هل الولايات المتحدة الأميركية أمة مسيحية أم بلد علماني؟ وهل يكون للدين دور حاسم في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟

تبدو الإجابة عن هذه الأسئلة مهمة في ظل السباق الرئاسي الصعب بين مرشح الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس.

فالعلاقة بين الدين والسياسية في الولايات المتحدة تبدو معقدة، ومختلفة بعض الشيء عن العديد من دول أوروبا التي تتبنى العلمانية الصريحة.

فكيف تبدو العلاقة بين الدين والدولة في الولايات المتحدة؟

"شعب الله المختار" والفصل بين الدولة والكنيسة
كان الدين حاضراً بقوة في حياة المهاجرين الأوائل الذين توافدوا على أميركا منذ القرن السادس عشر، خاصة أتباع المذهب البروتستانتي الذين نزحوا إلى العالم الجديد هربا من الاضطهاد الديني في أوروبا.
فأتباع الطائفة البيوريتانية، على سبيل المثال، كانوا يرون أنفسهم كـ"شعب الرب المختار" المكلف برسالة ما، كما كانوا يشبّهون هجرتهم من أوروبا إلى أميركا برواية العهد القديم عن خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض الميعاد، بحسب ما جاء في كتاب الأكاديمي فرانك لامبرت "الدين في السياسة الأميركية".
ومع تأسيس الولايات المتحدة الأميركية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر شدد الآباء المؤسسون على ضرورة ضمان الحرية الدينية، وهو ما يرجع إلى عدة عوامل منها التنوع الديني لمجتمعات المهاجرين بجانب التأثر بأفكار التنوير الأوروبية التي تشدد على التسامح الديني، بحسب ما جاء في كتاب "الدين والسياسة في الولايات المتحدة" لمايكل كوريت وجوليا ميتشل كوريت.

كان جون كيندي أول رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة
كان جون كيندي أول رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة

نتيجة لهذا التوجه المتسامح، خلا الدستور الجديد للدولة الوليدة من أي إشارة إلى الله أو المسيحية، كما تضمن مادة تشدد على أنه لا يجوز للكونغرس أن يشرع قانوناً يضفي صفة رسمية على دين بعينه أو يمنع حرية ممارسته.
ذلك النص الدستوري اعتبره توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، جداراً يفصل الكنيسة عن الدولة.
لكن هذا الفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة لم يحل دون التداخل الكبير - في بعض الأحيان - بين الدين والمجتمع بما يشمل السياسة، حتى في زمن الآباء المؤسسين الذين كان العديد منهم مسيحيون ملتزمون.

ويسرد فرانك لامبرت في كتابه العديد من الحوادث التي امتزج فيها الدين بالسياسية كما حدث خلال الحرب الأهلية الأميركية بين الولايات الشمالية المعارضة للعبودية والجنوبية المؤيدة لنظام الرق، إذ لجأ متدينون من كل فريق إلى الحجج الدينية ليبرروا موقفهم من الرق.

كذلك كان هناك فريق من المسيحيين الأميركيين، يرى أن المسيحية تحتوي على ما يحث على السعي لتكوين وتراكم الثروات المادية، مقابل فريق آخر كان يدعو إلى الزهد والبعد عن النزعة الاستهلاكية بناء على تصور مسيحي مناصر للتقشف.
ولعل تسليط الضوء على حوادث وقعت في القرن الماضي يمكن أن يقرب للأذهان كيف يمكن في أميركا المزج بين النصوص الدستورية التي تشدد على حياد الدولة حيال الأديان والدور الكبير الذي لعبه الدين في المجتمع.

ففي عام 1960 فاز جون كيندي بالانتخابات الرئاسية ليكون أول رئيس كاثوليكي في تاريخ البلاد التي هيمن على قيادتها البروتستانت، وعقب الانتخابات بعامين قضت المحكمة العليا، أعلى هيئة قضائية في البلاد، بعدم قانونية إلزام طلاب المدارس الحكومية العامة الممولة من قبل دافعي الضرائب بالصلاة.

