عصام نعمان

يُفترض بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان أن تكون هيئة قضائية مختصة بمحاكمة قتلة رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري . لكن ملابسات جريمة الاغتيال، المحلية والإقليمية والدولية، ترشّح المحكمة، ربما خلافاً لرغبة بعض قضاتها، لإصدار قرار سيكون له وقع سياسي مدوٍّ وتداعيات شديدة الخطورة .

ملابسات الجريمة، وربما دوافعها أيضاً، اتسمت بواقعات وتدخلات وحملات وظّفتها جهات محلية، وأخرى أمريكية وصهيونية، لاتهام سوريا بأنها تقف وراءها . ذلك كله أدى إلى توقيف أربعة من كبار الضباط، أبرزهم مدير عام الأمن العام اللواء جميل السيّد، نحو أربع سنوات بشبهة التخطيط لعملية الاغتيال وتنفيذها . لكن التحقيقات الطويلة والمطولة لم تؤدِ إلى العثور على دليل واحد لإدانة هؤلاء الضباط، بل كشفت أمراً غريباً ومستهجناً هو ظهور مجموعة من شهود الزور حاولت دعم اتهامات جهة الإدعاء، ولم يلبث المحققون أن كشفوا زورهم وتزويرهم .

ماذا كانت النتيجة؟

ثَبُت تزوير الشهود وحوكم أحدهم ثم جرى تهريبه وإخفاؤه، وبدأت ملاحقة الباقين، وبُرئت ساحة الضباط الأربعة .

بمجرد خروجه ورفاقه من السجن، وعد اللواء السيد نفسه والناس بملاحقة شهود الزور ومن يقف وراءهم وكل من تسبب بتوقيفه بغير وجه حق . وما لبث أن رفع قضية أمام المحكمة المختصة في دمشق ضد شهود الزور من ذوي الجنسية السورية، ثم تقدم باستدعاء من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي من أجل الحصول على المواد الثبوتية والأدلة وإفادات الشهود في الملفات التي أحالتها النيابة العامة لدى محكمة التمييز اللبنانية على المحكمة الدولية .

لماذا راجع اللواء السيد المحكمة السورية ثم المحكمة الدولية ولم يراجع المحكمة اللبنانية المختصة؟

لأن القضاء اللبناني أدلى بعدم اختصاصه للنظر في قضية اغتيال الحريري وما يتفرّع عنها من دعاوى ومعاملات، بحجة صدور قرار عن مجلس الأمن يوكل هذه الأمور إلى المحكمة الدولية الخاصة وحدها . لكن المدعي العام لديها دانيال بلمار دفع أيضاً بعدم اختصاصها!

محامي السيد، أكرم عازوري، ردَّ على بلمار بأن اختصاص المحكمة الدولية قائم ولو في غياب النص، وذلك من خلال الحق بتوسيع الاجتهاد في الموضوع، مستشهداً بالسوابق الدولية وبالمعاهدات التي تملي على أي محكمة، مهما كانت القيود المقررة على اختصاصها، أن تقوم بتسليم أي أدلة جرمية تقع عليها، وإذا لم تفعل تكون ارتكبت جريمة إخفاء الأدلة .

بدا أن قاضي الاجراءات التمهيدية دانيال فرانسين الذي كان ينظر بتاريخ 13/7/2010 في استدعاء اللواء السيد، ويستمع إلى مطالعة محاميه وإلى جهة الادعاء (بشخصيّ مندوبيّ بلمار القاضيين داريل مانديز وويتهوب ايكهارت) توجّه إلى فريق الادعاء متسائلاً: إذا كان اختصاص المحكمة الدولية لا يتيح للمستدعي (جميل السيد) تحصيل حقه، فإلى أي محكمة يلجأ؟ لكن فريق الادعاء امتنع عن الجواب .

القاضي فرانسين أرجأ إعطاء قراره إلى منتصف شهر سبتمبر/ أيلول المقبل . قد يأخذ بدفع فريق الادعاء بعدم اختصاص المحكمة أو قد يأخذ بحجج السيد ومحاميه عازوري، كما قد يجتهد مركّزاً، في شأن اختصاص المحكمة، على أن طلب الحصول على المواد الثبوتية والأدلة يدخل في خانة الإجراء الإداري وليس الحكم القضائي، وأن اختصاص المحكمة يكون بالتالي قائماً بغية تسهيل سير العدالة لإحقاق الحق .

