محمد السمّاك

في مطلع عهد الاستقلال رفع الصحافي اللبناني المرحوم جورج نقاش صاحب ورئيس تحرير جريدة لوريون الشعار الشهير: quot;سلبيتان لا تصنعان أمةquot;. يومها كان يعني بالسلبية الأولى اللا المسيحية للانتداب الفرنسي، وكان يعني بالسلبية الثانية اللا الاسلامية للوحدة مع سوريا.
منذ الأربعينات من القرن الماضي حتى اليوم تغيّرت وقائع وقناعات ومواقف كثيرة. وتدفقت مياه غزيرة تحت جسر اللاءتين اللتين شكلتا في حدهما الأقصى ركيزتي قيام الدولة المستقلة. ولكن هذه الدولة المستقلة لم ترقَ إلى مستوى دولة الاستقلال. بمعنى انهما لم تضعا البنية السياسية والأمنية والقضائية والاقتصادية للدولة الجديدة على قاعدة الاستقلال.
اليوم هناك سلبيتان جديدتان لا تصنعان أمة، ولكن يمكن ان تبقيا على لبنان الدولة التي تتطلع إلى ان تكون دولة الاستقلال. تتمثل السلبية الأولى في اللا المسيحية لأسلمة لبنان. وتتمثل السلبية الثانية في اللا الاسلامية بأنه لا أسلمة للبنان.
عندما يرفع مسيحيون لبنانيون شعار لا لأسلمة لبنان، فلا بد ان تكون لديهم مخاوف أو هواجس أو ربما وقائع يمكن ان تغيّر صورة لبنان وكيانه ودوره ورسالته. وهي رسالة يؤمنون بأنهم مؤتمنون عليها وانها تشكل أساس هويتهم ووجودهم الوطني.
ومن مظاهر الشعور بخطر الأسلمة، ما سبق أن أشرنا اليه في مقال سابق (المستقبل 15 حزيران 2007). وهو يتمثل في مشروع عصابة العبسي بإقامة إمارة اسلامية في طرابلس والشمال، وفي احتفاظ حزب الله الاسلامي بسلاحه وهيمنته على مناطق شاسعة من لبنان جنوباً وبقاعاً، وكذلك في استعصاء المخيمات الفلسطينية بسلاحها عن الدولة اللبنانية وعن مقوماتها السيادية.
وعندما يرفع مسلمون شعار انه لا أسلمة للبنان، فلا بد ان تكون لديهم معطيات تثبت صحة ما يقولون. ومن هذه المعطيات، ان الحكومة الحالية تخوض صراعاً حاداً مع الجهات التي يخشى المسيحيون من مشاريعها ومن تطلعاتها لأسلمة لبنان. اولاً مع عصابة العبسي حيث وفر المسلمون الغطاء الشرعي والوطني لدور الجيش الرائد في العمل على استئصال هذه العصابة من جذورها في مخيم نهر البارد وفي مدينة طرابلس والبلدات المجاورة لها. وثانياً في دعمهم اللامحدود للحكومة الحالية في مساعيها الوطنية والعربية والدولية من اجل معالجة موضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ومن اجل إعادة تنظيم شؤون المخيمات الفلسطينية اجتماعياً وانمائياً وأمنياً بالتعاون مع السلطة الشرعية الفلسطينية. وثالثاً من خلال تأييد مطالب الحكومة بتنفيذ ما ورد في قرار مجلس الامن الدولي 1701 لجهة بسط سيادة الدولة على كافة الأراضي اللبنانية بحيث لا تبقى هناك جيوب أمنية خارج اطار هذه السيادة.
احتاج اللبنانيون في الأربعينات من القرن الماضي إلى مؤتمر وطني ليجعلوا من السلبيتين القديمتين قاعدة إيجابية لانتزاع الاستقلال. ولعلهم يحتاجون اليوم أيضاً إلى مؤتمر مماثل ليجعلوا من السلبيتين الجديدتين قاعدة إيجابية لانقاذ الاستقلال.
ولعل في الجرأة الأدبية العالية التي عكستها موعظة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير يوم الأحد الماضي عندما قطع الطريق أمام محاولات تقويل بيان مجلس المطارنة ما لم يقله، بل وما لم يشأ أن يقوله، ما يؤسس لعمل وطني اسلامي shy; مسيحي مشترك يؤكد على اللا للأسلمة، وعلى اللا أسلمة.
فلا المسلمون في العالم (مليار و300 مليون انسان) يحتاجون إلى زيادة عدد دولهم الاسلامية، ولا المسلمون اللبنانيون مستغنون عن وطنهم اللبناني بما يمثله من صيغة حضارية يعتزّون بها للتعايش بين المسلمين والمسيحيين على قواعد إيمانية ووطنية وانسانية مشتركة.

ولكن ذلك لا يتحقق الا بإيجابيتين متكاملتين: الايجابية الأولى هي ان يثق المسيحيون اللبنانيون بوطنية المسلمين اللبنانيين وبإيمانهم الصادق بلبنان وطناً نهائياً لهم، ليس فقط عملاً بما جاء في وثيقة الطائف، ولكن عملاً بما جاء قبل ذلك في الثوابت الاسلامية التي صدرت عن دار الفتوى.
اما الايجابية الثانية فهي ان يثق المسلمون بجدية القلق المسيحي مما يجري في لبنان وفي المنطقة العربية.
فعلى الصعيد اللبناني فإن الشعور العميق بخطر الأسلمة يتجاوز بعض المظاهر الشكلية المتمثلة في تحديد الأعياد الدينية (يوم الجمعة العظيمة) أو العلاقة مع مؤسسات منظمة المؤتمر الاسلامي (مشروع اتفاقية حقوق الطفل في الاسلام). ان هذا الشعور يكمن في الاعتقاد بأنه اذا اختلف المسلمون السنّة والشيعة يخرب لبنان، واذا تفاهموا يصلح لبنان. وانه في الحالتين لا بد للبناني المسيحي أن يتساءل: وماذا عن دور المسيحيين؟ لقد كان المسلمون يشكون من المارونية السياسية بمعناها الاستفرادي في عملية اتخاذ القرار السياسي اللبناني. اما الآن فان المسيحيين يشكون من أسلمة عملية اتخاذ هذا القرار. كان تجاهل المسيحيين بالأمس للشكوى الاسلامية خطأ. وهو اليوم خطأ مضاعف ان يتجاهل المسلمون الشكوى المسيحية.
أما على الصعيد العربي، فان الهجرة المسيحية المتفاقمة تثير الكثير من الهموم والمخاوف على المستقبل والمصير. فاذا لم يعِ المسلمون خطورة هذه الهجرة وانعكاساتها السلبية في كافة الحقول والمجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكذلك على المزاج المسيحي العام، واذا لم يجعلوا من هذه الهجرة همّاً اسلامياً اضافة إلى كونها همّاً مسيحياً، فان اي معالجة لحالة التردي القائمة تبقى ناقصة ومبتورة وبالتالي معرّضة للفشل.
بهاتين الإيجابيتين: الثقة المتبادلة والهمّ المشترك، يمكن إعادة بناء استقلال لبنان. بل يمكن أكثر من ذلك البدء ببناء دولة الاستقلال.