أمير طاهري

عندما تتحدث إلى التونسيين هذه الأيام ربما لن تسمع سوى عبارة واحدة: laquo;بن علي هو المسؤول عن كل ما جرىraquo;. فيبث التلفزيون التونسي على مدار الساعة سلسلة من اللقاءات تظهر فيها شخصيات مختلفة لتبتسم أمام الكاميرا قبل أن تندفع في سيل من الإهانات ضد بن علي. وقد تدافع الأفراد من وزراء وأعضاء مجالس بلدية ورؤساء شركات عامة وكبار الصحافيين والسفراء وكبار المسؤولين الآخرين بعد الانقلاب، يدقون أبواب التلفزيون للانضمام إلى الحشود التي تلعن الرئيس.

وفي ظهور نادر، خرج من تبقى من عشيرة بورقيبة يندبون تنحية بن علي.

أما قائد القوات المسلحة التونسية، فتقدم هو الآخر لينضم إلى الحشود مرتديا زيه العسكري.

وتحول الأمر برمته إلى موقف هزلي إلى حد بعيد عندما انضم نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي إلى عربة العازفين وأعلن إدانته لابن علي.

نحن نتحدث بطبيعة الحال، عن زين العابدين بن علي الذي كان حتى وقت وقوع الانقلاب قبل أسابيع قليلة، يغدق المديح عليه الأشخاص أنفسهم الذين يكيلون له الاتهامات الآن. ودعونا نقول: إذا كانت تونس تضم أكبر عدد من خريجي الجامعات، فالفضل في ذلك لابن علي، وبفضل بن علي أيضا تمتعت تونس بنمو اقتصادي استثنائي، وبفضل بن علي أيضا تمكنت المرأة التونسية من النزول إلى الشارع مرتدية الثياب التي ترغب في اقتنائها. ولك أن تخمن من الذي منع تونس من أن تقع تحت وطأة الديون. إنه بن علي أيضا. ومن الذي أحدث أكبر طبقة وسطى في شمال أفريقيا؟ مرة أخرى، إنه بن علي.

هذا المشهد يذكرني بقصيدتين؛

الأولى للدبلوماسي الإنجليزي السير توماس وايت الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي كتب عندما أبعد عن السلطة، سطرا لا ينسى قال فيه: laquo;لقد تحاشاني الآن من كانوا يخطبون ودي من قبلraquo;.

أما القصيدة الثانية فهي للشاعر الألماني بيرتولت بريخت:

laquo;قالوا إن قيصر عبر نهر الراين في الشتاء. لقد فعل، لكن ألم يكن هناك من أحد ليلمع له حذاءه؟raquo;.

تظهر قصيدة وايت التحول في القوى الدنيوية؛ فما دمت في السلطة، يسارع الكثير من الناس، إن لم يكن أغلبهم، لخطب ودك وإغداق المديح عليك، لكن ما إن تترك السلطة، يتحاشونك، بل وربما قاموا بالإساءة إليك.

أما قصيدة بريخت فتؤكد على أن التاريخ يكتبه الفائزون، أما الخاسرون فيتحسرون على الماضي الذي يخدر آلام المهزومين. إلقاء اللائمة في كل أوجه القصور التي شهدتها تونس على كاهل بن علي هو انعكاس لعبادة الشخصية التي حولته خلال 23 عاما من الحكم إلى بطل خارق. وإذا كنا نعتقد أن كل شيء خطؤه، فإن النتيجة المنطقية هي نسب الفضل إليه في كل الإنجازات التي لا تنكر والتي حققتها تونس. وللسبب ذاته يجب عليه أن يعترف أنه عندما يكون في السلطة فسيكون منتهى كل شيء، لكن ما إن يخرج منها سيحمل وزر كل شيء.

المراوغة في هذا النوع من السفسطة ستنتهي إلى حقيقة واحدة؛ وهي أنه مهما بلغ حجم النجاح الذي حققته تونس خلال ربع القرن الماضي، فإن الفضل فيه لا يرجع إلى بن علي وحده، فهناك الملايين من التونسيين في شتى مناحي الحياة الذين عملوا وفكروا وعانوا وناضلوا لجعل هذا النجاح ممكنا. ويجب علينا أن نتذكر أيضا أن الكثير من هذا النجاح وهمي وأن تونس ليست أفضل من أي دولة نامية.

في الوقت ذاته، فإن فشل تونس في مد التحديث الاجتماعي والاقتصادي إلى التحديث السياسي ليس خطأ بن علي نفسه. فأثناء كونها جزءا صغيرا للغاية من الإمبراطورية العثمانية، وقعت تونس تحت حكم البكوات ولم تتطور ديمقراطيا على الإطلاق. وتحت الحكم الفرنسي، تعلمت تونس السياسة العصرية وكشفت عن طموحات ديمقراطية، غير أن هذه الطموحات سرعان ما تلاشت تحت استبداد بورقيبة.

