ذات صباح وبعد مرور أيام على اندلاع القتال بين الجيش الحكومي وقوات الدعم السريع في مدينة الفاشر، خرجت سعدية من منزلها إلى بيت الجيران لتفقد أحوالهم.
وحالما وصلت سقطت قذيفة في الجوار، ولكنها لم تكن تعلم أن تلك القذيفة سقطت في منزلها بالذات إلا بعد أن أبلغتها جاراتها بذلك، فهرولت راجعة لتكتشف أن القذيفة سقطت على ابنتيها اللتين كانتا تلعبان في ساحة المنزل.
"تمنيتُ لو كنتُ أنا الميتة"
أخبرتنا سعدية – وهو ليس اسمها الحقيقي - في رسالة صوتية أنها لم تصدق ما رأته عيناها: "المشهد كان فظيعا، إذ وجدت بنتي سمر وسحر وقد أصبحتا أشلاء في وسط ساحة المنزل وبالقرب منهما كان والدهما وهو يبكي بشدة .. تمنيتُ لو كنتُ أنا الميتة بدلا عنهما".
وأضافت أنها لم تدر كيف تتصرف، وقبل أن تفيق من هول الصدمة سَمعتْ صراخا من منزل جيرانها الآخرين، "علمتُ أن شظية من القذيفة التي سقطت في منزلنا قد وصلت إلى بيت الجيران وأودت بحياة ابنهم رياض".
قررت سعدية وزوجها الخروج من الحي الذي يقطنان فيه والتوجه إلى معسكر للنازحين لا يبعد كثيرا عن منطقتهما.
وقالت إنها شعرت بالسكينة بعد أن لقيت ترحابا من لدن مجتمع النازحين، ولكن لم تكد تمر فترة بسيطة حتى تدهورت الأوضاع الأمنية أيضا هناك بعد أن أصبح المعسكر عرضة للقصف من قبل طيران الجيش ومدفعية قوات الدعم السريع.
"قررتُ الخروج نهائيا من الفاشر مع ابني الوحيد، وقرر زوجي البقاء مخافة أن يُقتَل أو يتعرض للاعتقال من لدن الأطراف المتحاربة.
لقد كانت عملية الخروج من الفاشر صعبة وخطيرة للغاية، ولكن سعدية كانت مجبرة على الرحيل.
"خرجنا في الصباح الباكر وقبل شروق الشمس على متن سيارة وكانت معنا أسر عدة بها أطفال ومسنون، ومن حسن الحظ كانت الأوضاع هادئة نسبيا فلم نتعرض لأي خطر ما عدا بعض طلقات الرصاص، وبعد ساعات مررنا بعدد من نقاط التفتيش التابعة للجيش والحركات المسلحة وقوات الدعم السريع ثم تمكنا من الخروج والوصول إلى مدينة مليط".
- قصة مارسيلين لوو الفنانة التي قرّرت البقاء في السودان
- الأمم المتحدة تحذر من أن الملايين باتوا على حافة المجاعة في السودان
- "كل ما أطلبه هو إخراجي من هذا المكان، حتى لو كان هذا يعني عودتي للسودان"
ومضت سعدية تسرد عبر تسجيلها الصوتي: "ما سهل عملية الخروج هو عدم وجود رجال وشباب معنا كما أن السائق كان يدفع أموالا في كل نقطة تفتيش للجنود .. كان الوقت مبكرا وفي بعض نقاط التفتيش لم نجد أحدا، إذ كانوا ينظرون إلى السيارة ويبحثون عن الشباب أو السلاح..
"بعض السكان يدفنون موتاهم دون أوراق ثبوتية"
يسيطر الجيش والفصائل المتحالفة معه على الفاشر، لكن المدينة تعيش تحت حصار قوات الدعم السريع التي تسعى للاستيلاء عليها، وإذا تحقق هذا السيناريو فسيكون إقليم دارفور كله تحت قبضة قوات حميدتي.
وتحتل مدينة الفاشر موقعا استراتيجيا في شمال دارفور، إذ تعد الآن المدينة الكبيرة الوحيدة التي يمكن الوصول إليها من مدن شمال السودان بسبب قربها الجغرافي من تلك المناطق، وبالتالي فهي تعد المدخل الوحيد لقوافل المساعدات الإنسانية القادمة من ميناء بورتسودان – على ساحل البحر الأحمر - الذي يستقبل المساعدات الخارجية في الوقت الحالي، ومن ثم تُنقل المساعدات منها إلى بقية أرجاء الإقليم.
