محمد جلال نعمان

ما نقصده بالتنين هنا هو ذلك الحيوان الأسطوري الذي ألف بشأنه الفيلسوف وعالم السياسة توماس هوبز Thomas Hobbes الذي عاش بين (1588 - 1679) ، كتابه المشهور الليفثان Leviathan بمعنى laquo;التنينraquo;، والذي حلل حالة الفوضى laquo;قبل نشأة النظام السياسي، حيث ساد قانون laquo;شريعة الغابraquo;raquo;.

وزارة الداخلية المصرية كانت في مواجهة هذا التنين من اجل حفظ الأمن والنظام، وهي إحدى المهام الرئيسية في الفكر السياسي التقليدي للدولة القائمة على الحرية شبه المطلقة والتي اصطلح على تسميتها laquo;الدولة الحارسةraquo; التي لها مهام ثلاث وهي الأمن والدفاع والعدالة.

ولكن وزارة الداخلية المصرية انطبق عليها القول غير الصحيح الذي أطلق على الدبلوماسي بأنه laquo;إنسان صادق وأمين يكذب باسم دولتهraquo;. وزارة الداخلية ضمت أناساً على درجة عالية من الكفاءة والشرف والأمانة، ولها دور بالغ الأهمية، ولعل اختفاء رجالها من شوارع القاهرة لمدة ثلاثة أيام خير دليل على تلك الأهمية البالغة لهذه الوزارة، حيث عمت الفوضى، والقلق، وانعدام الأمن، وخرج الشباب والشيوخ لحماية منازلهم وأسرهم بأنفسهم، وسهروا الليالي الطوال.

التنين الذي تحدث عنه هوبز هو حالة الفوضى بين البشر، واستباحة الدماء، وانعدام الأمن، لذلك لجأ الأفراد إلى فكرة إنشاء الدولة، واختيار الحاكم المطلق الذي مهمته تحقيق الأمن وفرض النظام. بالطبع توماس هوبز جرى تعديل نظريته بعد ذلك من جون لوك John Locke الذي عاش بين (1632 - 1704)، جان جاك روسو، الذي عاش بين 1712 و 1778، وغيرهما الذين تحدثوا عن العقد الاجتماعي وتقييد السلطة المطلقة للحاكم، كما طرح المفهوم قبل ذلك في الفكر الإسلامي، منذ نشأته والذي بلغ ذروته فيما هو معروف من عدالة عمر بن الخطاب، والذي يروى أنه كان ينام تحت شجرة عندما أتى إليه رسول من ملك الفرس ليبحث ويرى من هو ملك هؤلاء المسلمين الذين قضوا على أكبر امبراطوريتين في التاريخ البشري آنذاك، وهي امبراطورية الرومان وامبراطورية الفرس، فقيل له ليس لنا ملك، وإنما أمير، فذهب للبحث عنه ووجده نائماً تحت ظل شجرة على الرمال بلا حراسة، فقال قولته المشهورة laquo;عدلت فأمنت فنمت يا عمرraquo;، باختصار هو العمود الثاني من أعمدة الحكم في ظل الفكر التقليدي، وهو إقامة العدالة بعد إقرار الأمن، ومن هنا ابتكر الفيلسوف والقانوني الفرنسي مونتسكيو Montesquieu ، الذي عاش بين (1689 - 1755) ، نظريته في الفصل بين السلطات، وإن كل سلطة تردع أو توقف السلطة الأخرى عند حدودها.

النظام السياسي المصري المعاصر نسيَ واضعوه ومستشاروه السياسيون والقانونيون هذه المفاهيم الأولية في علوم السياسة والقانون، رغم وجود قيادات قانونية وفكرية في مؤسساته العليا. فالبرلمان اعتبر نفسه فوق سلطة القضاء، وانه سيد قراره، وتجاهل مبدأ نزاهة الانتخابات. والسلطة التنفيذية اعتبرت نفسها فوق القضاء، وتجاهلت أحكامه في أجهزتها ووزاراتها. وبلغ الانحراف العملي في فكر بعض المسئولين، ان وزير المالية اعتبر نفسه فوق القانون، بل فوق الدولة، بإصداره قوانين ضرائب وغيرها عكس توجهات القيادة السياسية، والأنكى أن بعض القضاة أيضاً اعتبروا أنفسهم فوق القانون وليسوا أداة من أدوات إقرار العدالة، وهكذا حدثت العودة لحالة الفوضى في النظام المصري إذ اعتبر كل مسئول نفسه أنه فوق القانون.

والأسوأ من ذلك هو ضعف الأحزاب وعدم صدقيتها، واتجه بعض المسئولين لتزييف الأرقام، والإحصاءات والمبالغة في الإنجازات، وفي إطار المجاملة التقليدية لم يرغب أي مسئول في الحديث علانية وصراحة عن الخطأ. وهكذا وجد النظام المصري نفسه أمام تلك الرواية الرائعة للكاتب الدنماركي هانس كريستيان أندرسون، laquo;ملابس الحاكم الجديدةraquo; الذي أوهمه أحد الناس بوجود زي يضمن له الأمن، والسلامة، ويحميه، وقام بحياكته له ثم ألبسه إياه، وأخذ يسير الحاكم مزهواً به ولا يدرك أنه فكرة وهمية من مفكر خبيث أو ماهر وصاحب دهاء، والأطفال في الشوارع يقولون لماذا هذا الحاكم عارياً في الشوارع، الجميع يدركون ذلك، ويرونه رأي العين، ماعدا الحاكم نفسه الذي أدرك ذلك متأخراً بعد فوات الأوان. باختصار أنها مشكلة علاقة المستشارين بالحكام.

مشكلة مصر تمثلت في إضعاف ركائز أي نظام سياسي من سلطة القضاء، والعدالة، وسلطة الأمن بالمنطق السليم، وسلطة الصحافة، وسلطة البرلمان، وسلطة الأحزاب، والأهم هو سلطة الرأي العام، بتزييف إراداته في الانتخابات. كل من تلك المؤسسات لها دورها البالغ الأهمية، ولكن من تولوها نسوا مفهوم الخدمة المرتبط بالسلطة، ومفهوم النظام وقواعده القانونية، وعاشوا في نشوة بالسلطة، ولم يدركوا التغير في العالم حتى يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011، بثورة الشباب وثورة التكنولوجيا.

من الخطأ تصور أن أحداث مصر صنعتها الأحزاب الوهمية أو صنعتها قيادات سياسية كانت تعيش في مصر، أو في خارج مصر ومرتبطة بالخارج أو بالفكر الماضوي، وجاءت لتصور نفسها بأنها laquo;المنقذraquo; والمبعوث من الله لإنقاذ شعب مصر.