قاسم حسين

الأحداث الكبرى في التاريخ لا تأتي فجأةً ودون مقدمات، وإنّما نتيجة تراكمات وإرهاصات لا يشعر بها من يعيشون في بحبوحةٍ وغيبوبةٍ وغياب.

في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2010، حضرت إحدى حلقات laquo;مناظرات الدوحةraquo; التلفزيونية، التي يشارك فيها أكثر من 300 شخص، أغلبهم من الجيل الجديد. وصوّت 63 في المئة مع الديمقراطية والانتخابات النزيهة، مقابل الخبز والرفاه الاقتصادي، ولخّصتها في عنوان يقول: laquo;لا يمكن تخيير الناس بين الحرية والعيش الرغيد تحت الأنظمة الديكتاتوريةraquo;.

الحلقة ضمّت أربعة أشخاص (وزيرٌ هندي وآخر تقني، ورجل أعمال غربي)، وجمعنا لقاء تعارف مسبق معهم، وكان رابعهم مدوّن مصري شاب (بلوغرز)، فتح نظري لأول مرةٍ على هذا العالم الافتراضي الغريب.

الشاب (35 عاماً) سُجن عدّة مرات، ولاحقته قوات الأمن لكتاباته في الإنترنت، وظلّ مرةً مختفياً لعدة أشهر؛ هرباً من قبضة أجهزة المخابرات القمعية. وكان يتكلّم بمرارةٍ شديدةٍ مما بلغته الأوضاع في مصر، وظللت أستمع له في ذهول، فأنت أمام جيلٍ جديدٍ، يتكلّم دون تلعثمٍ أو ترددٍ. جيلٌ له آراء واضحة ومطالب محددة، يقرأ عن أوضاع الشعوب والبلدان الأخرى في الشمال، ويقارنها بحياته الخالية من الخبز والكرامة معاً.

هذا الجيل تربّى في أحضان الكمبيوتر، حيث تسقط قوانين الرقابة وسلطة الأنظمة الأبوية، التي تؤمِن بنظرية فرعون laquo;ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشادraquo;. جيلٌ تشعر أنه كفر بكلّ ما هو موجود، حتى حين تسأله عن الصحافة المستقلة والأسماء الوطنية ذات السمعة الحسنة في الخارج، يردّ عليك: laquo;كلهم بتاع مصالح وأتباع للنظامraquo;!

الأنظمة العربية اختتمت العقد الأول من القرن الجديد، بتسجيل ما اعتبرته انتصارات على قوى المعارضة التاريخية في عددٍ من الدول العربية، استطاعت خلاله إفراغ الساحة تماماً من المعارضين. وهكذا تحوّلت البرلمانات إلى مجالس حزبية مغلقة كالدكاكين الفارغة من البضائع، وجلست تقهقه على أطلال الخرائب ملوّحةً بعلامة النصر! لم يخطر ببال أحدٍ من هذه الأنظمة أن جيلاً جديداً سيخرج من كلّ هذه الفوضى والعدمية والخراب السياسي.

جيلٌ مسيّسٌ متابِعٌ ناقدٌ ومهتمٌ بالشأن العام، لم يتلقَ توجيهه المباشر من أروقة المساجد أو تنظيمات اليسار، وإنما من خلال عالم افتراضي، حيث تجري الحوارات في مختلف الاتجاهات ويناقش الهمّ الجماعي العام. أحدهم يكتب لأمّه أنه سينهي حياته احتجاجاً على نظامٍ فاسدٍ حرمه من العمل الشريف، وحاربه في كسب لقمة عيشه من بيع الخضار في الشارع، وعندما ذهب ليتظلم لطمته شرطيةٌ متعجرفةٌ على وجهه، فحياةٌ مثل هذه لا تستحق أن تُعاش. لم يكن يدري أن رسالته التي بثها في أسلاك الانترنت سيقرأها الملايين، وأن إقدامه على حرق نفسه، سيشعل ثورةً في بلاده ستُطيح بالجنرال خلال شهرٍ واحد، وتخلّف تعاطفاً واسعاً وموجاتٍ من الاحتجاج في بلدانٍ أخرى.

جيلٌ مسيّسٌ غير منتمٍ حزبياً، يرسل أحدهم اقتراحاً عبر موقع افتراضي، بالتجمع في ميدان عام بمناسبة يوم الشرطة، يعارضه بعضهم ويوافقه آخرون، وخلال 24 ساعة يعلن 80 ألفاً التحاقهم بحملته، ومنها تشتعل الأحداث.

لم يكن بين الجموع من يلبس أسمالاً بالية. توقّعها النظام ثورة جياع، ففاجأته انتفاضة طبقةٍ وسطى، طالما أهينت وسُحقت وزُوّرت إرادتها وفرض عليها نوابٌ مرتشون وهياكل تمثيلية زائفة، وخياراتٌ سياسيةٌ مذلة وقراراتٌ اقتصادية تنفذها نخبةٌ متغرّبة تقوم فلسفتها على احتقار الشعوب