رضوان السيد


على مشارف المؤتمر الوطني العراقي العاشر أو الحادي عشر، تتوالى المذابح والسيارات المفخخة، وأعمال الانتحاريين. لكنْ للمرة الأولى، في العهد الأميركي، يبدو التضامن الحكومي أو الوزاري هشّاً، وكذلك المجتمع، هشاشةً مرعبة. فبعد تشكيل الحكومة بثلاثة أشهرٍ بدأ الحديثُ عن تنحية هذا الوزير أو ذاك، إلى أن قيل أخيراً إنّ الوزراء الذين سيتغيرون يُناهزُ عددُهُم العشرة. والواقعُ أنّ الخلاف لو اقتصر على مجلس الوزراء، لكان شأنه سهلاً، ويمكن أن ينحلَّ بتغيير الحكومة. بينما الحقيقةُ أنّ الخلاف يتناولُ كل شيء، من السياسة إلى الإدارة إلى البرلمان وإلى المجتمع بكافة فئاته، وأكبر المُشكلات طبعاً مشكلةُ الأمن. ففي الأشهر الثلاثة الماضية سقط زُهاء الـ1500 قتيل، والأربعة آلاف جريح، فضلاً عن المساكن المهدَّمة، والشوارع المدمَّرة، والممتلكات المستباحة؛ وفضلاً عن استمرار أعمال التهجير وتصفية المناطق، تمهيداً للفيدرالية.

ظلَّ الأمر طوال شهور عام 2003 أمر المقاومة ضد المحتلّ الأميركي. ثم ظهرت لدى الأميركيين فكرة إنشاء حصص طائفية بالعراق، بما يشبهُ ما هو جارٍ بلبنان. وبذلك فقد ظهر ملفٌّ جديدٌ إلى جانب الملفّ القديم. الملفّ الجديد هو الملفّ السُّني/ الشيعي، بعد الملفّ العربي/ الكردي. صحيحٌ أنّ في العراق امتزاجاً كبيراً. لكنْ في النهاية هناك منطقةٌ كرديةٌ خالصة. ومع وجود تلك المنطقة فالنزاع بين الأكراد والدولة العراقية، مستمرٌّ منذ الخمسينيات، وما أثّر في وحدة الشعب العراقي. لكنْ عندما جاء الأميركيون غازين ومعهم الانفصاليون الأكراد، والأحزاب الشيعية المتمركزة بطهران، بدأت المشاكل، ومن الصراع على السلطة قبل أن تستقرَّ أعرافُها للصراع على الدولة، بعد أن ظهر الانقسام الشيعي/ السُّني. ويعتبر بعضُ المراقبين أنّ الانهيار الحقيقي بدأ عندما جرى حلُّ الجيش العراقي، والشرطة العراقية. لكنّ هذا غير صحيح، رغم سوء التصرف، ورغم ازدياد المقاومة ضد الأميركيين. بل الذي يوشك أن يدمّر العراق، هو الصراع السُّني/ الشيعي، والذي بدأ مع بدء فكرة توزيع الحصص السلطوية، بحسب نسبة كل طائفةٍ إلى عدد السكان. قيل أولاً إنّ الأكراد يستقلون بمناطقهم بغضِّ النظر عن نسبتهم. ثم قيل إنّ الشيعة هم الأكثرية، وينبغي أن يحتلوا ستين في المئة من عدد المقاعد في البرلمان والوزارات ومناصب الدولة الأخرى. وعندما انتشر الصراع واشتدّ على هذه القاعدة، سارع الفتنويون إلى إضافة الملفّ الآخر، ملفّ الفيدرالية. في الفتنة الشيعية/ السُّنية، بدأ التذابُحُ السُّني/ الشيعي تعبيراً عن الصراع على السلطة. وتفاقم الصراع حتى صار بين الشيعة أنفسهم، وبين السُّنة أنفسهم. بين السُّنة الذين لم يرضوا بحصتهم، ثم انصرفوا للتصارُع عليها. وبين الشيعة أنفُسهم من أجل المغانم والمرافق، ومن هو عربي، ومن هو إيراني. ثم جاءت الفيدرالية لتُصبح القاضية. إذ صار واجباً خَلْقُ مناطق نظيفة طائفياً. ثم بعد ذلك تكوين الفريق الشيعي أو السُّني الذي ينفردُ بالسيطرة في هذه المنطقة أو تلك.

