مصطفى الفقي


عصفت بالشارع العربي في الفترة الأخيرة قوى شعبية أطاحت نظام الحكم في تونس وكذلك في مصر. ولم تكن هذه القوى الشعبية المحتقنة وليدة يومٍ وليلة ولكنها نتاج تراكم طويل من الإحباط والتهميش أحياناً بل والقهر والفقر معاً أحياناً أخرى، ولقد افترض البعض أن هذه النظم العربية تحمل laquo;جيناتraquo; الاستعلاء والاستقواء في داخلها، كما أن تصوراتها عن الحاضر والمستقبل لا تبدو دقيقة لأنها لم تدرس الماضي أيضاً، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:

أولاً: إن المشاركة السياسية الحقيقية والتطبيق الديموقراطي الذي يتناسب مع طبيعة كل شعبٍ وظروفه هما ركيزتان أساسيتان للاستقرار، شرط ألا يختلط في الأذهان بالسكون، فالفارق بينهما واضح، لأن laquo;الاستقرارraquo; حالة إيجابية أما laquo;السكونraquo; فهو ظرف سلبي، ولا شك في أن بعض النظم التي حكمت دولاً عربية طويلاً قد توهمت أن صمت الشعوب يعني أنها في حالة رضا عن حياتها وانسجام مع نظمها مع أن الأمر يختلف عن ذلك اختلافًا بيّناً.

ثانياً: يتصور الكثيرون أن تدني مستوى المعيشة وسطوة الفقر هما العنصر الأساس في الثورات الشعبية والأمر لدينا يختلف عن ذلك فهو لا يقف عند حدود الواقع الاقتصادي، ولكنه يتجاوز ذلك إلى المناخ السياسي بما يفرزه من حريات، إذ أن فتح أبواب الديموقراطية وشفافية الانتخابات العامة واقتراب السلطة من الشارع وغياب البطش واحترام آدمية المواطن هي كلها أسباب أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، ويكفي للتدليل على ذلك أن نتأمل ما جرى في تونس، وكيف أن مستوى المعيشة فيها ndash; رغم وجود البطالة ndash; لم يكن بحالة تدفع إلى الثورة أو تدعو إلى التمرد الشعبي، كما أن الصحة النفسية للمجتمع التونسي، خصوصاً ما يتصل بمكانة المرأة ودرجة التطور، هي نتاج لعصر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بكل ما له وما عليه. لهذا فإن الشعوب لا تثور فقط لأسباب تتصل بأمعائها ولكنها تثور من أجل كرامتها واسترداد قدرتها على العطاء المتبادل بين المواطن والدولة، وأنا ممن يظنون أن القمع والقهر وغياب الديموقراطية وتهاوي الحريات وتدهور حقوق الإنسان هي كلها أسباب تمثل في مجملها جرس إنذار قوي يؤكد أن الدنيا تتغير وأن العالم يتحول وأن المجتمعات وهي في طريقها إلى الحداثة تحتاج إلى انسجامٍ مطلوب بين منظومة القيم السائدة في جانب وتكنولوجيا العصر في جانب آخر.

ثالثاً: لقد كنت ممن يظنون إلى عهدٍ قريب أن laquo;الملكية الدستوريةraquo; كانت من أنسب النظم لـمصر لأنها تعترف بالفرعون الذي اعتبره المصريون القدماء ابن الإله وأنزلوه منازل التقديس بل والعبادة أحياناً، فإذا كان الملك يحكم في ظل دستور رشيد وشعب مستنير فإنه يمكن أن يحقق نجاحات واضحة على الصعيد الوطني، ثم آمنت أخيراً بأن laquo;الجمهورية البرلمانيةraquo; هي امتداد مشابه laquo;للملكية الدستوريةraquo;، مثلما لو انتقلنا من بريطانيا إلى الهند، حيث نشهد نموذجين للحكم الرشيد: الأولى في ظل laquo;ملكية دستوريةraquo;، والثانية في ظل laquo;جمهورية برلمانيةraquo;، وما أحوج المصريين قبل غيرهم إلى تفتيت ذلك الصنم الضخم الذي يرون فيه فرعون كل زمانٍ ومكان حتى أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل أنبياءه إلى أقوامٍ مختلفين من laquo;عادٍraquo; وraquo;ثمودraquo; وraquo;لوطraquo; وغيرهم، ولكن عندما جاءت الإشارة إلى مصر خاطب الله موسى وأخاه قائلاً (اذهبا إلى فرعون) لأن مصر دولة مركزية نهرية منذ فجر التاريخ تحتاج دائماً إلى حاكم متفرد يغذي النزعة الفرعونية التي تتدفق في عروق شعب الكنانة!

رابعاً: لقد أثبتت انتفاضة الشعب المصري التي بدأت في 25 يناير 2011 أن الشارع هو الذي يقود وليست الأحزاب السياسية أو الجماعات الاحتجاجية، فتلك كيانات تابعة ولكن الأصل يعود إلى عفوية الشارع ودمائه الشابة التي تجدد روح الحياة وتوقظ شعلة الوطن إذ ليس لدي شك في أن الشباب الرابض في ميدان التحرير في وسط القاهرة إنما هو تعبير عن جيل مختلف ورؤية أكثر شجاعة وإرادة فيها من الإقدام والاختراق بل والتقدم نحو المستقبل ما ليس لدى غيرها.

