قاسم حسين

احتاج بنو إسرائيل إلى أربعين سنة من التيه والضياع، حتى دخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، واحتاج أهل مصر إلى أربعين سنة من التيه السياسي حتى يستعيدوا حريتهم وهويتهم وكرامتهم... ومكانة بلادهم واحترامها بين أمم الأرض.

كان تيه بني إسرائيل في شبه جزيرة سيناء، يخرجون بنسائهم ومتاعهم من الصباح، وفي المساء يكتشفون انهم مازالوا في مكانهم الأول. كانوا بحاجةٍ إلى استبدال جيلٍ بجيل، فلا يقدر على دخول الأرض المقدسة إلا جيلٌ شابٌ معافى، قد تخلّص من أغلال وعقد وأخطاء الجيل القديم. أما في العصر الحديث، فإن مصر التي استلبها العسكر منذ ستين عاماً، كانت بحاجةٍ إلى جيل شاب معافى من العقد القديمة، ليخلصها من الأغلال الثقال.

لقد تسامح الشعب مع العسكري الأول، وغضّ طرفه عن خطاياه لأنه كان يحمل هماً وطنياً، ولأنه جاء من أوساط الشعب. أما وقد تحوّل الحكم إلى طبقةٍ مستبدةٍ جديدةٍ ذات مصالح وامتيازات، فهذا ما لم يكن قابلاً للاستمرار.

أنور السادات، حكم عشر سنوات، اعتمد في نصفها الأول على الأحزاب الضعيفة، والديمقراطية المموّهة، وسطوة الإعلام، مع الثقة المطلقة بكل ما يقوله ويفعله الأميركان. وكان عندما يلتقي نيكسون أو كارتر، كان يردّد في سره: ما شئت لا ما شاءت الأقدار... فاحكم فأنت الواحد القهار. أما في النصف الثاني فقد ضاق ذرعاً بكل الأحزاب التي تعارضه والأصوات التي تنتقده، فأمر في ليلةٍ واحدةٍ، قبل شهرٍ واحدٍ من مقتله، باعتقال عشرة آلاف. حتى حين قرّر رفع سعر الرغيف وخرج آلاف الجياع للشوارع احتجاجاً على سياسة التجويع، لم يتورّع عن وصفهم بالحرامية والبلطجية، وسوّق الإعلام الرسمي الأجير الوصف البذيئ حتى استقر في الأذهان.

بعد ثلاثين سنة، يُبعث المصطلح من جديد، إذ كانت مصر على موعدٍ مع البلطجية الحقيقيين، حيث صُدم العالم لمشاهدة عصاباتٍ تقتحم ميدان التحرير على ظهور الحمير والبغال والجمال، لتعتدي على المتظاهرين بالهراوات والسكاكين. وانجلت هذه الغزوة التي صدمت الضمير العالمي، عن مقتل العشرات وإصابة الآلاف، وكانت إيذاناً بنهاية حقبةٍ استنفدت أيامها ولم تعد قابلةً للحياة. لم تكن غزوة فاشلة فحسب، بل كشفت أولئك المستشارين العباقرة الذين يضعون الخطط الاستراتيجية المحكمة لقمع أحلام الشعوب.

الحاكم الثالث الذي أنجبته المؤسسة العسكرية، بقي يحكم أكثر مما حكم من سبقاه، استتب له فيها الأمر وأحكم قبضته على الرقاب، حتى سدّ كل منافذ التعبير. لقد حكم فترة تتيح له تحويل البلد إلى جمهورية مستقلة ناهضة في حجم كوريا أو ماليزيا أو تايوان، لكنه استمر في ربط مصيرها برأس المال الأجنبي ووضعها على قائمة البلدان التي تتلقى الصدقات الأميركية الباهظة التكاليف.

في الداخل، لم يقبل في الانتخابات الأخيرة بغير السيطرة الكاملة لأتباعه على مجلس الشعب، وطرد ما تبقى من المعارضة، ففي الأنظمة الجمهورية الديمقراطية لا مكان للمعارضين!

كان الاحتقان قد بلغ الذروة بعدما أغلقت كل نوافذ الأمل، والجيل الذي تربّى في حضن النظام، يتلقى التعليم في مدارسه، والترفيه في تلفزيونه، والتوجيه من إعلامه، كان مقدّراً له في لحظةٍ تاريخيةٍ حرجةٍ أن يحمل مشعل التغيير للخروج من زمن التيه.