داود البصري

لا نتصور أبداً ظهور مطربة عراقية في ظل الوضع الحالي الذي يعيشه العراق

ثمة جوانب مهملة في القضية العراقية لم يعد يتطرق اليها أحد في ضوء حملة تعميم وإزدهار الرجعية و الفكر الظلامي السائد في العراق حاليا حيث هيمنت على قطاعات الثقافة و التعليم و إعداد أجيال المستقبل فئات وجماعات ظلامية باتت ترسم أجندات و سيناريوهات دولة العراق الفاشلة المستقبلية بحمولاتها الدينية والطائفية الرجعية التي تحاول إعادة عقارب الساعة للوراء وتحويل العراق بأسره وبكل تنوعه الثقافي و الديني و المذهبي و القومي محمية رجعية متخلفة ومأتم حزن كبير لاحياة ولاشأن فيه إلا عبر النبش في تاريخ القرون الماضية وصراعاتها ورواياتها الخرافية , وتعميم ثقافة الخرافة و الجهل و الميتافيزيقيا عبر إعتماد الأحاديث والروايات المفبركة و الخرافية وتسويقها على كونها حقيقة مطلقة لايدانيها الشك , ففي أول أيام العام الميلادي الجديد إستمعت وشاهدت بالصدفة حديث أحد المعممين إلى احدى القنوات الطائفية العراقية وهو يقول ويجزم بأن الحجر يتكلم! وطبعا كان إبني الصغير يستمع معي لهذه المعلومة الصارخة وحيث باغتني بسؤال حول ماإذا كان الحجر يتكلم فعلا كما يقول معتمر العمامة ? فأجبته نعم ياولدي إن الحجر يتكلم ويناقش أيضا ولكن في الأفلام الهندية فقط ..?.. هل من المعقول أن يصل مستوى التثقيف و الإعلام في العراق العريق إلى هذه الحال من الضحالة والسذاجة والغباء ? هل كنا نحلم مجرد حلم بأن الإحتلال الأميركي الذي وعد شعوبنا بالمن و السلوى و بمواكبة روح العصر و التقدم العلمي و الإنفتاح الحضاري سيتهاوى ليرتكب جريمة تسليم العراق على طبق من ذهب لقوى التخلف و الرجعية و الظلامية الأشد قتامة من قوى البعث المتخلف الذي كان له شرف المساهمة في تأسيس و تكريس وبذر بذور التخلف الحضاري المريع في العراق ? ها قد إنتهى العقد الأول من الألفية الثالثة أين حال و مآل العراق في مجال التطور الحضاري و الثقافي ? ولو قارنا مجرد مقارنة عابرة بين العراق الحالي بخرافاته و ملله و نحله و أحزابه الكارتونية الهشة و بين عراق التأسيس في العقد الثاني من القرن العشرين الماضي فأين ستصل بنا المقارنة? بالتأكيد لا وجه للمقارنة أبدا فعراق الماضي كان حافلا بالطاقات و الإبداعات الأدبية و الإنسانية و الحضارية و الفنية , بينما عراق اليوم نجوم الساحة و الميدان فيه هم شيوخ التطرف وعمائم الخرافة وأهل فتاوي الذبح الجاهز , العراق الذي كان من أوائل بلدان الشرق القديم الذي تحررت فيه المرأة وشاركت في الحياة الأدبية و الإعلامية و العامة تحول اليوم قطعة سوداء يعتبر صوت المرأة عورة و يتنادى فيه أهل الفكر التكفيري و المتخلف لحجز المرأة وقتلها أيضا والحجر عليها عبر إشاعة النقاب و بقية المظاهر المتطرفة الأخرى , العراق الذي أفرز و أنجب أحدث الظواهر الأدبية و العلمية وكان منبع الشعر الحر في الأدب العربي عبر العظيمين بدر شاكر السياب و نازك الملائكة وعبر فطاحل الشعراء كالرصافي و الزهاوي و الجواهري و بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وغيرهم الآلاف من قوافل الإبداع و العطاء و الأدب تحول اليوم ساحة لطم ثقافية سوداء و منتجعاً خرافياً لأهل الفكر الخرافي بعد أن تمكن سدنة ودهاقنة حزب quot;الدعوةquot; الرجعي من الهيمنة على التعليم العالي وجعله تحت أبط العمائم التي لا تعرف من الحياة المعاصرة شيئا وحيث تعيش في سراديبها و أوهامها لتتطوع على العالمين بفتاوى التخلف و الرجعية و الدمار أين الفنان العراقي مما يحصل ? لقدتراجع الفن العراقي منذ السنوات الأخيرة لنظام البعث الفاشي المضمحل الذي غرق في هزائمه الثقيلة لتشيع في البلد سياسات عدمية ذات ملامح صوفية بائسة