عندما توقفت شاحنة بيضاء بجوار مكتب شرطة الجمارك الفلسطينية في طوباس، وهي بلدة تقع في الضفة الغربية المحتلة من قبل إسرائيل، لم يكن لدى الشرطي الفلسطيني عبد الناصر سرحان أي سبب للشك في حدوث شيء مريب.
وفقًا لزملاء عبد الناصر، خرج سائق الشاحنة ووجه له التحية باللغة العربية، كان الوقت مبكراً وكان الشرطي البالغ من العمر 24 عامًا قد وصل للتو ليبدأ مهام عمله.
تُظهر صور كاميرات المراقبة أنه كان يتجول بجوار نقطة حراسة، وبندقيته معلقة بجانبه.
وبعد ثوانٍ، خرج رجل يرتدي بنطال جينز وقميصًا داكن اللون من الشاحنة البيضاء، وخلفه جنود إسرائيليون يرتدون الزي الرسمي.
رفع الرجل مسدسًا وأطلق النار على عبد الناصر فأرداه قتيلا.
وسرعان ما امتلأ الشارع بالجنود الإسرائيليين، الذين أخذوا بندقية عبد الناصر. وبينما كان زملاء عبد الناصر يحاولون استعادة جثته، تواصل إطلاق النار، وقد وثقت كاميرات المراقبة كل ذلك.
خطة ضم الضفة الغربية المحتلة .. قديمة أم حديثة؟
"إذا هدموه اليوم، سأبنيه غداً"... نادي فلسطين للفروسية يتحدى الهدم الإسرائيلي
عندما زرنا طوباس في صباح اليوم التالي، في أواخر يوليو / تموز الماضي، وجدنا مجموعة من الأزهار الذابلة على الأرض في المكان الذي سقط فيه عبد الناصر.
وكانت نقطة الحراسة والجدران المجاورة مليئة بالثقوب الناجمة عن إطلاق الرصاص، ووُضع على كل منها علامة صفراء. وكانت بقع الدماء تلطخ الأرض والمدخل.
وفي بيان صدر في يوم الحادث، قال الجيش الإسرائيلي إن إطلاق النار وقع في سياق عملية لاعتقال رجلين مطلوبين.
وقال زملاء عبد الناصر في طوباس إن هذين الاعتقالين حدثا في منزل قريب.
وقال الجيش إن الجنود "واجهوا إرهابيين مسلحين" وإن "ضابط جمارك من السلطة الفلسطينية قُتل أثناء تبادل إطلاق النار".
وبناء على الأدلة التي قدمتها لقطات كاميرات المراقبة، فإن هذا البيان الأخير كاذب بشكل واضح.
وقال مسؤول أمني إسرائيلي اتصلت به بي بي سي بعد أسبوعين إن الحادث كان "واحداً من مئات، إن لم يكن من آلاف، الأنشطة الخاصة التي جرى التخطيط لها وتنفيذها بدقة شديدة".
وقال إن هذه العملية قيد المراجعة الآن "لأنها لم تسر كما كان مخططا لها".
ويبدو من الواضح أن هذه العملة جرت بشكل خاطئ للغاية.
ولم يشر أحد إلى أن عبد الناصر أو مكتب الجمارك كانا هدفا للعملية.
ويبدو أن الحارس الشاب كان سيء الحظ لوجوده بالصدفة أثناء تنفيذ عملية إسرائيلية سرية، وهو ما أدى إلى إطلاق النار عليه وقتله.
لكن بالنسبة لزملاء عبد الناصر في شرطة الجمارك، فإن هذا الحادث المأساوي هو مجرد جزء من نمط أوسع من السلوك الذي يجعل من الصعب أكثر من أي وقت مضى على السلطة الفلسطينية - المسؤولة نظريًا عن الأمن في المناطق التي لا تخضع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة - القيام بوظيفتها.
وقال لنا الملازم إبراهيم عياش، المتحدث باسم شرطة الجمارك الفلسطينية: "هذا يدق ناقوس الخطر، خاصة بالنسبة لنا في الأجهزة الأمنية، كيف يمكننا فرض القانون والنظام وتقديم الخدمات للناس وحمايتهم، في الوقت الذي تُعرقل فيه عملي وتقتل ضباطي؟"
وقال عياش إن ضباط الجمارك أصبحوا مترددين بشكل متزايد في إيقاف المركبات المشبوهة، خوفًا من مصادفة جنود إسرائيليين يقومون بعمليات سرية.
