يوسف مكي

في ليلة عيد الميلاد، وشعوب العالم المحبة للسلام تعيش أفراح قدوم عام جديد، حدثت جريمة التفجير في كنيسة القديسين بالاسكندرية . كان حصاد التفجيز إزهاق أرواح الأبرياء، وانتشار حالة من الخوف والفزع، وتسعير الاحتراب الطائفي والمذهبي وتعميم ظاهرة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد . والهدف هو إلحاق مصر، قلب العروبة النابض، بأتون محرقة الحروب الأهلية المشتعلة الآن في عدد من الأقطار العربية .

الجريمة في شكلها متماهية حد التطابق مع ما حدث ويحدث في العراق، منذ احتلاله في ابريل/نيسان عام 2003م، وما حدث في لبنان خلال الحرب الأهلية في السبعينيات من القرن المنصرم، وشبيهة تماماً بالأعمال التي تنسب إلى القاعدة . سيارة مفخخة، توضع في غفلة قريباً جداً من المكان المستهدف، فتنفجر عند ساعة محددة، يكون الناس فيها في حالة جمهرة، لتصيب أكبر عدد من البشر، ممن يجرهم حظهم العاثر إلى مكان الانفجار . وكان الهدف هذه المرة كنيسة قبطية رئيسة، وعشية عيد الميلاد، وقبل أسبوع من عيد الأقباط . وكالعادة، تبقى ملفات التحقيق مفتوحة، ويغيب الجاني الحقيقي عن الصورة .

من المستفيد من ارتكاب هذه الجريمة؟ سؤال بحاجة إلى تفكيك وإعادة نظر في ما يجري من حولنا، وفي محيطنا الإقليمي، وأيضاً ضمن مشروع الهيمنة الدولي . وأمامنا في هذا السياق جملة من الفرضيات، ولكل فرضية مبررات تدعمها، وتمنحها أرجحية على ما عداها .

هناك تقرير مؤسسة راند، الذي صدر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق مباشرة، تحت عنوان ldquo;الاستراتيجية الكبرىrdquo; . وقد قيل إن التقرير أعد ضمن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، لما بعد الحرب الباردة، وحمل إنذاراً واضحاً بتفتيت المملكة العربية السعودية، إن لم تتوقف عن دعم الجمعيات الإسلامية، وتغيير مناهجها الدراسية، وبرامجها الإعلامية، ووقعته مجموعة من صقور الإدارات الأمريكية المختلفة، منذ السبعينيات من القرن المنصرم، من ضمنهم الكسندر هيغ ودان كويل وهنري كيسنجر وبريجنسكي . وقد اعتبرت ldquo;الاستراتيجيية الكبرىrdquo; احتلال العراق خطوة تكتيكية، أما الإنذار بتفتيت السعودية، فهو من وجهة نظر التقرير، مواجهة للإرهاب . وبالنسبة لمصر، أشار التقرير بوضوح إلى أنها ستكون ldquo;الجائزة الكبرىrdquo; .

أتمنى على القارئ الكريم، ألا يعتبر فرضيتنا هذه، والفرضيات اللاحقة، جزءاً من عقلية المؤامرة التي يتهم بها معظم العرب . فما أوردته في هذه الفرضية، والفرضيات التالية ليس من صياغة المخيلة، بل هو مدون ومكتوب بالخط العريض . وما على من يرغب في زيادة واستزادة، والتأكد مما ورد في هذه الفرضية سوى زيارة موقع ldquo;راند للدراسات الاستراتيجيةrdquo;، وفيه تقارير كثيرة متاح الاطلاع عليها للجميع .