في مقابل تلك التوجهات العلمانية للمؤسسات الحكومية شهدت تلك الفترة أيضاً بزوغ نجم رجل الدين مارتن لوثر كينغ الذي كان يقود حركة الحقوق المدنية، وكان يشدد في خطبه ومواعظه الدينية على التنديد بالتفرقة العنصرية ضد السود.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي ظهر تيار يميني مسيحي جديد سرعان ما تلاقت مصالحه مع أجندة الحزب الجمهوري بداية من ولاية الرئيس رونالد ريغان.
ولكن كيف تبدو الخارطة الدينية الآن في الولايات المتحدة؟

الأكثر تديناً
يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية أكثر تديناً مقارنة بالعديد من الدول الغربية.
فقد أظهر استطلاع رأي لمركز غالوب في عام 2023 أن نحو ثلاثة أرباع الأميركيين مرتبطون بدين أو عقيدة ما، بينما بلغت النسبة في بريطانيا نحو 62 بالمئة، بحسب استطلاع حكومي في عام 2021 .
وبحسب استطلاع مركز غالوب فإن عدد المسيحيين في البلاد يبلغ نحو 68 بالمئة، ما يجعلها واحدة من الدول التي يوجد بها أكبر عدد من المسيحيين في العالم.
وتقدر نسبة البروتستانت بنحو 33 بالمئة من إجمالي عدد السكان، بينما يشكل الكاثوليك ما يقرب من 22 بالمئة.

يمثل المسيحيون نحو 68 بالمئة من سكان الولايات المتحدة
يمثل المسيحيون نحو 68 بالمئة من سكان الولايات المتحدة

وقُدر عدد المسلمين بنحو 1 بالمئة واليهود بـ2 بالمئة.
وتفيد بيانات مركز غالوب بأن 23 بالمئة قالوا إنهم غير مرتبطين بأي دين.
ولا يمكن الحديث عن الخارطة الدينية في الولايات المتحدة دون الإشارة إلى ما يعرف بـ"الحزام الإنجيلي" وهي مجموعة من الولايات والمناطق في الجنوب وجنوب شرق ووسط البلاد، التي يوجد فيها نفوذ ديني وثقافي قوي لأتباع المذاهب الإنجيلية البروتستانتية.
ولكن هل يكون لهذا التنوع الديني تأثير على نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة؟

ترامب وهاريس
بحسب ما قاله البروفسير ألان هرتسكي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوكلاهوما، لبي بي سي عربي، فإن هناك عوامل متعددة غير الدين تعلب دوراً حاسماً في تصويت الناخبين في السباق الرئاسي، مثل الاقتصاد، لكنه يشدد على أن للدين أيضاً تأثير مهم في الانتخابات المقبلة خاصة في ظل السباق الصعب بين دونالد ترامب وكامالا هاريس.
فلمن إذاً سيمنح المتدينون أصواتهم؟

البروفسير مارك روزيل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج ماسون، والمشارك في تحرير كتاب "الدين والرئاسية الأميركية"، قال لبي بي سي عربي، إنه رغم عدم إظهار ترامب التزامه الكبير بالتعاليم الدينية البروتستانتية إلا أنه حظي بدعم كبير من قبل الإنجيليين البروتستانت البيض في عام 2016، وهو الأمر المتوقع هذا العام أيضاً رغم التوقعات بتراجع ضئيل في شعبيته وسط المتدينين، بسبب دعمه لعمليات التخصيب خارج الرحم، مشيراً إلى أن هناك إمكانية لأن تصوت مجموعة من الناخبات الإنجيليات لصالح هاريس.
لكن المشهد الديني يبدو أكثر تعقيداً من مجرد افتراض مبسط مفاده أن ترامب سيحظى بدعم أغلبية المتدينين خاصة في ظل التشابك بين العامل الديني والعوامل العرقية والاقتصادية.

