محمد مخلوف

أصدر شارل اندرلان مؤخرا كتابا تحت عنوان quot;موت طفلquot; يؤكّد فيه واقعة قتل الطفل الفلسطيني، كما حدثت، برصاص إسرائيلي. ويروي حكاية سنوات عشر من الضغط المستمر الذي تعرّض له هو وأسرته والقناة التلفزيونية التي يعمل معها

قبل أكثر من عقد من الزمن، وبالتحديد يوم 30 سبتمبر ـ أيلول من عام 2000 بثّت القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية تحقيقا مصوّرا زوّدها به الصحفي شارل أندرلان، مراسلها في فلسطين المحتلّة منذ عام 1981. أعدّ التحقيق طلال أبو رحمة المصوّر التلفزيوني المتعاون مع عدّة قنوات دولية من بينها القناة الفرنسية والـ quot;سي. ان. انquot; وغيرهما. وعرضت شاشات التلفزة في العالم يومها مشهد الطفل الفلسطيني محمّد الدرّة وهو يحتضر بحضن والده الجريح الذي كان يحاول حمايته بذراعيه من وابل الرصاص الذي يطلقه الجنود الإسرائيليون. أثارت عملية القتل المباشر للطفل الفلسطيني موجة من الانفعال والاستنكار لدى الرأي العام العالمي.
لم يعترض الإسرائيليون أنفسهم على أن جنودهم كانوا مصدر الرصاصات القاتلة، بل وقدّم الجنرال quot;ايلاندquot;، رئيس عمليات الجيش الإسرائيلي آنذاك، رواية تدلّ على ذلك قبل أن يغيّر موقفه لاحقا. وتحديدا بعد أن انطلقت حملة إعلامية عارمة شاركت فيها خاصّة عشرات مواقع الإنترنت والجمعيات اليهودية المناصرة لإسرائيل، في فرنسا خاصّة، ركّزت كلّها على القول إن التحقيق المصوّر الذي عرضته تلفزيونات العالم quot;مزوّرquot; وأن المصوّر quot;بوق دعايةquot; فلسطيني وشارل أندرلان quot;رأس حربةquot; في تشويه صورة إسرائيل.
ووصل الأمر ببعض المتعصبين لإسرائيل إلى القول إن quot;محمد الدرّة لم يمت. ولم تقتله رصاصات إسرائيلية، بل هو حي يرزق ويبيع الخضار في أحد أسواق خان يونسquot;. مثل هذه الأقوال لا تزال تتكرر بأشكال مختلفة حتى اليوم.
شارل أندرلان، الصحفي الفرنسي ـ الإسرائيلي ليس مناهضا quot;مبدئياquot; لإسرائيل، وقد أمضى فيها قرابة الثلاثين عاما. والقناة التلفزيونية الفرنسية الثانية، مثل وسائل الإعلام الغربية عامّة، ليست متعاطفة بـ quot;التعريفquot;مع الفلسطينيين.
لكن هذا كلّه لم يمنع تعرّض شارل أندرلان لحملة شرسة من التشهير والتنديد واتهامه بالكذب والتلفيق وتعرّضه للتهديد بالموت، كما نقلت وسائل إعلام فرنسية عديدة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل جرى نقل القضية ضده وضد القناة الفرنسية الثانية إلى ساحة القضاء لتبدأ سلسلة من الجلسات والأحكام والأحكام المضادة.
تقتضي النزاهة هنا الوقوف والتأكيد على بروز موقفين في فرنسا حول ما عُرف بـquot;قضيّة محمد الدرّة وشارل أندرلانquot;. موقف المدافعين عن شارل أندرلان والشاجبين بقوّة لحملة الضغط والتهديد التي يتعرّض لها. ومن بين هؤلاء عدد من اليهود ذوي الشهرة في عالم الفكر والفن والأدب والسياسة.
وموقف آخر يمثّل المناصرين quot;بلا حدودquot; لإسرائيل والمشككين، على الأقلّ، بمصدر الرصاصات التي قتلت الطفل محمد الدرّة.
ومنذ عشر سنوات لم تتوقف، بل لم تهدأ، الحملة الظالمة على شارل أندرلان. ولا يزال يواجه الاتهام بـ quot; التزييفquot; وبقيامه بـ quot;عملية إخراج مسرحيquot; لمقتل الطفل الفلسطيني بعيدا، بالطبع، عن تقديم أي برهان.
في مواجهة هذا كلّه أصدر شارل أندرلان مؤخرا كتابا تحت عنوان quot;موت طفلquot; يؤكّد فيه واقعة قتل الطفل الفلسطيني، كما حدثت، برصاص إسرائيلي. ويروي حكاية سنوات عشر من الضغط المستمر الذي تعرّض له هو وأسرته والقناة التلفزيونية التي يعمل معها وجميع أولئك الذين لم يرضخوا لمشيئة أصحاب الحملة الظالمة.
أمّا لماذا حرر هذا الكتاب فإنه يروي الواقعة التالية: أثناء مثول ابنته إلى الامتحان الشفهي للشهادة الثانوية في فلسطين المحتلّة قالت لها مدرّسة إسرائيلية quot;أنتِ إذن ابنة الصحفي شارل أندرلان؟quot;. وبعدها quot;استمرّ الامتحان في جو من القسوة المفرطةquot;، كما يقول. ويضيف: quot;في ذلك اليوم قررت إعداد هذا الكتاب من أجل أسرتي ومن أجل أصدقائيquot;.
ألا تستحق هذه الشجاعة الانحناء أمامها؟