هذه المدينة التي تشهد اشتباكات عنيفة ودموية بين الجيش والفصائل المتحالفة معه من جهة وقوات الدعم السريع من جهة أخرى انقطعت عنها شبكة الاتصالات، كما فُرضت قيود صارمة على عمل الصحفيين ومنظمات الإغاثة الإنسانية.
تمكنتُ من التواصل مع هيئة المحامين في دارفور، وهي هيئة حقوقية مستقلة، تنشط في إقليم دارفور.
وقد رسم لنا الأمين العام للهيئة، الصادق حسن، صورة شديدة القتامة للفاشر والمناطق المحيطة بها، وبينما تقدر السلطات الرسمية عدد ضحايا القتال في المدينة بنحو 150 شخصا، تقدر الهيئة عددهم بالضعف.
ويقول حسن: "حسب الإحصاءات المتوفرة لدينا فإن أعداد القتلى ربما تجاوزت 300 شخص، لأن بعض السكان يدفنون موتاهم دون أوراق ثبوتية ودون نقلهم إلى المستشفيات".
"أصبح الإنسان هنا بلا قيمة"
ويصف الصادق حسن الفاشر بأنها أصبحت معسكرا كبيرا للنازحين بعد أن نزح إليها السكان من إقليم دارفور كافة"، ويعيش هؤلاء أوضاعا صعبة إذ لا يوجد طعام ولا مياه صالحة للشرب بعد أن نُهِبَت مخازن منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى".
وكشفت هيئة المحامين في دارفور عن انتهاكات كثيرة تعرض لها المدنيون بما فيها القتل الجزافي والاغتصاب "لقد أصبح الإنسان هنا بدون قيمة، إذ يواجه المدنيون سيناريو القتل الجزافي بلا سبب، أما المقاتلون فيديرون المعارك على رؤوس المواطنين".
وقال الصادق حسن إن سلاح الاغتصاب أصبح يستخدم على نطاق واسع من قبل الأطراف المتحاربة "لدينا تقارير وشهادات بخصوص حالات انتحار وسط ضحايا الاغتصاب والمعنفات".
"خروج المستشفيات عن الخدمة"
يبدو أن معاناة السكان في الفاشر ستتفاقم بعدما أكدت مصادر طبية لبي بي سي خروج المستشفى الجنوبي عن الخدمة ( وهو أكبر وآخر مستشفى يعمل في المدينة ) بعد أن تعرض لهجوم من قبل قوات الدعم السريع.
وأضافت المصادر أن "الأوضاع الصحية في المدينة ستتعرض لنكسة كبيرة بعد توقف المستشفى الوحيد الذي يعمل في المدينة خلال الفترة الأخيرة".
ويعد المستشفى الجنوبي من أكبر المستشفيات في ولاية شمال دارفور إذ ظل يقدم خدماته الصحية لسكان الولاية بمن فيهم النازحين، لكنه تعرض لعمليات قصف خلال المعارك المستمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وتوقف مستشفى الأطفال عن العمل في الآونة الأخيرة بعد تعرضه لقصف الطيران التابع للجيش حسبما أكدت ذلك منظمة أطباء بلا حدود التي كانت تدير المستشفى.
كما أكد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في السودان أن الأطراف المتحاربة تستهدف البنى التحتية الحيوية، إذ قالت المنسقة المقيمة كلمنتاين سلامي في بيان صادر عنها "إن أجزاء كثيرة من الفاشر تُرِكت دون كهرباء أو مياه، كما أن نسبة قليلة من السكان باتت تحصل على الضروريات والخدمات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والرعاية الصحية".
قد تكون سعدية التي خرجت من الفاشر، مع ابنها - رغم قسوة تجربتها - محظوظة بعض الشيء، وذلك لأن القتال الضاري المستمر دون هوادة، قد يؤدي إلى موت مزيد من الأشخاص، إن لم يكن بالرصاص فربما قد يكون بسبب الجوع.
التعليقات