عثمان الماجد

محمد البوعزيزي واحد من المواطنين التونسيين البالغ عددهم أحد عشر مليوناً تقريباً، وهو مثل كثرة ممن أرهقهم البحث عن وظيفة فراح يطرق شتى السبل التي توفر له الكرامة الإنسانية ليقتات منها ويعيل من يعيل من دون أن يسأل أحدا، ولا يشكو حاله لأحدٍ مؤمن بالمثل القائل laquo;الشكوى لغير الله مذلةraquo;. إلا أن السبيل الذي اختار كان، في عرف الطبقة الحاكمة، يشكل انتهاكاً لهيبة الدولة في الخارج، في حين أن هيبتها في الداخل، ولسوء تقديرها للعواقب المترتبة عن الظلم والاستبداد والحرمان، تضمر وتضمر حتى تلاشت؛ لينبعث من تحت السكون بركان غضب انهمر صهيراً فأطاح بأركان النظام القائم، وقذف بأعراف طبقته الحاكمة إلى المهاوي وقيعان النسيان؛ ولتسطع بعد ذلك في الأفق ملامح قيم وأعراف أكثر إنسانية يصنعها هذه المرة شارع سئم التعطل، وخبر الجوع، وذاق طعم الطوى، وتاق طويلاً إلى الحرية. وفي ذروة إيقاع الأحداث التي عصفت بتونس عجبت من سؤال ساقه مذيع لنشرة الأخبار بقناة الجزيرة laquo;ما الذي حول الشعب التونسي من شعب مسالم إلى شعب ثائر؟raquo; وهو بذلك يقرن الصفتين اللتين تنمّان عن مستوى راق من السلوك الثقافي والحضاري بالضعف والهوان، وكأن الشعوب المسالمة والمتسامحة في عُرف من طرح التساؤل تنتفي منها صفة الثورية.
كان نظام laquo;ابن عليraquo;، بحسب ما كانت تتناقله الأنباء الواردة من الداخل التونسي، ويكذبها المواطن التونسي ويتبرأ من أصغر أرقامها لتجافيها مع المنطق وتصادمها مع الواقع، يمد المؤسسات الدولية ببيانات وإحصائيات مغلوطة عن وتائر التنمية ونسب البطالة التي أدهشتنا نحن الذين كنا نصدق كل ما كانت تفرج عنه الحكومة تحت عنوان laquo;مصادر رسميةraquo;، فما كان من هذا النظام إلا أن سارع بإخراج المواطنين - وقد فُسّر سلوكهم الاحتجاجي مساساً بصحة تقاريره لدى تلك المؤسسات - وباشر بإلغائهم عنوة من المشهد العام للدولة التونسية، آملاً في الحفاظ بذلك على مصداقيته ومهابته؛ حتى وإن جرى ذلك على حساب أوجاع شعبه وبقائه مهملاً تحت ركام من المشاكل المعيشية والاجتماعية والحقوقية. لكن البوعزيزي رفض هذا النهج وأبى إلا أن يحتفظ بكرامته، ويجل شخصه، ويرتقي بإنسانيته، فاختار أن يدخل التاريخ محترقاً يضيء سماء وطنه بالأمل، ويرسي بداية أول ثورة شعبية حقيقية، ويصبح رمزاً وطنياً ربما يحتاج العرب شعوباً وحكومات، إلى أخذ العبر منه؛ لأن ذروة امتهان كرامة الإنسان تكمن بحق في محاربته في رزقه وتجويعه. فالذي تمخض عن الحدث التونسي يعجز المرء عن تصوره، ويُثبت أن الإنسانية كلها شريكة في متاعب امتهان كرامتها، ومن أجل ذلك تجترح المعجزات للارتقاء بآدمية الإنسان الذي كرمه الله عن باقي المخلوقات.
إذن مات البوعزيزي تحت عنوان تتكثف فيه الكرامة الإنسانية، تاركاً وراءه حقيقة ساطعة وهي أن الشارع التونسي باقٍ حيًا ينسج تفاصيل غدٍ أفضل خالٍ من الحرمان والاستبداد في عموم معناهما. مات البوعزيزي ونشرت النار التي أشعلها في جسده نوراً ملأ سماء تونس، وفاض على جيرانها وأبهرهم، وكأنه بذلك يُخطّئ الجهلة laquo;الانتحاريينraquo; الذين يطلقون على أنفسهم، ويُطلق عليهم منتسبوهم الفكريون laquo;الاستشهاديينraquo; في زمن مريع تراجعت فيه قيم النضال، فكانت البداية، ولا أقول السبب، لعملية تطهير الدولة التونسية من أدران الفساد والمحسوبية التي نخرت مثل السوس مفاصلها، ومن الحكم الدكتاتوري الذي رزح على قلوب التونسيين زهاء ربع قرن من الزمن؛ حتى تبين أن مقولة العرب laquo;حبل الكذب قصيرraquo; مقولة ليست دقيقة؛ لأن الكذب أرسى سدوله على تونس لتُبتلى به كل هذه المدة. وأكرر القول بأن الطريقة التي مات بها البوعزيزي لم تكن السبب لتفجر الوضع التونسي حتى يصل إلى مرساه الذي قادته إليه ثورة شعبية عارمة، والسبب الحق، بل الأسباب تتخطى كل الشخوص لتستقر في قاع المجتمع منذ ربع قرن ويزيد، وقد نضجت الظروف الموضوعية والذاتية وعرف الشعب كيف يستثمرها ونجح.
لا تختلف المشاهد التي نقلتها لنا الفضائيات من تونس عن تلك الراسخة في أذهاننا عشية انهيارات نظام laquo;شاوشسكوraquo; في رومانيا، أو نظام laquo;صدام حسينraquo; في العراق، لكن التفاصيل تبقى خصوصية تميز كلا من هذه البلدان. وبصرف النظر عن الذي قيل ويقال عن إقدام البوعزيزي على حرق نفسه، واستضافت الفضائيات لذلك أكثر بعض علماء الدين؛ ليدلوا بدلوهم في سلامة العمل الذي أتى به البوعزيزي، وأولهم الجزيرة التي كانت ولاتزال تمجد الأعمال الانتحارية المسماة بـlaquo;الاستشهاديةraquo;. ويا ليت هؤلاء قد قرأوا بشكل متجرد وحصيف الأسباب الحقيقية الكامنة وراء إقدام البوعزيزي على حرق نفسه، وأظهروا الفوارق الضخمة التي نتجت عن فعله مع كل تلك العمليات laquo;الانتحاريةraquo; التي ضجت بها ساحات المعارك في العراق، وأفغانستان، وحتى بلدان الخليج لم تسلم منها، وجلبت اللغط الساقط عن العرب والمسلمين والإسلام. ولهذا في رأينا المتواضع يبقى محمد البوعزيزي رمزاً لثورة الأحرار في تونس الخضراء، بلاد laquo;الياسمينraquo; مثلما كان انهيار سور برلين واغتناء بقايا حطامه رمزاً لتبعثر المنظومة الاشتراكية، وتلاشيها بعدما شكلت يوماً ما أملاً للملايين من الحالمين بالعدالة. ويبقى الأمل بأن يظل النظام التونسي الجديد متمسكاً بعلمانيته مانحاً لشعبه مزيداً من المكتسبات المعيشية والسياسية والحقوقية.