وإذا افترضنا صحة هذه الفرضية، وهو مجرد افتراض، فإن مشروع الهيمنة على المنطقة لا يتم وفق صيغة أو تراتبية واحدة . فتفتيت العراق، حدث بصيغة تكليف جيش أمريكي جرار، عبر المحيطات ليحتل عاصمة العباسيين، بينما يجري تفتيت السودان تحت شعار ldquo;حق تقرير المصيرrdquo; للجنوبيين، وتأمين حقوق الإنسان ومنع جرائم الإبادة في دارفور . وفي اليمن يأخذ التفتيت شكل حرب أهلية بين الحكومة المركزية والحوثيين، وبينها أيضاً وبين الحراك الجنوبي والقاعدة . وفي الصومال، يحدث الصراع بين قوى إسلامية متناحرة، وهكذا دواليك، لكل حالة أسلوب خاص، لكن الهدف يبقى واحداً، ويتلخص في تفتيت الأمة إلى كانتونات ودويلات، تقوم على أسس التوافق والقسمة بين الإثنيات والطوائف .

الفرضية الأخرى، وتستند إلى واقائع أخذت مكانها خلال الشهر الذي مضى، وعرف بها الجميع، وهي إلقاء القبض على عدد من شبكات التجسس ldquo;الإسرائيليةrdquo;، بعضها يمتد دورها في التجسس على مصر، إلى أكثر من عشرين عاماً . ويتزامن الكشف عن هذه الشبكات، مع اتهامات ldquo;إسرائيليةrdquo; لمصر، بأنها تسعى لحيازة التكنولوجيا النووية . في هذا الصدد يمكننا الافتراض، أن الكيان الصهيوني، أراد تحويل الأنظار عن افتضاح جريمة زرع شبكات التجسس في مصر، بجريمة أخرى، يكون من شأنها خلق حالة الاقتتال بين المصريين .

وضمن هذا التصور، ليس من المستبعد أن تتزايد الحوادث من هذا النوع ضد مساجد مصر وكنائسها، وضد منشآتها ومبانيها وأمنها . وإذا كان الذين نفذوا عملية التفجير هم عملاء الموساد، فإن سجل جرائمهم، في معظم البلدان العربية، يؤكد قدرة استثنائية على الهروب من مواجهة الحساب . وتأخذ هذه الفرضية على سلطات الأمن المصرية، عدم أخذها التهديدات ldquo;الإسرائيليةrdquo; على محمل الجد .

لقد قدم مدير المخابرات العسكرية ldquo;الإسرائيليةrdquo; السابق عاموس بايدين، كشف الحساب، عن إنجازات الموساد في مصر ومن أخطرها الاعتراف بترتيب الفتنة الطائفية وتمزيق المجتمع المصري حتى لا تقوم له قائمة . وقد نشرت معلومات عن تورط مسؤولين عرب في التواطؤ مع ldquo;إسرائيلrdquo; والولايات المتحدة . وكان المفترض أن تتعامل الحكومة المصرية مع تقرير بايدين بجدية، لإن معنى التقرير ldquo;الإسرائيليrdquo;، إن صدق، هو أن مصر مستهدفة في وجودها، ومستهدفة في وحدة أراضيها .

وهناك فرضية ثالثة، تقول إن قادة معسكر تصنيع السلاح الخفيف في أمريكا، يرغبون في التخلص من السلاح المتكدس لديهم عن طريق تسويق بعضه لمصر . وأن تنفيذ بعض العمليات الإرهابية في مصر، من شأنه أن يجبر حكومتها على عقد صفقات لشراء كميات ضخمة من الأسلحة الخفيفة لمواجهة الإرهاب، وللتصدي لأعمال العنف التي تستتبع حتماً استمرار عمليات التفجير . ويستدل على صحة هذه الفرضية، بما ورد في موقع ldquo;ويكيليكسrdquo; قبل ساعات من التفجير . وثيقة مثيرة تقول إنه يجب أن يكون الجيش المصري على استعداد للتسلح الأمريكي ليواجه ldquo;الإرهابrdquo; . بمعنى أن الأمريكيين يريدون أن يحددوا دور وعقيدة الجيش المصري وفق القراءة الأمريكية في القضايا الداخلية والإقليمية .

وهناك فرضية رابعة، تقول إن تنظيم القاعدة وجه إنذاراً قبل شهرين من هذا التاريخ لأقباط مصر، بتنفيذ عمليات تفجير ضدهم إن هم منعوا أبناءهم عن اعتناق الإسلام . وأعيد تكرار ذلك في إنذارات أخرى . وإذا سلمنا بهذه الفرضية، فإن الذي حدث هو أن تنظيم القاعدة نفذ ما وعد بتنفيذه .

