليهود ليهاجروا لو أنهم تمسكوا بأرضهم وجاهروا بتغليب الانتماء الوطني اللبناني على ارتباطهم بدولة اسرائيل؟ أم ان الاتهامات بالعمالة والتصفيات كانت ستطالهم حتمًا تبعًا لأزمة فلسطين؟!