خليل علي حيدر

كلما اشتد المجتمع تديناً متشدداً، صدقاً أم نفاقاً، تراجعت فيه مجالات التسامح، ونمت فيه مظاهر الشك والعداء نحو المختلف ديناً ومذهباً، بل وحتى نحو الليبرالي!
هذا ما يمكن قراءته بوضوح اليوم في مجتمعات العالم العربي والاسلامي، حيث تحوّل التدين من سلوك راقٍٍ رفيع، الى كارثة ثقافية، وعداء مستحكم ضد كل المجتمع، وضد غير المسلمين على وجه الخصوص. وما جرى في الاسكندرية بمصر ضد الاخوة أقباط مصر، حيث قتل اكثر من عشرين مسيحياً ومسلماً، وجرح أضعاف هذا العدد، نموذج صارخ لذلك كله!
المجتمع المصري، الذي شهد أولى معالم النهضة والتحديث في العالم العربي، تحولت معالم التسامح والاعتدال فيه، الى laquo;ركامraquo;.. تحت ضربات التشدد الديني، وتنامي جماعات الاخوان المسلمين والفرق السلفية وتنظيمات الجهاد والتكفير.
لا يمكن على الاطلاق أن يهيمن الاسلام السياسي وأن تتسلط جماعاته على المجتمع، بهذه الدرجة المخيفة والمدمرة، وأن تبقى فيه قيم الحرية الاجتماعية والحرية الفكرية والحرية السياسية بخير. فالإرهاب الفكري والعقيدي والسلوكي أولى مقدمات تنامي هذا التيار، والانزلاق نحو العنف وتبريره باب laquo;للدفاع عن الاسلام والاستشهادraquo;.. بعض عواقبه! وكل ما قرأنا ودرسنا في الكتب عن وحدة الشعب المصري مسلمين ومسيحيين، يمكن تحويله بقنبلة او بعض العمليات والمفخخات، الى أثر بعد عين.
لا تدعو جماعات الاسلام السياسي او أية جماعة دينية مماثلة علناً الى العنف. ولكنها في كثير من الاحيان تُحوِّل المجتمع الى بيئة خصبة مُستقبلة مُبررة له. وليس لديّ ذرة شك في ان الاخوان المسلمين والجماعات السلفية المصرية لا تدعو علنا، وبالنسبة للاخوان حتى سراً، الى قتل النصارى وتفجير الكنائس. ولكن احدى الحقائق عن هذه الجماعات كذلك انها لا تجري مراجعة جذرية لكتبها واجتهاداتها وفتاواها. ولديها جميعاً خطاب علني مسالم وطني عصري انساني، وخطاب سري laquo;مسكوت عنهraquo;، يزرع الشك والريبة نحو الآخر، ويدفع بعض laquo;المجاهدينraquo; الى العنف في مصر او العراق او افغانستان او أي مكان. بل وما من ارهابي وجهادي متطرف من هؤلاء في آسيا واوروبا، إلا وقرأ الكثير من كتب وكراريس جماعات الاسلام laquo;الوسطية والمعتدلةraquo; كتب سيد قطب لاتزال العمود الفقري في هذا المجال، مع كتب سعيد حوى وفتحي يكن. الاخوان في سوريا وغيرها يتحدثون عن عظمة التجربة التركية وعن ضرورة الخضوع لصندوق الانتخابات والعملية الديمقراطية ويؤلفون الكتب والكراريس في هذا المجال، ولاشك ان العديد منهم صادق فيما يقول ويدعو إليه. ولكن لا أحد يمد يد الاصلاح والتغيير الى ثقافة حركية وكتب حزبية لم تعد تصلح لمجتمع القرن الحادي والعشرين. المطلوب نقد علني صارخ صريح لكل هذا التراث.
المثقفون والاعلاميون المصريون يناقضون أنفسهم كذلك. فالكثير منهم للأسف أيّد العنف والتفجير في أماكن أخرى كالعراق وغيرها، بحجة المقاومة ضد الاحتلال، وسكت عن اكثر من سبع سنين عجاف من القتل والتصفية ضد الشيعة ثم ضد السنة والمسيحيين العراقيين، ولم يرتفع بين اخوتنا هناك في مصر، سوى أصوات عصرية ناضجة نادرة، أدركت خطورة مثل هذه الوسائل في laquo;المقاومةraquo;.
كل العرب والمسلمين مطالبون اليوم باقتلاع ثقافة العنف والتفجير من حياتهم. فلقد اسقطت شعوب اوروبا الشرقية أعتى الدكتاتوريات بالوسائل السلمية المدنية، وسايرت المانيا واليابان وكوريا laquo;المحتل الامريكيraquo; نصف قرن دون أن تذهب هويتها أدراج الرياح، وهاهي اليوم أرقى أمم الارض.
على الشعب المصري في اعتقادي أن يدير ظهره للتشدد الديني وجماعاته، وان يكتشف امكانياته الهائلة وثرواته العظيمة، وأن يستعيد تراثه العريق في الاعتدال والتسامح، وأن يكتشف حقيقة هذه الاقلام والخطب والاجندات المدمرة!
مع أحر تعازينا لأسر ضحايا جريمة الاسكندرية.