وبالنسبة لنا، فليس من شك في أن المستفيد من التفجير والتسعير الطائفي هم أعداء الأمة، والاستراتيجية العدوانية الصهيونية والقوى الاستعمارية التي لم تعد تخفي مخططاتها الرامية إلى تفتيت المنطقة بأسرها، دونما حاجة في الاستغراق بالمزيد من التفاصيل . إن الأقباط، هم جزء أصيل من النسيج المصري، بل هم أصل مصر . والكنسية القبطية، أثبتت على مر العصور استقلاليتها، وعدم تبعيتها، وتضحياتها الجسمية من أجل مصر، وليس بمقدور أي كان أن يشكك في وطنيتها وعروبتها .

تفجير الاسكندرية، يأتي للأسف متسقاً مع الشحن الطائفي المتصاعد في عدد من بلداننا العربية، والذي بلغ ذروته في العراق، بعد احتلاله من قبل الأمريكيين، وتشكيل حكومة انتقالية، وإعلان دستور يقسم السلطة السياسية والثروة، على أساس المحاصصات الطائفية والإثنية، وقد أصبح من المألوف في أرض السواد، قتل الأبرياء على الهوية . وعلى هذا الأساس، فإن جريمة تفجير كنيسة القديسين، وتداعياتها، تشكل خطراً محدقاً على مستقبل مصر، وسيادتها ووحدتها الوطنية، وعلى الأمة العربية جمعاء .

لا مناص من التصدي لحالة التسعير الطائفي والاحتقانات التي تنتج عنها ومعالجتها، فكرياً وسياسياً واجتماعياً وإعلامياً، بصيغة متكاملة، تسند المعالجة الأمنية وتتفاعل معها، ولا تكون بديلاً عنها . إنها تتطلب كما اقترح بيان المؤتمر القومي العربي، الذي صدر إثر الجريمة، ldquo;نوعاً من ldquo;حالة طوارئrdquo; بين نخب الأمة ومفكّريها ومراجعها الدينية وتياراتها السياسية ومنتدياتها الثقافية، تسعى إلى الغوص في أعماق هذه الظواهر واقتراح آليات مواجهتها وبرامج عمل لتجاوزها، تنفّذ بعضها السلطات الحاكمة، وينفّذ بعضها الآخر قوى المجتمع الحيّة المدعّوة إلى الانخراط فعلاً في حملة تحصين مجتمعاتنا على مختلف المستوياتrdquo; .

لقد هب شعب مصر بأسره في إدانته للجريمة، واتضح للجميع وجود إجماع وطني مصري، على رفض العنف الطائفي، الغريب على تراث مصر وتاريخها الوطني وهويتها الجامعة . لكن ذلك وحده لا يكفي لقبر المؤامرة . ولن يتحقق ذلك إلا بتحول الهبّة الشعبية إلى مسار عمل دائم يعالج كل ثغرة، ويرصد كل إساءة، ويواجه كل فتنة كامنة أو معلنة .

وينبغي أن يرفد هبة مصر، عمل عربي مشترك، رسمي وشعبي، لوقف حالة الانهيار ومواجهة الأزمات المستعصية ومحاولات التفتيت التي يمر بها عدد من البلدان العربية . لا بد من وقفة عربية شاملة، على المستويات كافة، لوقف الفتنة الطائفية، والإعلان صراحة أن استهداف وحدة مصر وأمنها القومي هو استهداف لوحدة الأمة بأسرها ولأمنها القومي .

ومرة أخرى، لن نكل ولن نمل من الدعوة مجدداً إلى بعث التضامن العربي، وتفعيل ميثاق جامعة الدول العربية، وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وميثاق الأمن القومي الجماعي ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وصولاً إلى تحقيق نوع من التكامل العربي الشامل . والسؤال المطروح أمامنا بحدة هو أن نكون أو لا نكون، وحين تكون الكينونة هي الخيار، فلا مناص من دفع استحقاقاتها .