خامساً: إن مسيرة الإصلاح لا بد أن تقوم على رؤية متكاملة وإرادة قوية بحيث تضم مفهومي التنمية والديموقراطية في وقتٍ واحد، لأن العيش الكريم لا يتحقق إلا بالتمكين للحرية والخروج من سلطوية الحكم والإحساس بالندية والمساواة لأنه لا يصيب المواطن العادي بانتكاسة ذاتية إلا شعوره بازدواج المعايير وسياسة الكيل بمكيالين وهي التي تخلق لديه الإحباط وتنشر مناخ التوتر والقلق وتزرع بذور الشك وانعدام الثقة، فالإصلاح طريق لا بد من ولوجه والتعرف على بدايته ونهايته والإمساك بما يجب والإعلان عن كل ما يراد منه.

سادساً: إن ما جرى في مصر أخيراً يشبه الانفجار العظيم عندما يتمرد شعب على حاضره ويثور من أجل مستقبله ويطرح من التساؤلات ما كان يمكن أن يضعه قبل ذلك بأسبوعٍ واحد موضع المساءلة، كما أن أخطر الأمور على الإطلاق هو المتاجرة بجهود أبناء الشعب والاستخفاف بعقولهم والحديث المتكرر عن أن هناك من هو أكبر منهم وكأنه قد سطا عليهم ثم لاذ بالفرار. إن مجتمعاتنا العربية تعاني من التخلف بقدر معاناتها من انعدام لغة التواصل مع الآخر في الداخل والخارج وهو ما يعد خطيئة كبرى لأنني أشعر أحياناً ndash; رغم الزحام - أن صورة مصر تشد غيرها على نحو غير مسبوق، فقد عرفنا الثورات والانتفاضات وأدركنا أنها لا تعالج بأساليب التسكين الموقت أو اللعب على عنصر الوقت حتى ولو كان مفهوم الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول الغربية أن قوة الجيش المصري تكمن في وطنيته وولائه للشرعية.

سابعاً: إنني أتناول أحداث تونس ومصر باعتبارها بداية سلسلة من الانتفاضات لا علاج معها إلا بالتمكين لحركة الإصلاح حتى تصل إلى عقل الشباب وقلبه. ويجب ألا ننسى أن الشباب هو مفجر الانتفاضة وملهم استمرارها، وواهم من يتصور أنه قد جرى تصديرها إليه أو جاءته من خارج الحدود، رغم أنني أعترف أن مصر مستهدفة من كل اتجاه ولكن ما حدث في تلك الانتفاضة يؤكد أن كل شيءٍ يجوز، وأن المستحيل ممكن، وكأنما نردد مع الآية الكريمة laquo;لمن الملك اليوم لله للواحد القهارraquo;.

ثامناً: إن أنماط الحكم وأساليبه في عالمنا المعاصر بدأت تأخذ مساراً جديداً يقوم على المفهوم الحديث للحوكمة أو laquo;الحكم الرشيدraquo; بمعناه الشامل، إذ لم يعد مقبولاً أن تلتقي دورة الاستبداد مع دورة الفساد فتُحكمان معاً القبضة على شعوب تغالب مطالب الحياة وتسعى نحو الحرية لأنها شعوب تؤمن بأن إرادتها من إرادة الله.

تاسعاً: لقد علّمنا الدرس المصري ومن قبله الدرس التونسي الرائد أن خصوصية الأوطان موضع اعترافٍ واحترام ولكن هناك قواسم مشتركة بين الشعوب في كل عصرٍ وأوان، فالحرية السياسية والحرية الاقتصادية مطلبان ملحان لأن البشر لا يعيشون بالخبز وحده ولكن بالكلمة الطيبة أيضاً، كما أن شعور المواطن بأن هناك ازدواجاً في المعايير وكيلاً بمكيالين هو أمرٌ يدعوه إلى التمرد ويدفعه إلى الثورة.

عاشراً: إن الحاكم الذي يقترب من شعبه ويتفاعل مع طوائفه ويكرس جهده لخدمته هو الحاكم الأقدر على حسن الإدارة التي تقترن بشفافية الحكم ونزاهة الأداء، وأنا ممن يظنون - على كل حال - أن فكر الإصلاح قد يكون خيراً من نهج الثورة كما أنني ممن يعتقدون كذلك أن الإصلاح يجب أن يكون بديلاً للقمع وأن التحرر يجب أن يكون بديلاً للتسلط، وأن المشاركة السياسية الواسعة هي البديل لتسلط الحكام.

هذه رؤيتنا نسوقها من بين غمار الأحداث ومن بين هدير الهتافات وأصوات المحتجين وشعارات الثوار ندعو بها أمتنا لكي تقف على مشارف العصر تتبنى مفرداته وتستلهم خطواته وتسعى للإصلاح وإقرار حقوق الإنسان واحترام آدمية البشر.