ووسط كلّ هذه الظروف، ظهر الفشل الأميركي. ظهر أولاً بعدم القدرة على إعادة بناء الدولة التي هدموها، وبعدم القدرة على ضبط الأمن، وبعدم القدرة على خلق انتظام سياسي رغم الانتخابات والدستور وتشكيل الحكومات. وأولاً وأخيراً بازدياد الخسائر في العسكريين الأميركيين. وما أمكن الرجوع طبعاً عن قرار حلّ الجيش والقوى الأمنية. ولا أمكن الرجوع عن المحاصصة. ثم ما أمكن الرجوع عن الفيدرالية. وأخيراً ما أمكن وضع جدولٍ للانسحاب من العراق. والملفات الأربعة هذه والتي تحولت إلى مشاكل، تضافرت، لتحولَ دون استمرار بعض التماسُك وبعض التضامن والوحدة. فالعراقيون ما عادوا متفقين حتى على جلاء المحتلين الأميركيين. ولا عادوا متفقين على بقاء العراق موحَّداً من خلال الدولة. ولا عادوا أخيراً متفقين على طرائق تشكيل الحكومات والبرلمان، وتنظيم الأمن. والتعبير عن تلك الخلافات المتفاقمة، يتمُّ بالمذابح المتبادلة والمتنقلة. وما أمكن تحييدُ أجهزة الدولة الجديدة، بل صارت الميليشياتُ الطائفيةُ جزءاً منها؛ بل وجرى استخدامها في الصراع الطائفي أيضاً -فضلاً على الحرية التي أُتيحت للعصابات وقطّاع الطرق، ومستعمري المرافق والوزارات.

وكان يمكن للاعتراف الأميركي بالفشل أن يتحول إلى حلٍ أو جزءٍ من حلّ. بيد أنّ الأميركيين ما تجرأوا على الخروج عن اللعبة التقليدية. كانوا أولاً مع الشيعة ضد السُّنة، وهم الآن يحاولون أن يكونوا مع السُّنة ضد بعض الشيعة، أي ضدّ أنصار إيران. ولا يمكن الآن مقاومةُ النفوذ الإيراني، لأنك بذلك تصطدم بفئةٍ كبيرةٍ من الشيعة العراقيين. كما لا يمكن مُحاسنة الميليشيات السُّنية؛ لأنك بذلك تُغضب السُّنة المدينيين، كما تُغضبُ العشائر. ولذلك فقد لجأ الأميركيون إضافةً للعمل الجديد على الداخل؛ إلى التواصُل مع العرب السُّنة لتهدئتهم. مع استمرار النقاش العلني على محاورة سوريا وإيران أو عدم فعل ذلك. وقد كانت النتيجة حتى الآن، إحساس الإيرانيين والسوريين، بأنهم حققوا إنجازات، رغم أنهم ما قاوموا الأميركيين، ولا قاومهم أنصار إيران بالداخل.

