عبدالمنعم مصطفى

قد يبدو المشهد في ساحة ميدان التحرير بقلب العاصمة المصرية صراعًا بين شارع يريد حلاً، وأحزاب تريد حكمًا، وسلطة لا تقدر على مقاربة الحل، ولا تقبل بمغادرة الحكم، وقد يبدو المشهد ذاته من زاوية رؤية أخرى صراعًا بين عصرين، أو بين أجيال، ولا أقول جيلين، فالشباب الذي خرج إلى الشارع مطالبًا بحقه في التعبير والتغيير، وحصته في موارد الوطن، قد وُلد أغلبه في عهد الرئيس المصري الحالي حسني مبارك، وهم لا يعرفون سواه، ولم يروا سواه، ومع ذلك فإن درجات التباين بين جيل الأبناء، أو ldquo;الأحفادrdquo; من شباب ميدان التحرير، وبين جيل الحكم تبدو شديدة الحدة تحت وطأة زمان طال أمده، وتقنيات اتصال طالت يدها، وآليات تغيير استوعبها جيل نشأ معها، وتربي بها وعليها، فيما عجز جيل الآباء والأجداد ليس فحسب عن إدراك مدى تأثيرها، وإنما أيضًا عن التعرف على كيفية استخدامها.
قلت في مقالي الأسبوع الماضي، وكان تحت عنوان: ldquo;يسقط البُعد الرابعrdquo; إن عنصر الزمن قد تلاشى أو يكاد، بفعل تقنيات الاتصال مفسحًا المجال أمام تغييرات عاصفة لا تطرق الأبواب، ولا تطلب الإذن بالدخول، وإنما تطيح بمن يقف في طريقها، غير أن المشهد في ساحة ميدان التحرير على مدى تسعة أيام مضت، يشير إلى ما هو أبعد أحيانًا، وإلى ما هو أخطر في معظم الأحيان، الأبعد هو أن تعطيل تقنيات الاتصال بقرار من السلطات المصرية بدءًا بالهواتف النقالة، ثم الإنترنت، ثم بعض الفضائيات، -وهو أمر ظنه كثيرون بعيدًا عن الحسبان، باعتبار أن تلك التقنيات كانت جزءًا حتى من أدوات السلطة في التعاطي مع الحدث لبسط النظام العام- تعطيل تلك التقنيات كان جزءًا من محاولة السلطات استعادة السيطرة على البُعد الرابع (الزمن)، ليصبح إيقاعه بطيئًا متناغمًا مع فكر جيل في الحكم وُلد مع بداية عصر الراديو والهاتف، لكن جيل الفيس بوك الذي استطاع نقل مئات الآلاف إلى مختلف الساحات في مختلف المدن المصرية، استطاع أن يطور بدائله، وينوّع خياراته، ويبقى على إيقاع زمن بات أسرع من سرعة الضوء، وبسبب قدرة جيل الفيس بوك على السيطرة على أدوات زمنه، طال أمد الصراع الذي بات في جوهره يدور بين زمنين، زمن الراديو وزمن الإنترنت الفائق السرعة.
في الصراع بأدوات إدارة الزمن أغلقت السلطات قنوات التواصل (جوال - انترنت - بعض الفضائيات)، وسعى الحزب الحاكم إلى استبطاء ايقاع الأحداث فيما يتواصل حظر للتجوال جرى تمديده ليصل إلى تسع عشرة ساعة يوميًّا، لا يمكن في ظلها أن تستقيم حياة البسطاء الذين اعتادوا العمل لأكثر من عشر ساعات من أجل توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم المعيشية، ومع استطالة أمد الأزمة، واستمرار حظر التجوال، يستشعر البسطاء الذين تعاطفوا مع شباب ميدان التحرير، آلام الجوع والحاجة، مع شح الأموال، وشح المواد التموينية، والوقود، والخبز، واستمرار إغلاق البنوك، وتعطل وسائل النقل، كل ذلك مع الوقت يجعل حياة البسطاء جحيمًا، ويضغط من ثمّ على قوى ميدان التحرير، فيما يتقدم الحكم بمبادرات بدا حتى الآن أنها لا تلبي تطلعات شباب زمن الفيس بوك.
هذا فيما يتعلق بما هو أبعد من المشهد المجرد لتظاهرة ميدان التحرير، أمّا ما هو أخطر من هذا المشهد، فهو أنك قد تستطيع لبعض الوقت تعطيل عقارب الساعة في مكان ما، لكن ذلك لن يعني بالضرورة أن ساعات الجوار ستتوقف عن العمل أيضًا، ولهذا ومع الوقت فإن مباريات التنافس بين الأمم لا يجري فيها التعويض عن الوقت بدل الضائع، تمامًا كما لا يمكن ولا يجوز إدارتها باستخدام الـldquo;ستوب ووتشrdquo;، وهكذا فالصراع الذي يشهده ميدان التحرير هو في بعض تجلياته صراع بين زمنين باعدت بينهما التطورات المتسارعة في تكنولوجيا الاتصالات.
ثمة مسافة كبيرة ما تزال قائمة بين مطالب شباب ميدان التحرير، وبين مبادرات الحكم تزداد كلّما طال أمد الأزمة، فيما يستعجل الشباب استعادة زمنه، بينما يواصل الحكم الضغط وفق إيقاع زمنه هو، والمشهد الراهن قد يبدو كمباراة في عض الأصابع، يخسرها مَن يصرخ أولاً، غير أن جوهر الصراع لا ينبغي أن يكون حول مَن الذي يحكم، وإنما حول ما الذي يحكم، فالمسألة لا يبنغي أن تكون صراع سلطة، وإنما سباق رؤية، وعند الاتفاق على أن الرؤية هى جوهر الصراع، فإن ساحته لا يمكن أن تكون ميدان التحرير، ولا كل الميادين المماثلة، وأدواته لا يمكن أن تكون شباب الفيس بوك في ميدان التحرير، ولا متحديهم من شباب الحزب الوطني في ساحة مصطفى محمود بالمهندسين.
شباب ميدان التحرير أعادوا ضبط ساعة القاهرة وفق توقيت سيليكون فالي، وبقي أن يستوعب مجتمعه التوقيت الجديد ويتوافق معه، وإلاّ فإن الصراع بين شارع يريد حلاً، وسلطة تريد حكمًا قد يطول أمده.