جعلت من العراق ساحة للتخلف و الإنعزال و جعلته منطقة طاردة للمبدعين والفنانين , لقد كانت سنوات الستينات من القرن الماضي بمثابة مرحلة الإنطلاق الحقيقية للفن التشكيلي والغنائي و المسرحي و الموسيقى والذي كانت رموزه و مبدعوه من معتنقي الأفكار اليسارية و الماركسية عموما ففي مجال الغناء و الموسيقى برزت أسماء واعدة ومبدعة قدر لها أن تؤدي دورا كبيرا في تاريخ الفن العراقي من أمثال الملحن والموسيقار المعروف بليغ حمدي العراق ألأستاذ طالب القرغولي و الأستاذ كوكب حمزة و كمال السيد و سعدون جابر و ياس خضر وقحطان العطار و رضا الخياط وصباح السهل و حسين نعمة وحميد منصور و أنوار عبد الوهاب و سيتا هاكوبيان و أمل خضير و مائدة نزهت وفؤاد سالم وفاروق هلال وجيل واسع من المبدعين الذين شكلت سنوات السبعينات محطة إنطلاقتهم الرئيسة , وكانت سلطة البعث الحاكمة ليست مرتاحة بالمرة لتلك الطاقات التي لم تكن تشاطر السلطة أفكارها و تطلعاتها ورؤاها , فحزب البعث العراقي كان فقيرا للغاية بالمبدعين و الفنانين و الأدباء لذلك فقد كان حرصه كبيرا بعد ضرب الحزب الشيوعي العراقي و إبعاده عن الواجهة بعد فسخ الجبهة الوطنية أواخر عام 1978 على إستقطاب الفنانين والأدباء الشيوعيين وإغرائهم على الإنضمام لحزب السلطة تحت مختلف المغريات و الضغوط وحتى التهديدات , وفعلا إستجاب عدد مهم من الأدباء و الفنانين الشيوعيين السابقين وكان من بينهم الأديب بيتر يوسف و الموسيقار طالب القرغولي المنحدر من مدينة الناصرية المعروفة بميولها الشيوعية سابقا , ويبدو أن إنحدار السياسة العراقية وتمكن الفاشية البعثية من تطويع مختلف القوى السياسية العراقية قد دفع بالفن العراقي لينحرف نحو تمجيد السلطة الفاشية والمشاركة الفاعلة في معاركها الخاسرة والتغطية على قبائحها وجرائمها و تعظيم بل تأليه الرئيس السابق صدام حسين الذي تحول مادة رئيسة للفنانين العراقيين للأسف منذ ثمانينات القرن الماضي وعسكرة الثقافة العراقية وتحولها لفيلق عسكري يضاف لفيالق الجيش في جبهات القتال في إيران والكويت وضد الشعب العراقي أيضا , وللأسف فقد تورط بعض الفنانين في مخططات السلطة وذاب في دهاليزها وقطع كل خطوط للعودة من أمثال الموسيقار طالب القرغولي الذي إبتدأ مشوار تمجيد النظام منذ quot;قادسية صدامquot; و أستمر حتى نهاية النظام بالإحتلال الأميركي ليعيش اليوم مشردا في الشام يشكو من الإهمال ومن قتل الإبداع في الغربة ومعه طوائف واسعة من الفنانين العراقيين المشردين في الشام والقاهرة والخليج العربي , وطبعا من الصعب أن نحكم على دوافع البشر وأسبابهم فيما يتخذون من مواقف وقناعات , ولكن حالة الفن والحياة في العراق عموما اليوم لاتبشر بخير أبدا في ظل quot;تسو ناميquot; التخلف السائد و التوجه الحزبي و الحكومي العام لجعل العراق لدولة دينية طائفية فاشلة تمارس قمع الحريات وتعتبر الإبداع الفني رجسا من عمل الشيطان ومع سلطة ميليشيات إرهابية وإجرامية لاتتورع أبدا عن سفك دماء الناس بالظن و الشبهة و تحت تلك المظلة قتلت مئات من نسوة العراق كما قتل أيضا أعداد لايستهان بها من الحلاقين و الفنانين , وحالة الجنون والتعصب السائدة في العراق الراهن هي نتيجة حتمية لوضع مجنون وفاشل ولسياسة أحزاب عجفاء فاشلة لا تعرف من الحضارة ولا التمدن شيئا , وطبعا لانتصور أبدا ظهور مطربة عراقية مثلا في الوضع الحالي كما ان من الصعب تطور أي ظاهرة فنية وإبداعية في ظل مهرجانات اللطم التاريخية التي يتخبط في عشوائيتها الشعب العراقي , سيظل الفن والفنانون في العراق في أزمة طاحنة طالما كانت الجماعات الطائفية المتخلفة هي من يهيمن على الأمور في بلاد أبدع شعبها في انتخاب واختيار جلاديه...! فيا لمهزلة التاريخ.