فواز الشروقي

تسأل المتّصلة: laquo;يا شيخ، هل محمد البوعزيزي في الجنّة أم في النار؟raquo;، فيردّ عليها الشيخ وهو لا يكاد يتنفّس من كرشه المتهدّل أمامه: laquo;إنّ الذي يحرق نفسه منتحر والمنتحر مآله إلى النّار، نسأل الله العافيةraquo;. استنكرت أمام صديقي ما دار في هذا اللقاء الإذاعي الديني من تقرير لمآلات الناس في عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فعارضني زاعماً أنّ استصدار فتاوى التحريم لما فعله البوعزيزي أضحى ضرورة بعد أن أقدم عدد كبير من مواطني الدول العربية على إحراق أنفسهم تأسّياً بفعل الشاب التونسي.
تساءلت حينها: هل وصلنا نحن العرب والمسلمين إلى الوضع الذي لا نستطيع فيه أن نفرّق بين الصواب والخطأ إلا بعد أن laquo;يجدولهraquo; لنا شيوخ الدين في laquo;خاناتraquo; الحلال والحرام؟ وهل بلغنا المستوى الذي لا نمتنع فيه عن الخطأ إلا بعد أن يقول لنا شيوخ الدين إنّ هذا حرام؟
قبل أيام أصدر 60 شيخاً من شيوخ الدين بياناً مشتركاً بيّنوا فيه حرمة التصويت لصالح انفصال جنوب السودان. لم يقل الشيوخ الموقّعون على البيان بأنّ ما ذكروه في البيان هو رؤيتهم الشخصية في هذا المسألة السياسية وليست حكم الله فيها، وذلك لأنّهم يدركون أنّ الشعوب العربية المسلمة أصبحت لا تعطي اعتباراً للآراء السياسية إلا بعد أن تتحوّل إلى فتاوى شرعية وتأخذ بذلك الصبغة الإلهية. وقبل ذلك بسنوات وبعد انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000 أصدر أكثر من شيخ دين فتاوى بتحريم شراء المنتجات الأمريكية بعد أن ثبت انحياز الحكومة الأمريكية السافر لإسرائيل. لم يقل الشيوخ حينها بأنّ المقاطعة هي موقف سياسي بل كانوا يروّجون للفتاوى وكأنها أوامر إلهية، بحيث يصبح من يشتري المشروبات الغازية الأمريكية أو يتناول البرغر والبطاطس المحمرّة من المطاعم الأمريكية آثماً ويستحقّ العقاب الإلهي. ولقد التزمت شرائح واسعة في البلدان العربية والإسلامية بمقاطعة البضائع الأمريكية، بعضهم بقصد معاقبة أمريكا نتيجة مواقفها السياسية، وبعضهم خوفاً من عقاب الله.
قد يقول قائل: ما الضرر من اتخاذ سلاح الفتاوى الشرعية لحمل العرب والمسلمين على تبنّي المواقف السياسية المشرّفة مثل الموقف من تقسيم السودان والموقف من الانحياز السافر للحكومة الأمريكية لإسرائيل؟ وأقول: إنّ سلاح الفتاوى مثل أي سلاح، قد يقع في يد الشرفاء فيوظفونه لخدمة قضايا الأمة أحسن توظيف ويحققون به أفضل النتائج، وقد يقع في يد الخبثاء أو السفهاء أو قصيري النظر فيسيئون استخدامه ويجرّون على الأمة الوبال.
وحينها لن تتبنى الجماهير المواقف السياسية وفقاً لقناعاتها أو وفقاً للمصلحة العامة التي يفرضها العقل والمنطق والظرف السياسي، ولكن وفقاً لتصوّرات شيوخ الدين ووفقاً لمصالحهم الدنيوية في بعض الأحيان. ولا عجب حينئذ أن تجد الجماهير خارجة عن بكرة أبيها مؤيّدة لقضايا غير مقتنعة بها، أو تجدها تهتف بشعارات مضادّة للعقل والمنطق وذلك لاعتقادهم بأنّ خروجهم عمّا قرّره شيخ الدين هو مخالفة لأمر الله.
وقد يستفحل الأمر فيصبح المتّبعون لفتاوى بعض شيوخ الدين قنابل موقوتة في أياديهم يستخدمونها لتحقيق مآربهم السياسية ولخلخلة الأنظمة والحكومات. فكثير من التفجيرات التي لا تنقطع أخبارها عنا منشأها فتاوى دينية تسوّغ للمفجّرين ذبح أفراد الشرطة أو الجيش المحلّي أو المختلفين معهم دينياً ومذهبياً وفكرياً. ناهيك عن تلك الفتاوى التي يستخدمها بعض شيوخ الدين قصار النظر للتخلّص من معارضيهم من التيارات الفكرية الأخرى، وليس ببعيد عن ذلك الفتاوى التي جرت على إثرها جريمة اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ ومحاولة التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته.
والآن يأتي الدور على محمد البوعزيزي لا للحديث حول كونه مثالاً لحالة اليأس الشديد الذي يعاني منه شبابنا العربيّ ولحالة الإحباط التي تؤدّي بالمرء إلى حرق نفسه احتجاجاً على وضعه المزري، ولكن للحديث حول خروجه على وليّ الأمر، وحول مآله يوم القيامة إلى النار وبئس المصير، ولتبقى إرادة الشعب مرهونة بما يمليه شيوخ الدين، فهم الذين بيدهم إطفاء النار، وهم بيدهم إشعالها إن أرادوا.