مطاع صفدي
إنه عصر إعادة التوازنات الدولية على مستوى القارات وليس على صعيد العلاقات ما بين فرديات الدول وحدها. فالمفكرون وليس السياسيين فقط يوحدهم شعور أن العالم يمرّ في حقبة انتقال. فهو اليوم أبعد ما يكون عن الشعار الدبلوماسي السحري. أي الاستقرار ما بين دول عظمى أو عادية لا يساورها القلق على يومها، قبل غدها. هكذا تنقلب العولمة على ما تبقى من وعودها بالانفتاح وانتشار الازدهار بين أجناس البشرية جمعاء دون تفريق، لتصبح عولمة الأزمات والكوارث حيثما فرضت قوانينها النخبويَة الجائرة، فدفعت أكثر من ثلثي المعمورة إلى أدنى درجات الفقر والعوز والمرض، إكراماً لسادة اقتصاد الأرقام الفلكية، من هذه الحفنة القليلة من طواغيت عصر الشركات المتعددة الجنسية.
بعض النزيهين من مفكري الاقتصاد الكبير يرجعون الأسباب الحقيقية للأزمة العالمية، إلى هذه العولمة باعتبارها المسؤولة عن اطلاق إمبراطورية الشركات المتعددة للجنسية ما فوق سلطات الدول وسيادتها على مصالح مجتمعاتها. حتى لقد فقدت الدول الكبرى نفسها قدرتها على صيانة مراكو قراراتها السياسية واستقلالها الدستوري من سطوة المنافع الفردية والفئوية. لم تعد مجتمعات تلك الدول منتجة للرجال العظام، بقدر ما غلب على أحزانها الرئيسية توصيفُ الطبقة المحترفة للشأن العام، كتابع من الدرجة الثانية لآمريات السوق وسماسرته. فقد تلاعب الرئيس جورج بوش الابن وزمرته من أقطاب النفط والسلاح، بمصائر عالم العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. حتى أمسى الفساد العلني الفوقي مبرراً لأخطر حروب هذه الحقبة المظلمة. وكان الاكتشاف الأبرع لقيادة المرحلة أيديولوجياً، مابعد اندراس الشيوعية تحت حطام الاتحاد السوفييتي، هو إعادة تسييس (المقدس)، وذلك بتفجير صراعات أسمائه الدينية وطقوسها التقليدية، في نطاق أوسع الجماهير وأشدها التصاقاً بموروثاتها التربوية المتأصلة من قديم العصور في لا وعيها الجمعي.
عولمة الفساد دولياً وشعبوياً محتاجة إلى نظام حماية، تحريضي هجومي معاً، لا يمكن أن توفره إلا نوعية المعتقدات الغيبية الإطلاقية؛ تلك التي لا تتطلع إلى براهين عقلانية قاطعة بقدر ما تثير هيجانات انفعالية قابلة للتسييس الشعبوي المباشر أو الفوري. حتى يمكن القول أن انبعاث ما يسمى بالوحوش النائمة، من أشكال العنف الأهلوي، في معظم أقطار العالم الثالث. كان عبارة عن ردود فعل جمعوية على غزوات العنف العولمي، عبر جبهاتها الاقتصادوية والعسكرية والمدنية الزائفة، ضداً على أبسط تطلعات شعوب هذا العالم. نحو اكتساب أدنى حقوقها الآدمية.. وليس الحضارية العالية البعيدة المنال أصلاً.
لقد تم الاصطلاح على كامل مشهدية العنف الكوني المعولم هذه بإعلان حرب الكل ضد الكل، تحت صيغة الإرهاب والإرهاب المضاد. واعتقد الغرب أنه خلال مواقع هذه الحرب المعممة يمكنه أن يؤجل ما استطاع من وصول العولمة إلى حضيض فشلها المحتوم مع انفجار أحابيل الرأسمالية بالجملة، ومحاولة تزويرها بوصفها مجرد أزمة اقتصادية عابرة. ذلك أن ما حدث حقاً هو ارتداد جنون العولمة من أطراف المعمورة إلى مراكزها الأساسية، في مواطن الغرب الأصلية. يبقى التعامل مع نفايات هذه المعركة الكبرى الشمولية التي يتداول معانيها وأحوالها البائسة مفكرو أوربا وأمريكا، بأوصافها السلبية المحبطة، ومن خلال نداءات للتنبيه والإيقاظ. إذ أن (انهيار الغرب) أصبح حقيقة ملموسة وليس تنبؤاً سحرياً أو أسطورياً؟
في هذه اللحظة السوداوية يثور بعض الفكر على عادة الغرب المتأصلة في تحطيم المرايا العاكسة لوجوهه من دون براقع تجميلية أو تسويقية. لكن بالمقابل يصر الساسة المحترفون على إيقاد نيرانهم المعهودة في نفايات العولمة المحتضرة؛ يثيرون صراعات العنصرية في أخطر أشكالها مصحوبة بالنزاعات الدينية الدموية، التي يراد منها إعادة دفن حركات التحرر المدنية الخالصة، ليس لدى أمم الشرق الناهضة وحدها، هذه المرة، بل لدى مجتمعات الشمال كذلك، المدعية لحمل أعباء الحقوق الإنسانية. فالنخب الثقافية في هذه البلاد تزداد تقدساً نحو الوراء يوماً بعد يوم، حتى يرتد بعضها قريباً، إلى فاشيات القرن العشرين المزدهرة في أعقاب الأزمة الاقتصادية الكبرى لرأسمالية الربع الأول من ذلك القرن.