وأضاف: "الآن يقع على عاتقك، كضابط جمارك، اتخاذ قرار بشأن إيقاف مركبة ما أم لا. إذا أوقفتها ووجدت قوات خاصة بداخلها، فقد تقتلك!"
وتشير الأدلة الأخيرة إلى أن وتيرة مثل هذه العمليات قد زادت، حيث تُظهر صور كاميرات المراقبة في الكثير من الحالات وحدات إسرائيلية، مرتدية ملابس مدنية، بل وحتى ملابس مسعفين، وهي تختطف فلسطينيين مطلوبين من شوارع المدينة وأسرة المستشفيات.
لكن مثل هذه العمليات السرية هي جزء من صورة أكبر بكثير.
وفي ظل تركيز كل الأنظار على غزة الآن، تدور حرب أخرى في الضفة الغربية، حيث يشن الجيش الإسرائيلي حملة مشددة على الجماعات المسلحة التي يقول إنها مُمولة من إيران.
وقال لي مسؤول أمني إسرائيلي، شريطة عدم الكشف عن هويته: "الوضع على الأرض معقد للغاية. بل يمكنك أن تقول إنه على وشك الانفجار".
يعود ظهور جيل جديد من الجماعات المسلحة المحلية، ومعظمها في مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية، إلى عام 2021 تقريبا، عندما ظهرت المجموعة الأولى في جنين.
لكن الحرب في غزة أشعلت نيران التمرد في مدن أخرى، من طولكرم إلى قلقيلية، ومؤخرًا طوباس.
وقد أدت الإجراءات الأمنية المشددة التي تفرضها إسرائيل، وأعمال العنف التي تقوم بها مجموعات المستوطنين اليهود، والاعتقاد بأن السلطة الفلسطينية عاجزة عن حمايتهم، إلى تفاقم أجواء التوتر المتصاعد.
وقال المسؤول الأمني الإسرائيلي: "إنهم يشعرون بالإحباط الشديد تجاه إسرائيل، ويشعرون بالإحباط الشديد تجاه السلطة الفلسطينية، ويبحثون عن مخرج لهذا الإحباط".
وتقول وزارة الصحة الفلسطينية إن أكثر من 600 فلسطيني قتلوا في الضفة الغربية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كما اُعتقل ما يصل إلى 10 آلاف فلسطيني، وفقاً لجمعية نادي الأسير الفلسطيني.
ووفقاً لإحصاء للأمم المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 17 إسرائيلياً، بما في ذلك 12 من أفراد قوات الأمن، في الضفة الغربية.
ويخشى بعض المراقبين المخضرمين أن تندلع اشتباكات مسلحة تتحول إلى انتفاضة واسعة النطاق.
وقال لي الجنرال إسرائيل زيف، رئيس قسم العمليات السابق في الجيش الإسرائيلي: "إذا تحولت هذه المواجهات إلى انتفاضة، فستكون المشكلة أكبر بكثير".
وفي ظل تركيز الجيش الإسرائيلي على الحرب في غزة، والصراع المتصاعد مع حزب الله على طول حدوده الشمالية، يرى الجنرال زيف أن هناك إحجاما عن إدراك الخطر الأقرب إلى إسرائيل.
ويقول: "إنها مشكلة ضخمة يمكن أن تنفجر في وجوهنا في منطقة الضفة التي تعتبر أكثر حساسية، وقُربا من مراكز السكان في إسرائيل".
وفي مخيم بلاطة للاجئين، على مشارف نابلس، لا يزال أفراد عائلة عبد الناصر يعيشون في حالة من الحزن الشديد.
لقد شاهدوا صور كاميرات المراقبة من طوباس بحزن وتوصلوا إلى النتيجة بأن الجيش جاء ليقتل عبد الناصر.
يقول عم عبد الناصر، إسماعيل محمد سرحان: "لقد جاء ليقتل، فقط ليقتل".
أما والد عبد الناصر، مهند، فلا يستطيع أن يستوعب فقدان نجله.
وعندما سألته كيف كان نجله، قال وهو غير قادر على حبس دموعه: "لقد كان طموحاً، طيباً، مبتسما دائماً".
التعليقات