علي جرادات

فرّ الرئيس التونسي، ومازال نظامه يتهاوى بتدرج متسارع نحو الزوال، بفعل انتفاضة شعبية سلمية عارمة، أشعل شرارتها الأولى حادث إحراق شاب نفسه، ليكشف عما يعتمل في المجتمع التونسي من تناقضات، بين قوى وجهات وطبقات اجتماعية، أفرزت صراعاً سياسياً محتدماً، لم يعد حسمه طوع بنان النظام السائد، رغم ما يملكه مِن قوة سيطرةٍ وقمعٍ وهيمنة، ذلك لأن ldquo;كل نظام يعيش مأزقه بأن ينتج حفار قبرهrdquo; (هيغل)، ما يعني أن انتفاضة الشعب التونسي الظافرة ليست نبتاً شيطانياً، بل جاءت ثمرة طبيعية، وقفزة نوعية، وحصيلة تراكمات نضالية شعبية تحررية سياسية واجتماعية مديدة، أنتجها نظام سياسي مزج بين التعسف والطغيان، وحَكَمَ لعقود، (باسم الحداثة)، كسلطان استبد برعية خارج القانون والدستور، وساوى بين السلطة والثروة، وعبث بالاستقلال الوطني، وفصله عن شرطه الديمقراطي الاجتماعي، وحوله الى استقلال شكلي، حاله، (زائد أو ناقص)، كحال بقية النّظم الرسمية العربية التابعة، التي، وبكلمات فيصل دراج: ldquo;لا تثقل كاهلها بالأزمنة المتتابعة إلا بالهرب من زمنها الجوهري، الذي همشه التاريخ، ولا تلج الزمن الحديث إلا من باب قديم، ولا تلج الزمن القديم إلا فوق طائرة مستوردةrdquo; .

عليه، فإن انتفاضة الشعب التونسي الظافرة، ليست معجزة، سوى لدى وعي نمطي عنصري غربي، كثفته صحيفة ldquo;لوموندrdquo; الفرنسية في تعليقها على فرار الرئيس التونسي المخلوع بالقول: ldquo;حتى في المنطقة العربية، يمكن للشعوب أن تغيّر الأنظمةrdquo;، وكأن العرب أصبحوا خارج قوانين التاريخ البشري، وأن تحررهم السياسي والاجتماعي، لا يأتي إلا على ظهر الدبابات الأجنبية الغازية، وأن فك تبعيتهم للأجنبي، لن يلد إلا حركات متطرفة جاهلة، تعيدهم قروناً إلى الوراء، الفزاعة التي جرى رفعها في وجه قوى التغيير والتحرر الديمقراطي السياسي والاجتماعي، فيما العكس هو الصحيح، ذلك أن بقاء الحالة العربية على ما هي عليه، يجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات، ومنها احتمال التنامي البكتيري لهذه الحركات المتطرفة الجاهلة .

بلى، لقد أوغلت النظم العربية التابعة لنظام النهب والسيطرة الغربي، في استخدام فزاعة التطرف، متناسية أن إطلاق العنان لعملية التحرر الديمقراطي السياسي والاجتماعي الحقيقي، يشكل العلاج الشافي لهذا التطرف، بل ولعلاج ما يتراكم تحت السطح على طول وعرض الساحة العربية مِن غضب شعبي، يتوق للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويرفض استمرار استذلال العرب ونهب ثرواتهم واحتلال جغرافيتهم .