ليست النازية أو الفاشية أو الستالينية هي الأيديولوجيات العائدة اليوم، بل العائد منها هو جذرها الأقدم منها، المتمثل تاريخياً عبر المئة سنة من حروب أوربا الدينية. لن تكون الجيوش هي أدواتها الفعالة وحدها، بل جماهير الشعوب المعبأة بالأحقاد الغيبية ضد بعضها. صحيح أن الشرارة التي قدَحَتْها أحداث الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر (2001) قد دشَّنت، طيلةَ السنوات التسع الماضية، مختلفَ التمارين الأولية المطلوبة لإدخال المعمورة في نفق المصير القروسطي الأوربي، مستعاداً مع تعميم الإرهاب أكثر فأكثر بقدر ما تتضاعف قوى الإرهاب المضاد له، وتتراكم هزائمها العسكرية. لكن هذه الحقبة الإرهابية السوداء لن تلقي أسلحتها العسكرية، أو بعضها، إلا لتتنكّب الأسلحة السياسية والدبلوماسية. ومن المحزن أن ثقافة المدنية الغربية راحت تفقد حماياتها الفكرية والاجتماعية، وينجر أقطابها في ذيولها، مختلقين سفسطة التسويغ لما يصار إلى ترسيخه في عقول العامة، أنه إن كان ثمة انهيار للغرب، فلن يكون سببه إلا.. الإسلام. وبالتالي إن كان على الغرب أن يدفع عن نفسه هذه النهاية الكارثية، فلا بد له من استرداد تراثه الموصوف باليهودية والمسيحية لمقاومة الغزو الإسلامي القادم، بدءاً من مكافحة طلائعه، من المهاجرين، هؤلاء الغرباء الملونين المتفشين في أرجاء عواصمه الجميلة النظيفة.!
التهويل المتنامي بثقافة النهايات الكارثية، الذي لم تعد تخلو من تداول مفرداته وأحواله مجلةٌ أو ندوة أو جامعة، أو لسانٌ لمفكّر مكرّس، أو قلم لصحافي مرموق، إنما يعرف أصحابه والمنتمون إلى ركابه، أنه ليس سوى تغطية على عقم مختلف العلاجات والحلول لتداعيات الأزمة الاقتصادية. فهي أمست طفيلية ثقيلة على حياة الناس العاديين ومصالحهم العادية، بعد أن اختفت بسرعة من بازار الحلول والمقترحات، تلك التحليلاتُ الجدية التي تصوّب الأنظار نحو جذر المعضلة، في نظام الرأسمالية الهوجاء، الذي شرعن إمبراطورية اللصوصية الكونية، هذا بالرغم من تساقط البعض من فرسانها الأشاوس. مع انفضاح ألغازها المالية العفنة، المتسترة على تغلغل الفساد المنظم في خلايا مؤسساتها السياسية الكبرى.
هناك من صار يجهر بنوع الخبيء من الآراء التي لم يألف المجتمع المثقف تناولَها بحروفها الصارخة، زَمَنَ الرخاء الغربي المنصرم. منها القولُ أن المسّ بالرأسمالية كأنه المسّ بتمثال الشخصية المفهومية للغرب. فلا انفكاك أبداً ما بين الوجه والقفا في هذا التمثال المقدس عينه. وقد بلغ هذا الرأي ذروة مغالطته الضمنية في ترسيخ الاعتقاد بأن أعلى ثمرات التقدم الغربي، وهي الديمقراطية، فإنها مشروطة الوجود والديمومة بعلاقتها العضوية مع حرية السوق، لكن فضائح المؤسسة المالية ككل، المتوالية، جعلت حتى المواطنين العاديين يكتشفون المزيد من هشاشة تلك الديمقراطية بسبب من عجزها عن وضع حد قانوني تشريعي لهذا التلازم الخبيث بين المال السياسي ومراكز القرارات العليا للدولة. هكذا يفهم المواطن الأوربي العادي حقيقة موقعه من الهرم الدستوري لدولته، إذ أنه ليس هو الناخب الفعلي لحكامه وقادته، وانه لا يختلف كثيراً عن موقع زميله من العالم الثالث بالنسبة لدستورية سلطانه ومحتكريها من القلّة المتسلطة على مجمل العمليات الانتخابية، والقابضة وحدها على مفاتيح التغيير لمختلف شؤون الحياة العامة.
