د. عبدالله المدني

على الرغم من أن أعمال القرصنة البحرية ليست جديدة، بل يرتبط تاريخها بتاريخ اختراع واستخدام السفن كوسيلة للنقل والتجارة، فإن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في عددها مع تطور أساليبها وأدواتها، ولاسيما في المياه الآسيوية، الأمر الذي جعلها محط اهتمام إقليمي ودولي غير مسبوق لما تشكله من خطورة على أمن واقتصاديات العديد من الدول. ولعل مما ضاعف من خطورة أعمال القرصنة البحرية الحديثة أنها صارت مرتبطة أو متداخلة مع الأعمال الإرهابية والأجندات السياسية والأيديولوجية لبعض الجماعات والمنظمات، من بعد أن كانت في الماضي مجرد عمليات تقوم بها عصابات الجريمة المنظمة أو حفنة من المجرمين.

التعريف العالمي المبسَّط للقرصنة البحرية، طبقاً لمؤتمر الأمم المتحدة حول قانون البحار، هو أنها أي عمل من أعمال العنف أو الاحتجاز أو التخريب غير المشروع التي يقوم بها أشخاص أو جماعات ضد السفن والناقلات المُبحرة في أعالي البحار أو في المياه غير الخاضعة لسيادة دولة بعينها. المشكلة في هذا التعريف أنه لا يعتبر تلك الأعمال من قبيل القرصنة إذا ما وقعت داخل المياه الإقليمية للدول، ويصنفها على أنها جرائم سطو، علماً بأن معظم عمليات القرصنة تحدث في نطاق الأميال الاثني عشر من المياه الإقليمية لبعض الدول، ولاسيما الأرخبيلية منها كإندونيسيا والفلبين. ومن هنا بادر المكتب الدولي للملاحة البحرية المعني بجمع كافة المعلومات ذات الصلة بحوادث القرصنة البحرية إلى وضع تعريف آخر، لا ذكر فيه للمكان هو، أن quot;القرصنة هي كل عمل يستهدف الوصول إلى السفن بقصد السطو أو ارتكاب أية جريمة أخرى عن طريق استخدام القوةquot;.

أما الأسباب التي ساعدت على ازدياد حوادث القرصنة البحرية في العقد الأخير، فتلخصها المنظمة الدولية للملاحة البحرية في أحد تقاريرها بعوامل مثل:

1- التطور التكنولوجي الذي جعل السفن الكبيرة تبحر بطواقم ملاحية أقل عدداً، وبالتالي سهل مهمة القراصنة في الاستيلاء عليها.

2- ظهور جماعات ذات أجندات سياسية أو انفصالية تنقصها الأموال، وبالتالي تلجأ إلى أعمال القرصنة والخطف والاحتجاز للإنفاق على الأسلحة والعتاد والرجال.

3- تواضع الميزانيات التي تخصصها الدول لسلاحها البحري مقارنة بميزانيات سلاحي البر والجو، الأمر الذي حال دون قدرة سلاح البحرية على أداء أعمال الدورية بكفاءة وسرعة عاليتين.

4- عدم وجود دول ndash;مع بعض الاستثناءات القليلةndash; مستعدة لتحمل نفقات قوة بحرية دولية، تجوب أعالي البحار لحماية خطوط المواصلات والتجارة على نحو ما اقترحه quot;ألان تشانquot;، أحد أصحاب الأساطيل البحرية في سنغافورة، في أعقاب تعرض إحدى سفنه لعملية قرصنة مسلحة في عام 1998.

5- تأخر الاتفاق على إجراءات جماعية حاسمة للتصدي للمشكلة، بسبب المصاعب الناجمة عن تداخل الأمور السيادية والإجراءات القضائية والدبلوماسية.

وفيما يتعلق بحوادث القرصنة في المياه الآسيوية تحديداً، يمكن إضافة عامل آخر هو ما تتميز به مياه منطقة جنوب شرق آسيا من احتوائها على آلاف الجزر الصغيرة المتناثرة (مجموع الجزر الإندونيسية والفلبينية وحدها يصل إلى 20 ألف جزيرة) من تلك التي تساعد القراصنة على الرصد والانطلاق والاختباء، الأمر الذي يعقد من مهمة ملاحقتهم. كما يمكن إضافة العامل المتمثل في امتلاك العصابات والحركات الآسيوية المسلحة لأدوات ووسائل حديثة كشبكات الاتصالات الفضائية والرادارات والأسلحة الأوتوماتيكية المتطورة، فضلاً عن القوارب السريعة التي تسير بأضعاف سرعة البواخر العملاقة. كما أن نجاح القراصنة الآسيويين في معظم الحالات في الحصول على فدية مجزية لقاء تحرير طواقم السفن التجارية المختطفة، شجعهم على تكرار عملياتهم على نحو ما فعلته جماعة أبي سياف المتطرفة الفلبينية.

