إيلاف من بغداد: استقبلت بغداد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في زيارة رسمية تزامنت مع الإعلان عن انتهاء مهام بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، في خطوة وُصفت بأنها محطة مفصلية في مسار الدولة العراقية، بعد أكثر من عشرين عامًا من الحضور الأممي الذي رافق مراحل التحول السياسي والأمني في البلاد. وجاءت الزيارة تتويجًا لمسار تفاوضي وسياسي بين الحكومة العراقية والأمم المتحدة، يعكس قناعة دولية متزايدة بأن العراق بات قادرًا على إدارة شؤونه السيادية دون الحاجة إلى بعثة سياسية خاصة.
وشهدت الزيارة عقد مؤتمر صحفي مشترك بين غوتيريش ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إضافة إلى مشاركته في فعالية رسمية أُقيمت بمناسبة اختتام عمل البعثة، في أجواء حملت طابعًا احتفاليًا ورسائل سياسية واضحة حول مستقبل العلاقة بين بغداد والمنظمة الدولية.
وأكد السوداني، خلال المؤتمر الصحفي، أن انتهاء مهام بعثة يونامي "يمثل اعترافًا دوليًا بقدرة الدولة العراقية على الاضطلاع بمسؤولياتها الدستورية والأمنية والسياسية"، مشددًا على أن القرار "جاء بناءً على طلب الحكومة العراقية، وبعد تقييم موضوعي لطبيعة المرحلة التي يمر بها البلد".
وأوضح السوداني أن العراق "لم يعد بحاجة إلى بعثة سياسية خاصة، بعدما أصبحت مؤسساته قادرة على إدارة الانتخابات، وحماية حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون، ومكافحة الإرهاب"، مؤكدًا في الوقت ذاته أن بلاده "تثمّن الدور الذي لعبته الأمم المتحدة في أصعب مراحل العراق الحديث".
من جانبه، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن انتهاء مهام يونامي "ليس انسحابًا ولا تخلّيًا، بل نتيجة طبيعية للتقدم الذي أحرزه العراق"، مضيفًا أن "العراقيين أثبتوا قدرتهم على قيادة شؤونهم بأنفسهم". وأشاد غوتيريش بما وصفه بـ"التحسن الملحوظ في الاستقرار السياسي والأمني"، مؤكدًا أن الأمم المتحدة "ستواصل دعم العراق من خلال وكالاتها وبرامجها التنموية، وبما يتوافق مع أولويات الحكومة العراقية".
يطرح توقيت إنهاء مهام يونامي تساؤلات تتجاوز الإطار الإجرائي إلى قراءة أعمق للتحولات التي شهدها العراق خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ تولي محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة في تشرين الأول (أكتوبر) 2022. فخلافًا للمراحل السابقة، ركّزت حكومة السوداني على تثبيت مفهوم الدولة القادرة، وإعادة تنظيم العلاقة مع المجتمع الدولي على أساس السيادة الكاملة.
أحد أبرز العوامل التي أضعفت مبررات استمرار البعثة، كان النجاح في إدارة الملفات الأمنية دون الحاجة إلى إشراف دولي مباشر. فقد شهد العراق استقرارًا أمنيًا ملحوظًا، وتراجعًا كبيرًا في التهديدات الإرهابية، إلى جانب تعزيز دور المؤسسات الأمنية الرسمية، وحصر القرار الأمني بيد الدولة، وهو ما كان يشكل أحد أهم مجالات عمل يونامي سابقًا.
سياسيًا، تمكنت الحكومة من إدارة المشهد الداخلي بقدر أكبر من التوازن، وتخفيف حدة الانقسامات، وإدارة الاستحقاقات الدستورية من دون تدخل أممي مباشر، ما عكس نضجًا في العملية السياسية. كما عززت بغداد علاقاتها الإقليمية والدولية وفق سياسة خارجية تقوم على الانفتاح المتوازن، وهو ما قلّل الحاجة إلى دور الوساطة الأممية.
وعلى الصعيد الاقتصادي والإداري، تبنت حكومة السوداني خطابًا عمليًا ركّز على الإصلاحات الخدمية، ومكافحة الفساد، وتحريك عجلة الإعمار، وهي ملفات كانت تشكل جزءًا من الاهتمام الأممي في السابق. ومع تقدم هذه الملفات، بدا واضحًا أن استمرار بعثة سياسية لم يعد متناسبًا مع طبيعة المرحلة الجديدة.
ويرى محللون أن قرار إنهاء مهام يونامي لا يعني انتهاء حضور الأمم المتحدة في العراق، بل إعادة تعريفه. فبدلًا من بعثة سياسية ذات صلاحيات واسعة، ستتولى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة أدوارًا تنموية وفنية، بما ينسجم مع رؤية الحكومة العراقية ويعزز مفهوم الشراكة بدلاً من الإشراف.
لا يمكن فصل هذه الخطوة عن السياق الإقليمي والدولي، إذ تسعى بغداد إلى ترسيخ صورتها كدولة مستقرة وقادرة على لعب دور فاعل في محيطها. وفي هذا الإطار، تمثل زيارة غوتيريش رسالة دعم دولية لمسار الاستقرار الذي تتبناه الحكومة، وفي الوقت ذاته إعلانًا رسميًا لطيّ صفحة استثنائية من تاريخ العراق الحديث.
وبينما تغادر يونامي المشهد السياسي العراقي، يبقى التحدي الأكبر أمام بغداد هو الحفاظ في المرحلة المقبلة على المكتسبات التي أفضت إلى هذا القرار، وتحويل نهاية المهمة الأممية إلى بداية فعلية لمرحلة الدولة الكاملة السيادة، في علاقة جديدة مع العالم عنوانها الشراكة لا الوصاية.























التعليقات