غير أن الأمل ما زال معقوداً على الشارع في عواصم الغرب الكبرى. فلم يتعاظم فساد الطبقة الحاكمة، وتبعيّتُها شبه المطلقة لقوى المال إلا خلال مرحلة الرفاه الكاذب؛ وفيها انكفأت الجماهير إجمالاً عن السياسة، مأخوذة بفلسفة السعادة الفردانية، التي تنافس جيلٌ من الكتاب على التبشير بملذاتها وأوهامها الطفولية معاً. غير أن هذه الجماهير اللاهية والمنسحبة، ملأت فجأة شوارع باريس ومختلف مدن فرنسا، وأطلقت مظاهرتها المليونية غير المسبوقة منذ عقود طويلة. ذلك أن فرنسا لا يمكنها أن تنسى، كونها مدينة لسلطة الشارع في طول ذلك الشريط من قفزات تقدمها السياسي المصحوب بمكتسبات الحقوق الاجتماعية. فقد كتبت جماهير الشارع الباريسي عناوين المنعطفات العظمى لتاريخ فرنسا الحديث، وأوربا معها، منذ قرنين ونيف.
سوف يرقب العالم من جديد أن طلائع التغيير الكوني، لصالح البشرية جمعاء، وليس للتعجيل في اندثارها، لن تحتكرها الرأسماليات الصاعدة من أعماق الشرق، لتكرر تراجيديا الرأسمالية الغربية المحتضرة. بل هي ثورة الوعي الجماهيري لإنسانية العصر، بدءاً من تراكمية تراثٍ آخر من رأسمالية المدنية، التي لن يكون الغرب الآخر، الجماهيري، بعيداً عن أقرانه من رواد التنوير الشرقي الجديد، في المشاركة في هذا الجهد الذي سوف يصنع تراث المستقبل الإنساني المختلف. أما عالم اليوم فهو فاقد للاستقرار وقد يكون يمر في مرحلة انتقال. بل هي مرحلة استكمال التصفيات لكوابيس العالم القديم وأمراضه المستعصية. وقد تكتسب التصفيةُ الأخيرة المنتظرة، صفةُ كونها الحاملةَ لرهان تنويرٍ كوني، ليس غربياً ولا شرقياً، ولكنه رهانُ خلاصِ التاريخ من عِقَده عقدة المزمنة: العنصرية. وهي المولدة لأيديولوجيا الأيديولوجيات كلها، الموزعة شرقاً نحو الغيبيات الدينية، وغرباً نحو أنظمة الاستغلال والتسلط الكليانية. كأنما التاريخ يأبى أن يستغني عن (قرونه الوسطى) مرة وإلى الأبد. بل هي عائدة عالمياً، ولا تخص حضارة معاصرة اليوم دون سواها.
يبقى أن الأصعب هو انتظار عصر تنوير جديد، كونيٍّ دون تمييز قاريّ أو حضاري. لكن دعاة هذه الطوباوية الاستثنائية سوف يعولون على الخزين الهائل والمكبوت مما يصطلح عليه باسم/رأسمالية المروءة. أو الكرم، بحسب تسمية الفيلسوف الألماني المتميز بيتر سلوترديك. وقد يخص بها حالة أوربا الراهنة، بديلاً عن تداولية سقوط إمبراطوريتها. فهي إن سقطت، فإلى الأمام، وليس إلى الهاوية، بحسب تعبيره. إنه التعويل على انبعاث غرب آخر مختلف بديلاً عن نهايته المحتومة. وقد يكون التنوير الكوني المنشود مشروطاً بريادة هذا الغرب المغاير. لكنه لن يفوز بكونيته الموعودة إلا بانفتاحه على روحانية الشرق، بعد تصفيتها وخلاصها من أدلجات التصنيم وطقسنة العصبيات، هذه العنصريات الأخيرة التي سوف يشكل الانتصار عليها يوماً ما، تحريراً أخيراً لتاريخ الإنسان من اجترار عصورها الوسطى، وراء كل مستقبلاته القادمة.
- آخر تحديث :
التعليقات