هذه الأصوات الشبابية، لحسن الحظ، متنوعة المشارب والثقافات والتوجهات. وحدات التعبير لديها متباينة بين الاستقلالية التامة أو الانتماء التياري، بين الامتعاض السلبي والتحليل النقدي، بين الاعتراض الصوتيّ والحراك العمليّ، بين العمل المؤسسي والجهود الفردية

أكثر الأصوات الاجتماعية حضوراً على الإنترنت أصوات الجيل الشاب بلا منافس. الإحصائيات غير المدققة تقول إن عددهم أصبح مليونياً، بمعدل أعمار حول الخامسة والعشرين، وبتوزيع متكافيء بين الفتيات والفتية. الشباب الذين هم أقل الفئات العمرية في السعودية تأثيراً على مستوى صناعة القرار وتوجيه الدفة الاجتماعية هم الأكثر انتقاداً لهذه القرارات وتمرداً على تلك الدفة ولكن عبر صفحات الإنترنت. فئة الشباب هي المتحدث الوحيد باسم المجتمع في العالم الافتراضي، برغم أنها الفئة الأقل إسهاماً في صياغة السياسات العامة وتدبير الشؤون الاجتماعية. هكذا أصبح المنفعلون بالمسار الاجتماعي هم الفاعلين في المسار الإنترنتي. إنهم الطبقة التي تحيط بالكتلة الاجتماعية من الخارج، وتعكسها للذات وللآخر على حد سواء دون أن تتدخل كثيراً فيما يحدث في اللب. وهذا بالتأكيد يفسّر الكثير من حيثيات خطابهم على الإنترنت والزاوية التي ينظرون من خلالها لمجتمعهم والصورة التي ينقلونها عنه.
هذه الأصوات الشبابية، لحسن الحظ، متنوعة المشارب والثقافات والتوجهات. وحدات التعبير لديها متباينة بين الاستقلالية التامة أو الانتماء التياري، بين الامتعاض السلبي والتحليل النقدي، بين الاعتراض الصوتيّ والحراك العمليّ، بين العمل المؤسسي والجهود الفردية. تجربتهم مع الحوار الإلكتروني، وأخّرتها عوامل أخرى مثل غموض الهويّات وتضارب الأجندات. أي دراسة منهجية حول تطور هذا الحوار على الإنترنت في العقد الأخير ستكشف حتماً الخط التصاعدي لمنهجيته وآثاره، رغم العوائق التي أدت إلى تشتيته وإرهاقه في البدايات، وأحد أمثلتها الظاهرة بعض المنتديات التي أُنشئت من قبل جهات رسمية ودولية لتمرير أجندات واضحة لجماعات خاصة، فاجتمعت في أصوات شبابية كثيرة لتكتشف في آخر المطاف أنهم كانوا وقوداً لمعركة أيديولوجية أو سياسية امتدّت إلى ميادين الإنترنت فحسب.
ولكن الحضور الشبابي على الإنترنت تجاوز هذه المتاهات المدبّرة، وشقّ طريقه في دأب الذي لا يملك خياراً آخر. تزايد الحضور الشبابي على الإنترنت هو ردة فعل طبيعية لضيق المساحة المخصصة لهم في الواقع الاجتماعي. والمقالة السابقة تطرقت إلى الإنترنت بوصفه تعويضاً مؤقتاً عن حرية التعبير الغائبة في القنوات الرسمية يسهم في تخفيف الاحتقان ولكنه حتى الآن أضيق من أن يقدم حلولاً جذرية. إزاء ذلك كله، فإن الشابة أو الشاب الذي ضاق ذرعاً بصوته الذي لا يصل، وتأثيره الذي لا يُلحظ، ومطالبه التي لا تُلبّى، وطموحه الذي لا يُوظّف، وقدراته التي لا تُتبنّى، يرى في الإنترنت أرض الله الواسعة التي يهاجر إليها، ويبدأ فيها حياة افتراضية تساعده على تحمّل واقعه، وصياغة ذاته الاجتماعية بعيداً عن الحدود والرقباء والعوائق التي تواجهه كل يوم.
الآن، وقد ازدحمت المنتديات بأعضائها، والمدونات بروادها، والفيسبوك بزواره، والتويتر بمغرديه، فقد أصبح تتبع هذا الصوت الشبابي مهمة شاقة، ويتطلب جهوداً بحثيّة لم يتصدّ لها الباحثون المحليون بعد رغم ما تعدهم به من غنائم بحثية كبرى، فأفسحوا المجال لكتاب مقالات الرأي البسطاء أمثالي أن يطرحوا رأياً حول هذا المهرجان الشبابي تحت خيمة الإنترنت. وهو رأيٌ لم ينتج عن دراسة منهجية أو عينة بحث منتقاة، بل ملاحظة عابرة لأجواء الطرح الشبابي عبر الإنترنت كان مفادها أن هذا الطرح، رغم تنوع الأصوات، واختلاف التوجهات، وتزاحم الرؤى، وتباين الآراء، يتّحد في ثيمة جماعية لا يمكن إغفالها وهي (الإصلاح).
هذه النوتة المشتركة في وسط هذا الصخب الأوركسترالي المعبّر، والمحور المشترك الذي تطوف حوله أغلب طروحات الشباب السعودي على الإنترنت، هي أمرٌ مثير للاهتمام فعلاً. الصوت الاجتماعي الشاب في السعودية ليس متكتلاً بالكلية في تيار ما، ولا متمحوراً حول أيديولوجيا منفردة، ولا متعصباً لمنهج أو فكرة أو طريقة. إنه صوتٌ موزع بشكل متوازن على أطياف واسعة من الأفكار ومستوياتها، والأهداف وأبعادها. ورغم كل هذه الفسيفسائية المعبرة نلحظ بوضوح هذا الإجماع شبه التام حول الإصلاح وضرورته مع تباين الآراء بطبيعة الحال حول ماهيته وآليته وتطبيقاته وأولوياته ومجاله وحدوده، إلا أن جميع الشباب الذين يجدون نوافذ للتعبير عن آرائهم في الإنترنت يتفقون بإجماع شبه تام على شأن واحد: ثمة شيء يجب إصلاحه، وثمة تجاوزات يجب إيقافها، وثمة حالة سائدة يجب تغييرها.
التفسير السوسيولوجي المباشر لهذا الإجماع هو أن يرجع إلى وحدة المصير ومستوى النضج الحضاري، والتفسير السيكولوجي هو اشتراك هذه الأصوات في المرحلة العمرية التي تقع غالباً بين الاتكالية واليأس، والتفسير السياسي أن ثمة حالة عامة من الإحباط والشعور بوجود حافّة ما تقترب، والتفسير الاقتصادي هو اختلال ميزان العدالة المادية بين طبقات المجتمع. والتفسير الثقافي يقول إن الأغلبية تريد أن تصنع صوتها الخاص الذي يناسب المرحلة. والتفسير الديموغرافي يقول إن الأكثرية الشابة تطغى بتفوقها العددي على الأقلية الأكبر سناً والتي تقرر كل شيء.
تنوّع الأفكار التي يطرحها الصوت الشبابي على الإنترنت لا يدع مجالاً لنقدها على حدة، ولكن إجماع هذه الأفكار على ضرورة الإصلاح يستدعي التصنيف أولاً، والتحليل لاحقاً، لعلنا نفهم الأسباب التي أدّت إلى هذا الإجماع المثير للاهتمام. ولعل المقالة القادمة تتناول شيئاً من ذلك.