وقد شرفني الحبيب بورقيبة في السابق بزيارة إلى قصره الفخم الذي كان مقرا لحكام الاستعمار الفرنسي في قرطاجة، قادني فيها بنفسه، وقد تحول القصر إلى متحف لعبادة شخصية بورقيبة، حيث عشرات الرسومات والمنحوتات تروي قصة بورقيبة كما أرادها هو.

في نهاية الجولة أشرت إليه بأدب بأن هذا المعرض لم يتضمن إشارة واحدة إلى الشعب التونسي.

رد عليّ الديكتاتور العجوز: laquo;نحن نقوم بكل شيء من أجل الشعبraquo;. لم يفهم بورقيبة أن التونسيين قد لا يرغبون في أن يقوم أفراد آخرون بأشياء نيابة عنهم وأنهم قد يرغبون في الاضطلاع بالأمر بأنفسهم، ومنها ما قد يرتكبونه من أخطاء وأن يتحملوا عواقبها. ولم يكن بن علي قادرا على فهم ذلك أيضا.

لم يشتمل المجتمع والتاريخ والثقافة التونسية على مقومات لنظام سياسي ديمقراطي تعددي على النمط الغربي، فنظاما بورقيبة وبن علي يمكن اعتبارهما مثالين ناعمين للديكتاتورية مقارنة ببعض الدول العربية الأخرى.

في أميركا اللاتينية يقوم نوعان مختلفان من الديكتاتورية: الديكتاتورية الناعمة التي تسمى بـlaquo;ديكتابلانداraquo; أو laquo;الديكتاتورية الرقيقةraquo;. وlaquo;الديكتاتورية القاسيةraquo; التي تسمى laquo;ديكتادوراraquo;.

ينتمي نظاما بورقيبة وبن علي إلى فئة الـlaquo;ديكتابلانداraquo;، لكن هذا لا يعني أنهما مستحبين. فقد كانا نظامين سيئين يشوبهما الفساد وقائمين على العنف.

بيد أن كلا النظامين يمكن الإطاحة به بسهولة شديدة. هذه السهولة النسبية تفرض التهديد الأكبر لآمال التونسيين في قيام نظام تعددي.

وصف سقوط بن علي بأنه laquo;ثورة الياسمينraquo;، هو وهم خيالي ربما يضلل التونسيين إلى الاعتقاد بأن الثورة ليست أكثر من حفلة في حديقة حيث تعبق رائحة الياسمين المكان.

لقد تحول العديد من التونسيين، ومنهم العائدون من المنفى، إلى ثوريين بعد اختلاق الروايات بشأن تضحياتهم المزعومة.

أنا أمقت بورقيبة وبن علي، لكني أمقت الأول أكثر من الأخير؛ فقد تسبب بورقيبة في بعض الانتقادات التي وجهت إليّ بعد المقال الذي كتبته عن تونس في أعقاب زيارتي لها أنتقده فيه. أما بن علي فقد ذهب إلى أبعد من ذلك ومنعني من دخول تونس بعد اعتراضي على استحواذه على السلطة في مقابلة مع إذاعة laquo;راديو أوروباraquo; الأولى التي تبث من فرنسا.

على الرغم من ذلك، فإنني لم أعتقد قط أن فشل تونس في محاكاة نموذج البحر الأبيض المتوسط من التنمية السياسية، كما هو الحال في إسبانيا والبرتغال واليونان ومالطا، راجع إلى أي ديكتاتور. إن ما تحتاجه تونس في الوقت الراهن هو حملة ضد الديكتاتور الصغير الذي يسكن داخل كل تونسي تقريبا. فما كان بن علي وبورقيبة ليحكما نصف قرن من الديكتاتورية بمفردهما.

من كانوا قادة ومديري جيشيهما وأجهزتهما الأمنية وقوات الشرطة؟ ومن الذين عملوا كوزراء وسفراء لديهما؟ ومن الذين ساعدوهما في تكديس وإدارة ثرواتهما؟ ومن الذي رسم كل هذه الصور للديكتاتور؟ ومن الذي لصقها بكل متجر في تونس؟ ومن كانوا عشرات الآلاف من الأفراد الذين كانوا ينزلون إلى الشوارع في كل مرة يطلب منهم التظاهر تأييدا للديكتاتور؟ وماذا بشأن الملايين الذي ظلوا 45 عاما يصوتون في انتخابات مزورة واحدة تلو الأخرى؟

وربما كان المثال الأصدق لذلك، سؤال بريخت: laquo;من الذي كان يلمع أحذيتهم في الشتاء؟raquo;.