جورج علم


حرصت روسيا الاتحادية علي إبراز الجانب العسكري من المحادثات التي أجراها رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة في موسكو يوم الجمعة الفائت، حيث انطلق في محادثاته بشكر الكرملين علي ما أنجزته الفرقة العسكرية الروسية من مشاريع إنمائية، ومساهمتها في إعادة وصل الجسور التي قطعتها الغارات الجوية الإسرائيلية علي لبنان، خلال الصيف الماضي، وتركيب ثمانية جسور من الحديد بدلاً من سبعة، علي أمل ان يتوصل اللبنانيون الي إعادة بناء الجسور السياسية المقطوعة فيما بينهم؟! .

وكان السنيورة قد طلب من الرئيس فلاديمير بوتن التدخل لدي سوريا، وإقناع الرئيس الدكتور بشار الأسد بأن يدعم المبادرة العربية التي يقودها الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسي لمعالجة الوضع المأزوم في لبنان، ثم المساعدة علي تذليل العقد السياسية التي تحول دون إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي التي يفترض ان تنظر بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ويأتي هذا الطلب ليؤكد حضور روسيا كلاعب دولي قوي في الأزمة اللبنانية لايمكن تجاهله عند البحث عن حلول ناجعة للقضايا المعقدة، نظرا لعلاقاتها الاستراتيجية مع كل من سوريا وإيران، ونظرا لما للمحور السوري-الإيراني من تأثير واسع في لبنان.

وحاولت روسيا ان تلفت نظر الحكومة اللبنانية، وتيار المستقبل بقيادة النائب سعد الحريري، وفريق قوي الرابع عشر من مارس، بأنها صاحبة دور، ويمكن الاعتماد عليها في المساعدة علي توفير الحلول للمشاكل المعقدة انطلاقا من وفاق اللبنانيين وتوافقهم، وكان سفيرها في بيروت أول من نصح رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري بأن الوصول الي محكمة ذات طابع دولي لا يمكن ان يتم عن طريق الكيدية، وتجاهل تيار المعارضة صاحب الوزن والثقل الشعبي، وأيضا تجاهل موقع رئيس الجمهورية ودوره إذا كان مكتوبا لمشروع قانون المحكمة ان يمر عبر المؤسسات الدستورية بدءا بالقصر الجمهوري، وصولاً الي مجلس النواب الذي يرأسه حاليا أحد أقطاب المعارضة، الرئيس نبيه بري لكن مثل هذه النصيحة لم تجد نفعاً، وبقي فريق الرابع عشر من مارس مصرا علي المحكمة من جهة، وعلي الهجوم علي رئيس الجمهورية، والمعارضة في آن، وهذا ما أدي الي وصول مشروع القانون الخاص بالمحكمة الي الطريق المسدود، فلا الرئيس اميل لحود وقع علي المرسوم كما يقضي الدستور، وهذا تصرف كان منتظرا في ظل حفلة التخوين والانتقادات التي يتعرض لها من قبل هذا الفريق، ولا الرئيس بري أقدم علي دعوة مجلس النواب لعقد جلسة تشريعية بهدف إقرار هذا القانون، وبقي الموضوع معلقا حتي اشعار آخر.

لا يمت تصرف الفريق الأكثري الي الحكمة بشيء اذا كان يريد فعلا إقرار المحكمة، لأن سياسة الشتائم والكيدية لن توصل الي أي مكان، سوي استمرار الأزمة المتفاقمة علي غاربها، وفي مثل هذه الحال يصبح من الصعب الرهان علي أي نجاح قد تحققه المبادرة العربية في ظل تحجّر المواقف، وتشبث كل طرف محلي بمواقعه وخياراته السياسية من دون الاقدام علي أي تنازلات تتطلبها مصالح البلاد والعباد.

يراهن تيار المستقبل، وفريق قوي الرابع عشر من مارس، علي دعم الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وبعض دول الاتحاد الأوروبي، ولكن من دون أفق، فلا الولايات المتحدة أقنعت سوريا بإعادة ترتيب وضعها مع لبنان إن لجهة ترسيم الحدود، أو معالجة قضية مزارع شبعا، وإقامة العلاقات الدبلوماسية بين دمشق وبيروت، وإعادة النظر بكل الاتفاقيات المبرمة بين البلدين لكي تكون متوازنة وفعّالة في آن، ولا أقنعت اسرائيل بوجوب الانسحاب من مزارع شبعا، وبلدة الغجر الحدودية، واحترام الخط الأزرق، وذلك لرسملة حكومة الرئيس فؤاد السينورة، وتوفير الظروف المحلية والإقليمية المؤاتية لها لكي تتمكن من دعوة حزب الله فوراً الي الحوار والتشاور حول مصير سلاحه؟!

ان الدعم الأمريكي-الفرنسي، بوجهه الراهن لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، يعني دعما لاستمرار الأزمة، وتأليبا لفئة علي أخري، وتعطيلا للحوار ومسيرة التفاهم، وحضّ كل طرف علي التمسك بطروحاته ومواقفه في مواجهة الطرف الآخر، وجعل المبادرة العربية التي قامت علي مبدأ لا غالب ولا مغلوب في مأزق فعلي، لأن مثل هذا الدعم للحكومة في وضعيتها الراهنة، والتي تعاني من استقالة ستة وزراء، خمسة منهم يمثلون الطائفة الشيعية، وهي من كبريات الطوائف في لبنان، يعني الاصرار علي استمرار الوضع غير الطبيعي سائداً لتحقيق غالب ومغلوب، علما بأن الجميع يعرف ويدرك بأن لبنان لا يمكن ان يقوم في ظل وجود غالب ومغلوب؟!