ولننظر فيما فعلته أو تفعلُهُ سائر الأطراف. المؤتمر الوطني العراقي المفروض فيه أن يجمع سائرَ الأطراف بالداخل. بيد أن جهاتٍ مهمةً لدى السُّنة والشيعة لن تحضُر. ثم إنّ الذين يحضرون، وهم ممن لهم علاقةٌ بالحكومة وبالأميركيين متخاصمون فيما بينهم خصومةً شديدة. والخصوماتُ بعضُها بسبب الصراع على المناصب والمكاسب والاقتسامات، وبعضُها للاتهامات المتبادَلة إمّا بالعمل مع الميليشيات أو العمل مع إيران. فالقضيةُ بين الحاضرين للمؤتمر الوطني أنهم غير متفقين على شيء، فحتى المالكي رئيس الحكومة، ليس متفقاً مع عبدالعزيز الحكيم، زعيم quot;المجلس الأعلىquot;، وأكبر الأطراف السياسية الحالية بالعراق. والاختلافات لا تتناولُ عمل الحكومة، أو أعمال الفساد والتآمر فقط؛ بل تتناولُ أيضاً القضايا الكبرى مثل الموقف من الأميركيين، والموقف من الفيدرالية، والحِصص المخصَّصة لكل ّطرف، ومستقبل العلاقة بالأكراد، والتصورات لإنهاء النزاع الناشب بين السُّنة والشيعة، والعلاقات بين العراق وإيران. وبين العراق وعرب الجوار. أما الذين لن يحضروا فأهمُّهُم الأطراف المقاومِة للأميركيين بالعراق بالأعمال العسكرية. والآخرون المعترضون (من السُّنة) على الأميركيين وعلى العملية السياسية معاً. أمّا الجهات الممارسة للعنف ضد المدنيين تحت عناوين طائفية أو جهوية، فلم تُدْعَ، ولا ينبغي أن تُدعى. بيد أنّ المشكلة في عدم حضور أطراف سُنية تتّهم المشاركين بالسلطة -وبخاصةٍ المجلس الأعلى ومقتدى الصدر وأجهزة وزارة الداخلية- بالمشاركة في أعمال العنف الطائفي من خلال ميليشياتها المسلَّحة. ومع ذلك فإنّ المؤتمر الوطنيَّ يظلُّ مهماً لجهتين: لجهة تمكين الأطراف من التحدث إلى بعضها بعضاً، ولجهة الموقف الموحَّد من الميليشيات وضرورة نزع سلاحها، ولجهة إصلاح شؤون بعض الوزارات والخدمات.

أمّا القضايا الكبرى -وهي المتعلقةُ كلُّها بالأميركيين وبدول الجوار-، فلها أُطُرٌ أُخرى ممكنة. وأولُ هذه الأُطُر آليةُ دول الجوار وهي تشملُ السعودية والكويت وإيران وتركيا والأردنّ وسوريا. وقد كانت شبه متعطّلة بسبب عدم رضا الأميركيين عنها، وبسبب اختلاف تركيا والسعودية والأردنّ مع إيران وسوريا. أما الآن، وقد ظهر الفشل الأميركيُّ بالعراق؛ فإنّ الأميركيين أنفسَهم يتطلعون إلى مساعدة الآخرين. وما تزال إيران تتجاذبُ مع الولايات المتحدة حول شروط التعاون، بسبب الصراع الناشب بينهما على مدى المنطقة. ولاشكَّ أنّ إيران لا تُظهر أيضاً إرادةً بارزةً للتعاون مع دول الجوار العربي لا في العراق ولا في فلسطين ولا في لبنان. لكنّ العرب لا يستطيعون الانتظار إلى حين إقبال إيران على التعاوُن ما دام العراق يتخثر ويخربُ ويسقط. تستطيعُ الجهاتُ العربيةُ بما لها من صِلاتٍ بالداخل العراقي الإسهام في خفض أعمال العنف ضد المدنيين. وتستطيع الحديث مع الأميركيين حول الانسحاب التدريجي. وتستطيعُ الحدث إلى الأطراف الأُخرى المشاركة بشأن جعل المشاركة في السلطة أكثر فعاليةً وجدوى.

ويبقى الدور وتبقى المسؤوليةُ على الأميركيين، باعتبارهم المحتلّين، وباعتبار أنّ المشكلة مع إيران مشكلتهم هم، إذ هم الذين أدخلوا إيران وأنصارَها للعراق، وهم الذين يتصارعون معها الآن. وقد آن الأوان للنظر في الصراع السُّني/ الشيعي ليس باعتباره من صنع الأميركيين، ولا بسبب الصراع على السلطة فقط؛ بل باعتباره الداء الأول الذي يُنهي العراقَ أو يُبقيه. فالمشكلة مع الأكراد كبيرة، وهي تتعلق بوحدة العراق، أمّا المشكلة بين السُّنة والشيعة فهي اللاحقة؛ لأنها تتعلقُ بوجود العراق. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.