الأطراف جميعاً تنتظر الآن حكم القاضي فرانسين . فالحكم مهم جداً لمضمونه، لكنه أكثر أهمية لتوقيته . فهو سيصدر في منتصف سبتمبر، أي في الفترة التي سبق لرئيس أركان الجيش ldquo;الإسرائيليrdquo; الجنرال غابي أشكينازي أن حددها لصدور القرار الاتهامي عن المدعي العام بلمار، وrdquo;تنبأrdquo; بأن فتنة أهلية ستعقب صدوره . وكانت مجلة ldquo;دير شبيغلrdquo; الألمانية قد زعمت قبل أشهر عدة أن فريق الادعاء يميل إلى اتهام القائد المقاوم الراحل عماد مغنية بالتخطيط للجريمة وارتكابها . وقد تلقفت دوائر سياسية وإعلامية، ldquo;إسرائيليةrdquo; وأمريكية وفرنسية، هذه المزاعم لتنسج منها رواية خيالية حول ldquo;تورطrdquo; حزب الله في جريمة الاغتيال .

إذا ما صدر قرار عن القاضي فرانسين بتسليم اللواء السيّد المواد الثبوتية ومستندات التحقيق التي طلبها، فإن قراره سيعدّ لطمة ثانية شديدة لجهة الادعاء بعد لطمته الأولى لها المتمثلة بالإفراج عن الضباط الأربعة في ربيع العام الماضي، لعدم توافر أي دليل ضدهم . وغني عن البيان أن السيد ومحاميه سيستثمران المواد الثبوتية والمستندات المسلّمة إليهما في الدعوى المقامة منهما على شهود الزور لدى المحكمة المختصة في دمشق . ولا يستبعد أن تتكشف حقائق جديدة مثيرة، بل بالغة الإثارة، في المحاكمة ولاسيما لجهة الأشخاص والقوى، المحلية والإقليمية والدولية، التي تقف وراء شهود الزور وربما أيضاً وراء اغتيال الحريري .

في هذه الحالة سيكون لقرار القاضي فرانسين دور في تنفيس جوّ التوتير والشحن والاتهام الذي يستهدف حزب الله . لكنه سيؤدي، من ناحية أخرى، إلى زعزعة موقف جهة الادعاء، سواء في جانبها المحلي أو في جانبها الإقليمي والدولي . فقد راهنت جهة الادعاء طويلاً على مسألة اتهام سوريا باغتيال الحريري من أجل إسقاط النظام في دمشق أو إضعافه على الأقل، لإكراهه على تغيير سياسته المعادية للغرب الأطلسي . وإذا ما جرى كشف حقائق جديدة تُبعد أصابع الاتهام عن حزب الله، فإن فريق الادعاء بجوانبه كافةً يكون قد خسر قضيته أمام خصومه المحليين والإقليميين، الأمر الذي سيترك آثاراً بالغة الحساسية وخطرة النتائج على موازين القوى المحلية، وربما الإقليمية أيضاً .

يبدو أن فريق الادعاء، بجانبه اللبناني في الدرجة الأولى، قد تحسّب للتداعيات المرتقبة، أياً سيكون مضمون قرار القاضي فرانسين، أو مضمون القرار الظني للمدعي العام بلمار، فبادر إلى مواجهتها بموقفين:

الأول، قيام رئيس الحكومة سعد الحريري بالتأكيد للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بأنه على يقين بأن الحزب لا علاقة له بما يمكن أن يكون قد قام به القائد الراحل عماد مغنية ورفاقه، لكون الأمر تمّ بمعزل عن الحزب . لكن نصرالله رفض هذه المقاربة، وشدد على أن أي اتهام لمغنية هو محاولة للنيل من الحزب، إذ لا يمكن الفصل بين الاثنين، وحذر تالياً من اللجوء إلى هذه المقاربة الشريرة أو محاولة تبريرها .

الثاني، تعميق المصالحة وبالتالي التعاون مع سوريا ورئيسها بشار الأسد، في محاولة واضحة لتعويض أي أضرار قد تنجم عن قرارات المحكمة الدولية . في هذا السياق يعتزم الحريري زيارة دمشق غداً لتوقيع أكثر من 18 اتفاقاً، بعضها جديد وبعضها الآخر يعدّل ويطوّر أكثر من 75 اتفاقاً ومذكرة تفاهم بين لبنان وسوريا، كان أولها منذ 67 سنة، وسيكون أخيرها وليس آخرها في زيارة الحريري المقبلة لدمشق وفي صحبته 13 وزيراً وجيش من المساعدين والمستشارين والخبراء والمرافقين .

ما الأمثولة المستخلصة من الصراع المحتدم؟

لعلها أن قرارات المحكمة الدولية، مهما كانت قوية، فإن قرارات الحكومة المحلية في لبنان وسوريا تبقى أقوى، خصوصاً عندما تتفاهم الحكومتان وتتعاونان .