وتري المعارضة ان الغاية من هذا الدعم الأمريكي-الفرنسي-العربي (بعض الدول العربية)، الغاية منه هزيمة الدور السوري-الإيراني في لبنان عن طريق تهميش المعارضة علي مستوي مؤسسات الدولة، ووضع حزب الله في الموقع الصعب، وتحميله الوزر المالي والاقتصادي والسياسي والمعنوي الذي ترتب علي لبنان نتيجة العدوان الإسرائيلي، الصيف الماضي، ثم مطالبته بالتخلي عن سلاحه تنفيذا لما جاء في القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، وذلك إما عن طريق تسليمه الي الجيش اللبناني، أو إعادته الي المصادر التي زودته بهذا السلاح؟!.

وعندما يتحقق هذا الأمر، وتزول المقاومة، وتجرد من سلاحها، تصبح الساحة متاحة أمام الأمريكي والفرنسي والأوروبي الغربي لحمل حكومة الرئيس السنيورة الي التفاهم مع اسرائيل إما بإبرام اتفاق سلام معها تحميه قوات (اليونيفيل) المعززة والمنتشرة في الجنوب، أو -إذا كان ذلك متعذرا لاعتبارات شتي- يصار الي التوصل الي وقف لاطلاق النار، ووضع اتفاق الهدنة بين لبنان واسرائيل، والمبرم بإشراف الأمم المتحدة في 23 مارس من العام 1949، موضع التنفيذ، وهذا ما لا تريده لا سوريا، ولا ايران، ولا حزب الله، لأن للأطراف الثلاثة مصلحة حيوية ان تبقي جبهة الجنوب مفتوحة ضد إسرائيل، وساخنة بانتظار الحل الشامل في المنطقة.

وإذ ينفي الفريق الأكثري مثل هذا التوجه، يري ان السياسة التي تتبعها المعارضة لن تقود الي شيء، إلا الي وضع لبنان نهائيا تحت نفوذ الهيمنة السورية-الإيرانية، والدليل ان حزب الله هو الذي افتعل حرب يوليو مع اسرائيل بأمر ايراني من ولاية الفقيه، والهدف من ذلك ان ايران كانت تريد ان تقول للولايات المتحدة في تلك الفترة انها قادرة علي إرباك مشروعها في الشرق الأوسط الكبير، إذا لم تلين مواقفها معها في موضوع الملف النووي، وبأنها موجودة بقوة وفاعلية في لبنان كما هي موجودة في العراق، وقبله في أفغانستان، وباستطاعتها ان تفعل الكثير، كما ان سوريا هي التي استخدمت المعارضة لتفشيل مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي، ففرضت علي حزب الله وحركة أمل برئاسة الرئيس نبيه بري سحب وزرائهم من الحكومة، لاسقاطها، وإفقادها لشرعيتها الدستورية، ومنعها من السير بمشروع المحكمة وفق القنوات الدستورية الشرعية، كما دفععت بالمعارضة الي النزول الي الشارع بقوة بهدف إسقاط الحكومة، لكنها لم تسقط حتي الساعة نظرا للدعم الدولي -الإقليمي اللامحدود الذي تحظي به، فضلا عن المعايير المحلية الضيقة التي استخدمت ولا تزال، انطلاقا من تركيبة لبنان الطائفية والمذهبية المعقدة، وعلي قاعدة الحكومة التي يرأسها زعيم سني، لا يمكن ان تسقط بفعل وطأة التظاهر وحركة الاحتجاج التي يقوم بها العنصر الشيعي المتمثل بحزب الله وحركة أمل؟!.

في ظل هذه الأجواء ذهب الرئيس السنيورة يستجير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن، ويطلب منه الدعم والمؤازرة لمساعدته علي دحر أعدائه في الداخل والخارج والحصول علي المحكمة ذات الطابع الدولي، لكن فاته أن الرئيس بوتن ليس بابا نويل، وان روسيا ليست جمعية خيرية، بل هي دولة عظمي لها سياساتها، ومصالحها، وتحالفاتها وتطلعاتها في المنطقة، وتربطها علاقات استراتيجية عميقة، ومصالح ريادية مع كل من إيران وسوريا، وهي تنظر الي الوضع في الشرق الأوسط من زاوية تقرير لجنة بيكر-هاملتون الذي أوصي الإدارة الأمريكية بفتح باب الحوار مع كل من طهران ودمشق، اذا كانت تريد ان توفر لنفسها خروجا مشرفا من المستنقع العراقي، بأقل الأثمان الممكنة، فهل يعقل ان تتخلي موسكو عن تحالفاتها العميقة والراسخة مع كل من طهران ودمشق، لأن الرئيس السنيورة طلب منها ذلك؟، أم ان موسكو تعرف تماما بأن زمن التسويات والصفقات قد آن أوانه في المنطقة، وان لبنان الذي تريده كل من ادارة الرئيس جورج بوش، وجاك شيراك ساحة لتصفية حساباتهما مع كل من الرئيس السوري والإيراني، لا يمكن ان تسعفه موسكو وفق ما يريد ويطالب الرئيس السنيورة علي حساب مصالحها وتطلعاتها مع كل من سوريا وإيران، وقديما قيل: يا حسرة الصغار من حروب الكبار، فكيف اذا ارتضي هؤلاء الصغار ان يتحولوا مرة جديدة الي حقل تجارب في لعبة الأمم؟!