وهكذا لم يكن مستغرباً أن يسجل في الربع الأول من عام 2003 مثلاً نحو 230 حادثة قرصنة في المياه الآسيوية مقارنة بنحو 270 حادثة في عام 2002 كله، وأن يرتفع عدد تلك الحوادث في عام 2003 إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه الحال في عام 1993، وأن تصبح المياه الإندونيسية هي الأخطر على الإطلاق لجهة حوادث القرصنة، تليها مياه مضيق quot;ملقاquot;، فالمياه الفلبينية، فالمياه المحاذية لبنجلادش. ويكفي أن نذكر على هذا الصعيد أن ربع حوادث القرصنة أو 93 حادثة في عام 2004 وقع في الأرخبيل الإندونيسي، وأنه من بين 43 ملاحاً مختطفاً في ذلك العام، تم اختطاف 36 منهم في مياه مضيق quot;ملقا quot;في عمليات متفرقة. هذا ناهيك عن أن ثلثي إجمالي الخسائر المالية الناجمة عن الأعمال الإجرامية في البحار لعام 2000 مثلاً، والمُقدرة بنحو 16 مليار دولار، كانت بسبب عمليات قرصنة حدثت في مياه المحيط الهندي.

ورغم أن عدد الحوادث المشار إليها تراجع نسبياً خلال السنتين الماضيتين كنتيجة للتعاون الأمني والدوريات البحرية المشتركة فيما بين دول منظومة quot;آسيانquot; التي تعتمد اقتصادياتها على تجارة التصدير، والتي بدورها تعتمد بنسبة 90 في المئة على النقل البحري، ورغم مساعدات اليابان المعنية كثيراً بأمن مضيق quot;ملقاquot; حيث تعبر وارداتها النفطية القادمة من الخليج، ولقيام الولايات المتحدة بتسيير الدوريات في أعالي البحار ضمن جهودها في محاربة الإرهاب، فإنه من المبكر القول إن القرصنة في مياه المحيط الهندي صارت تحت السيطرة تماماً. بل الحقيقة هي أنها بدأت تأخذ أشكالاً جديدة وتركز على أهداف غير مسبوقة كناقلات النفط والغاز والسفن المحملة بالكيماويات والمعادن. ففي مارس 2005 مثلاً هوجمت ناقلة إندونيسية محملة بالمواد الكيمياوية في مضيق quot;ملقاquot; من قبل 35 قرصاناً مسلحاً بقاذفات الصواريخ، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان ما قام به مسلحو حركة quot;أتشيه الحرةquot; الانفصالية الإندونيسية في عام 2002، حينما هاجموا سفينة نفطية مستأجرة لحساب شركة quot;إيكسون موبيلquot; الأميركية. وفي أبريل من نفس العام اختطف قراصنة مسلحون بالرشاشات الأوتوماتيكية سفينة محملة بما يساوي 4.6 مليون دولار من المعادن أثناء سيرها في المياه الإندونيسية باتجاه سنغافورة.

وهكذا فإن الوضع يتطلب قدراً أكبر من التعاون والتنسيق الأمني والمخابراتي واللوجستي فيما بين الدول المطلة على المحيط الهندي والدول ذات المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة كالولايات المتحدة واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، مع وضع آليات دقيقة وسريعة للتعامل مع أي اعتداء على الناقلات البحرية، وزيادة مساهمة القوى الاقتصادية الكبرى في تطوير قدرات سلاح البحرية وحرس الحدود في الدول الآسيوية على نحو ما تفعله اليابان حالياً مع سلاح البحرية الإندونيسي. لكن يبدو أن ملاك السفن والناقلات التجارية لا يعولون كثيراً على مثل هذا التعاون، رغم قطعه لأشواط بعيدة في سنوات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، بدليل تحمسهم الكبير لمقترح قدمته المنظمة العالمية للملاحة البحرية، وتم تطبيقه واختباره بنجاح من قبل إحدى مؤسسات الأمن الهولندية في ميناء روتردام العملاق. وفحوى الفكرة هي إحاطة جسم السفينة بشبكة كهربائية صاعقة بقوة 9000 فولت للحيلولة دون استيلاء القراصنة عليها.