هاريس وترامب
Getty Images

إذ يشير هرتسكي، المشارك في تأليف كتاب "الدين والسياسة في أميركا"، إلى أن البيانات الخاصة بالسباقات الانتخابية الأخيرة تظهر أن الجمهوريين يحققون مكاسب كبيرة للغاية في أواسط الإنجيلين البيض وأغلبية أقل نسبياً عندما يتعلق الأمر بأصوات الكاثوليك البيض.

في المقابل يستحوذ الديمقراطيون على الكثير من أصوات العلمانيين والبروتستانت السود والكاثوليك من ذوي الأصول اللاتينية إلى جانب المسلمين واليهود والهندوس والعديد من أعضاء الأقليات الدينية الصغيرة.
كما أنه وبشكل عام، يحقق الجمهوريون مكاسب انتخابية كبيرة في أوساط من يرتادون الكنائس للمشاركة في الطقوس الدينية، بينما تتزايد شعبية الديمقراطيين في أوساط من لا يشاركون في المناسبات الدينية.
وبحسب هرتسكي فإن هذا التباين قد دفع بعض المراقبين إلى القول إن المشهد السياسي الأميركي أصبح شبيهاً بما يحدث في الدول الأوروبية حيث يدعم العلمانيون اليسار بينما تذهب أغلبية أصوات المتدينين إلى اليمين، لكنه يشدد على أن الأمر أكثر تعقيداً في الولايات المتحدة، حيث يميل المتدينون من السود واللاتين والعرب إلى التصويت لصالح الحزب الديمقراطي.
وفيما يتعلق بالانتخابات المقبلة، فإن هاريس ربما لن تكون قادرة على تحقيق نفس النسبة من أصوات الكاثوليك التي أيّدت في الانتخابات الماضية جو بايدن، وهو الرئيس الكاثوليكي الثاني للولايات المتحدة.

لكن هاريس في المقابل يمكن أن تحقق مكاسب انتخابية في أواسط جماعات دينية مختلفة بسبب خلفيّتها العرقية المتنوعة، "فأمها هندوسية ووالدها كان ينتمي إلى الكنيسة المعمدانية الأفريقية، التي تتبعها هاريس، وزوجها يهودي، لكن يمكن أن يؤدي دعمها لسياسة بايدن في حرب غزة إلى خسارة أصوات في أواسط المسلمين، الذين عادة ما يصوتون للديمقراطيين، وهو ما يمكن أن يشكل تحدياً في ولاية متأرجحة مثل ميتشغان التي يوجد بها الكثير من المسلمين".
أما بالنسبة لترامب فإن قراراه بتعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا، وهو ما نتج عنه لاحقاً إلغاء المحكمة العليا لحكم أصدرته منذ نحو خمسين عاماً يمنح النساء الحق في الإجهاض، أذكى شعبيته في أواسط الإنجيليين والكاثوليك المعارضين للإجهاض.

ورغم أن ترامب تراجع بعض الشيء عن الموقف المعادي للإجهاض إلا أنه يظل المرشح المفضل لمن يعادون الإجهاض لأن هاريس ركزت في حملتها السياسية على حق النساء في الإجهاض، وهو أحد الأسباب التي قد تؤدي إلى إمكانية تراجع شعبية هاريس في أواسط الكاثوليك مقارنة بما حققه بايدن في 2020.
رغم ذلك فإن خطط ترامب لترحيل المهاجرين غير النظاميين قد تدفع إلى حصد هاريس أصوات قطاع من الكاثوليك والبروتستانت ذوي الأصول اللاتينية.
لكن أفكار ترامب "الشعبوية" الخاصة بالاقتصاد، قد تلاقي قبولاً عند قطاع من السود وذوي الأصول اللاتينية الذين يمكن أن يصوتوا لصالحه بشكل يخالف قناعاتهم الدينية.

وهكذا فإنه يمكن القول إن السباق الرئاسي في الولايات المتحدة، الأكبر اقتصادياً في العالم، يتأثر بالاقتصاد وعوامل أخرى، لكن العامل الديني سيكون له بعض التأثير على تحديد هوية من سيحكم البلاد التي يوجد بها أكبر عدد من الكنائس في العالم.