رشيد الخيون


لخطورة مهنة الطب، في حياة البشر، لا يُمنح الأطباء إجازتها إلا بعد أداء قسم غليظ، عُرف بـ laquo;قسم بقراطraquo;. ومن قبله كان لدولة حامورابي (نحو 1894 ـ 1594 قبل الميلاد) ثلاثة عشر قانوناً تلزم عمل الجراحين والبيطريين (القوانين في العراق القديم). ويعجز المخيال عن حساب المفارقة بين رُقي الطب بالبلاد العراقية قبل التاريخ، وبين تمخض جامعتها بعد التاريخ بألفي سنة ونيف عن أطباء انتحاريين، وآخرين أقرب طباعاً إلى الشعوذة من الطبابة!! ويعزو ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ) نسبة القسم أو العهد هذا إلى بقراط ذلك لإشاعته تعليم الطب، وإلزام المتخرج بأداء قسم، منه: laquo;إني أقسم بالله رب الحياة والموت، وواهب الصحة وخالق الشفاء... لا أعطي إذا طُلب مني دواء قتال، ولا أشير أيضاً بمثل هذه المشورة...raquo; (طبقات الأطباء).

لا شك أن الطبيب بلال عبد الله، ومن قبله أيمن الظواهري، أقسما هذا القسم، إلا أنهما حنثا به. ففي عُرف بلال وأشياخه أنه قسم لطبيب وثني أولاً، وليست الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة إلا دواءً شافياً من جاهلية ثانياً! وبالمستوى نفسه حنث بعهد بقراط الأطباء الذين مارسوا وظيفة الإشارة في أقبية العذاب ببغداد بمَنْ يتحمل العذاب من المعتقلين من دون لفظ الأنفاس. بل تجوز لنا الإشارة إلى كل طبيب ترك عالم المهنة ودخل عوالم أخرى أنه حانث بالقسم. صحيح أن الطبيب المصري جورج قنواتي (ت 1994) أصبح راهباً بعد الطب لكنه ظل وفياً للتأليف والتدريس فيه. ومال بكل جوارحه الطبيب العراقي قتيبة الشيخ نوري، الذي تدور الشبهات حول حادث موته اغتيالاً السنة 1979، إلى الفن، لكنه ظل يستقبل مرضاه ويجري العمليات ويرسم.

ونحن نعيش ظاهرة الطبيب الانتحاري، خريج كلية طب بغداد، والوافد إلى لندن لكسب الخبرة والعمل، نتذكر الطبيب هاشم الوتري (ت 1961) الوافد إلى لندن (1928) أيضاً لأخذ الخبرة والعودة لإدارة كلية الطب ببلاده، تلك التي لا يُنسى الفضل الأساسي للطبيب هاري سندرسن في تأسيسها. وأن زوجته (إليزي) هي التي صممت شعار الكلية العراقي البحت: laquo;صورة نهرين يجريان على شكل الحرف الإنكليزي (Y) يضم ذراعاه صورة أفعى وكتاباً مفتوحاً، وفي أسفل ذلك وعلى كل من الجانبين صورة ثور آشوريraquo; (مذكرات سندرسن باشا).

إذا كان سندرسن الإنكليزي له الفضل في هذا التأسيس فمن قبل يعود الفضل في إيجاد التطعيم الوقائي ببغداد للأرميني الأجنبي (أوانيس مراديان)، وذلك العام (1809) حين تمكن من إقناع مفتي بغداد بتطعيم أولاده، فأخذ الناس بالإقبال عليه (العلوجي، تاريخ الطب العراقي). بطبيعة ما آل إليه الحال من تشنج في العقول وغواية العنف، يصبح أمثال الطبيب سندرسن والمترجم مراديان هدفين لبلال وصحبه، هذا إذا سلم المفتي من التكفير، كيف لا، وقد أجاز العون من (الكفار)!

كان من قبل تأسيس كلية طب بغداد يتخرج الأطباء من كلية laquo;حيدر باشاraquo; العثمانية باستانبول، وتخرج منها الوتري (1918) ليتولى عمادة الكلية الفتية (1937) وحتى (1947). والوتري من بين أعضاء الجمعية الطبية العراقية، التي تأسست (1920)، الذين ساهموا بتأسيس الكلية لتفتح أبوابها (1927). ومنها تخرجت أجيال شاعت سمعتهم الطبية في أرجاء العالم، فأعفوا من اختبارات معادلة الشهادات في الجامعات البريطانية وسواها، بل تُدرس بحوثهم فيها.

أقول: أين ذهبت تلك الأسماء، من خريجي هذه الكلية، التي كانت بالأمس القريب تملأ العيون على طول شارع الرشيد، الذي اختفى هو الآخر؟ هل ابتلعتهم الأرض وراحت فنونهم هباءً، ففي متوالية الهدم والبناء تجد بغداد تلد وتأكل أبناءها! وتُنبيك عن تردٍ حضاري خطير، أن تُكتشف مفاسد مريعة في وزارة الصحة، فساد أدوية وفساد ضمائر، غطاؤها الشرعية البرلمانية! وما ظاهرة بلال عبد الله إلا تحصيل حاصل، لا يتعلق بدخول الإرهاب حسب بل يتعلق بتخصيب الإرهاب داخلياً، ولم تكن وزارة الصحة بعيدة عن ممارسته، عندما تتوشح بالوشاح الديني، الذي تظهر فيه المعاندة الطائفية جلية. وفي الوقت نفسه هناك مَنْ يَعدُّ بلالاً مجاهداً تهزج له أهازيج ثورة العشرين.

لا أدري ما سيقوله محمد مهدي الجواهري (ت 1997) في أمثال الانتحاري الطبيب والقائمين على الصحة العراقيين اليوم! بعد قوله (1949) لهاشم الوتري: laquo;تتلمس النبضات تجري أثرها.. خلجاتُ وجهك راغباً أو راهباraquo;. سمعنا الجواهري، وهو ينشدها في حفل محتشد باليمن (1983)، يقول بنبرة صوته النافحة مهابة وتهدجاًً: laquo;ومنها البيت المشهور: أنا حتفهم أَلج البيوت عليهم.. أغري الوليد بشتمهم والحاجباraquo;. وليت شعري، لو أن الجواهري جعل المئتين والثلاثين بيتاً، وهنَّ كيان القصيدة، لهاشم الوتري حسب، ولم يستغل المناسبة للثأر من خصومه فيها، ويفسد على المحتفى به نشوة التكريم بعضوية الجمعية الطبية البريطانية.

على أية حال، أجد مفارقة مؤلمة بين عصر الطبيب هاشم الوتري، ورقيه العلمي والحضاري، وبين انحطاط عصر الطبيب صاحب اختراع laquo;بكرين وصدامينraquo; ـ نسبة إلى البكر وصدام حسين ـ الذي احتفلت الدولة به وبشعوذته أواسط السبعينيات، ثم الطبيب الانتحاري، والكل ينتسب إلى كلية طب بغداد. إنه أمر جلل يستوجب الإطناب بالسؤال: لماذا تتبدل عصور العراق بهذه الانكسارات الحادة ؟

[email protected]