والأنكى أن يتسلل تضليل هذه الفزاعة الى وعي بعض قيادات حركة التحرر العربية، كقيادات مأزومة، بررت عجزها عن قيادة هبات الحالة الشعبية العربية، بتخلف التجارب العربية عن تجارب بلدان ldquo;عالم ثالثية، متناسية أن التاريخ مد وجزر، وأن إمكاناته أوسع من الواقع، وأن اتساع الفجوة بين شارع عربي مقموع جائع غاضب، وبين قصور تابعة مستبدة متخمة، يستدعي إرادة التغيير، تجلت في انتفاضة الشعب التونسي العفوية الظافرة، ناهيك عما سبقها، وما سيتلوها، (بالتأكيد)، من انتفاضات شعبية عربية، لا معجزة فيها، إلا بمقدار ما ldquo;أن المعجزة ليست أكثر من الجنين الذي ينمو في رحم اليأس، ثم تولد، وعلى غير توقع من أحد، بحيث تكون الأشياء ثمة ناقصة من دونهاrdquo;، بكلمات غسان كنفاني .

قصارى القول، شكل نظام التبعية لعمليات النهب والسيطرة الغربية، مع ما أفرزه من إفقار وبطالة وقمع وإعاقة للتحرر السياسي والاجتماعي بمعناه الحقيقي، الظرف الموضوعي لاندلاع انتفاضة الشعب التونسي الشجاعة، التي دمجت بين مطالب رغيف الخبز والحرية والكرامة، وبعثت الأمل واسعاً في تغيير الواقع العربي، وأعطته وجهاً تغييرياً حقيقياً مشرقاً، بديلاً لقتامة عمليات التذبيح والتفتيت الطائفي والمذهبي والجهوي والإثني، التي تمارسها حركات جهل وتطرف فكري وسياسي، تخدم بوعي أو عن جهالة، نظام النهب والسيطرة الأجنبي، وتعزز النظم الرسمية العربية التابعة له .

إن انتفاضة الشعب التونسي الشعبية السلمية، ورغم ما يحدق بحصادها السياسي والاجتماعي، من مخاطر داخلية وخارجية، خاصة مع الغياب النسبي لشرطها التنظيمي السياسي المعارض، قد حققت حتى الآن الكثير من الإنجازات التحررية السياسية والاجتماعية، على الصعيدين الوطني التونسي والقومي العربي، ومازال الباب مفتوحاً أمامها لإحراز المزيد من الإنجازات الملموسة، فمردوداتها الوطنية، كما ارتداداتها القومية، لم تنته بعد، وما زالت مجال صراع معقد ومتشابك بين حوامل دفعها السياسي إلى الأمام، وبين حوامل محاولات التقليل من آثارها وانعكاساتها وإنجازاتها . وعلى القوى التونسية التحررية المعارضة، أحزاباً ونقابات وفعاليات وشخصيات مجتمعية، التي أنعشها الفوران الانتفاضي الشعبي، أن تعيد تنظيم صفوفها ورصها، فما زالت الفرصة أمامها قائمة لقيادة الفعل الانتفاضي الشعبي المتواصل، وتطوير ما أنتجه هذا الجيش الانتفاضي من أُطر شعبية ميدانية، مطلوب تغذيتها بمطالب سياسية واجتماعية واضحة ومتفق عليها وطنياً، خاصة بعد حيادية الجيش الوطني التونسي، ورفضه، أن يكون جزءاً من منظومة قمع الانتفاضة الشعبية، بل وإسهامه، في التصدي لمحاولات تخريبها على يد فلول جهاز الأمن الرئاسي القمعي، من دون نسيان الدعم الخارجي المستتر لقوى التخريب الداخلي .

إن على قوى التحرر السياسي والاجتماعي التونسي أن توفر لانتفاضة شعبها، عامل تنظيم تواصلها وتطويرها وتوجيهها وحمايتها، عبر طرح شعارتها السياسية والاجتماعية الناظمة . وكذا فإن على حركات التحرر العربية السياسية الشعبية المعارضة، استخلاص الدروس من هذا الحدث التونسي التاريخي، الذي كشف عمق أزمتها، وأظهر مدى تخلفها عن قيادة الحركة الشعبية العربية وهباتها التي لم تنقطع . فانتفاضة الشعب التونسي الظافرة، حدث تاريخي في الواقع العربي، سيكون ما بعده غير ما قبله .