الذين عاصروا الاستقلال في مطلع الستينات لا يذكرون من الكويت إلا الحنين. تبدلت البلاد بل انقلبت رأساً على عقب. انهمار الثروة النفطية نقلها من عالم إلى آخر، ونقل شعبها من حياة إلى حياة، ومعه مئات الألوف من مواطني دول عربية أخرى وجدوا فيها مكاناً للعمل والعيش الكريم. جيل الاستقلال من الكويتيين هو بين أشد المتمسكين بوطنه نظام حكم وأسلوب حياة وهو من يورث نظرته هذه إلى أجيال جديدة. ليس لدى ذلك الرعيل الأول أية عقد وطنية أو قومية. هو يذكر أن كتائب من الجيش الكويتي وقفت إلى جانب الجيشين المصري والسوري في قناة السويس والجولان عام 1973، وخاضت الحرب معهما. في السويس سقط للكويتيين 37 عسكرياً. وفي الجولان ادخل الكويتيون للمرة الأولى مدافع 155 ملم في الحرب ضد إسرائيل.
لا عقد وطنية أو قومية. الثروات الأولى انتجت أول صندوق للتنمية عابراً للحدود في العالم العربي وربما في العالم. هو صندوق التنمية الكويتي، الذي يواصل حضوره في أكثر من مكان. والانفتاح الفكري والسياسي أنتج تجربة برلمانية رائدة في منطقة الخليج، وحريات إعلامية قوامها تعدد الآراء في وسائل متطورة أتخمت مجتمعاً يناقش في كل شيء. والإحساس بالمسؤولية تجاه عالم عربي يسوده القهر والاستبداد والفقر، جعل الدولة الخليجية تطلق في القمة الاقتصادية العربية الأولى قبل عامين صندوقاً آخر للمشاريع الصغيرة تبرعت بما يقارب نصف رأسماله لمكافحة الفاقة والعوز في هذا العالم الذي لن ينتظر القمة الثانية قبل شهر ونيف حتى يبدأ انتفاضاته.
المسار الطبيعي لتطور البلاد قطعه في صيف 1990 غزو مدمر من الجار العربي، عراق صدام حسين، وعندما قام التحالف العربي - الدولي بطرد الغزاة إلى ما وراء الحدود، ترك هؤلاء وراءهم أكثر من 700 بئر نفط مشتعلة وسخاماً أسود يملأ الفضاء وبنية تحتية مدمرة بالكامل. كان الوصول إلى الكويت في مطلع آذار (مارس) 1991، بُعيد التحرير بأيام مغامرة تتم من طريق المنامة في البحرين. مطارها تحول محطة للطائرات والآليات العسكرية، وأجهزة الأمن تكتفي بوجود ممثلين عنها يحاولون جاهدين القيام بالحد الأدنى من واجبات التدقيق في الجوازات والتأشيرات، أما في المدينة فالسكان قلة، وعلى المحاور الرئيسة بقايا آليات عراقية، وفنادق محترقة وزجاجات مياه يتقاسمها الزوار مثلما يتقاسمون دهشتهم واستغرابهم لما قد يفعله بلد شقيق بشقيق وجار.
تبدلت أمور كثيرة بين 1991 و2011، نظام صدام حسين أسقطه الأميركيون، وتحولت إيران قوة إقليمية عظمى في الخليج العربي والمنطقة، وتولت الحكم في بغداد قوى سياسية تحاول بناء علاقات ثقة مع جوارٍ لا يملك النظرة نفسها إلى الداخل العراقي. كان لا بد من اعتذار عراقي للكويتيين، والأهم تأكيد للاعتراف بالكويت دولة مستقلة. لم تنتظر القيادة الكويتية التغيير في العراق لتنخرط في عملية إعادة البناء. وشهدت البلاد منذ التحرير إحدى أكبر عمليات الإعمار في عصرنا الحديث. وبسرعة استعاد النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي حيويته، من انتخابات مجلس الأمة إلى تشكيل الحكومات وإخضاعها للمحاسبة، إلى توفير الرعاية للمواطنين من طبابة وتعليم مجانيين، إلى ورشة لا تتوقف في مجالات البنية التحتية كافة.
قد لا يكون هذا الجانب من الحياة اليومية واضحاً تماماً للمراقبين في الخارج، حيث تتصدر الجدالات السياسية بين برلمانيين ووزراء، المشهد السياسي، وقد يعتقد البعض أن حالة من عدم الاستقرار تسود البلاد... لكن هذا الانطباع غير صحيح، واحتفال الكويتيين بذكرى استقلالهم وتحررهم من الغزو كان شاهداً على ثقة بالنفس كبيرة إلى حد بعيد، من دون إغفال للتحديات الإقليمية الماثلة.
وبينما كان الكويتيون ينظمون شهراً من النشاطات الوطنية الشعبية، في تظاهرات جمعت الأطفال والشيوخ، اختصر أمير الدولة لهم هذه التحديات في ما اعتبره نواب وشخصيات laquo;خريطة طريقraquo;. قال لهم إن المرجع هو الدستور والقانون وإن الكويت هي فوق القبلية والحزبية وذكّرهم بموقع بلادهم على laquo;رأس الخليج العربيraquo; حيث تلتقي قوى الإقليم العظمى وتتشابك مشكلاتها، وقال إن التخطيط هو ما تحتاجه الدولة لتتمكن من الصمود والانتصار وإكمال البناء.
الكويت بحسب كلمة أميرها laquo;لم تقم اليوم وليست وليدة صدفة... ليست لفريق أو جماعة أو قبيلةraquo;... و laquo;التزامraquo; النهج الديموقراطي والحرية المسؤولة خيار لا رجعة فيه... والدستور حكم يعمل الجميع تحت سقفه وهو إنجاز حضاري نصونه ونعتز بهraquo;. ولمواجهة التحديات يقترح الأمير laquo;حسن ترتيب الأولوياتraquo; و laquo;حسن التخطيطthinsp;... والتماسك والابتعاد عن التحزب والتعصب والارتقاء إلى حجم المسؤولية الوطنية، والتزام القانون والتحصن بالقضاء النزيه ودولة المؤسساتraquo;.
إذا كان الاحتكام إلى الدستور والقانون هو السند الداخلي الأقوى، فإن الكويت لا تخفي اعتمادها على أشقائها العرب، خصوصاً في دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى الأمم المتحدة وقراراتها. فالشرعية العربية والدولية هما مرجع الإدارة الكويتية، وهما، خصوصاً في ذكرى تحرير البلاد يكتسبان مكانة خاصة لم تغب عن الاحتفالات الوطنية وبرزا في العرض العسكري العربي والدولي الذي أقيم في المناسبة. لقد جمع هذا العرض الذي أقيم شمال الكويت، في نقطة أقرب إلى الحدود العراقية وإيران، كل من شارك في التحرير. في المنصة اجتمع مسؤولون من أميركا وأوروبا وآسيا إلى جانب مسؤولين عرب أبرزهم النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء السعودي وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز والرئيس السوري بشار الأسد والرئيس اللبناني ميشال سليمان، كما جلس الرئيس التركي عبدالله غل إلى جانب نائب الرئيس الإيراني محمد رضا مرتاج، والأمير خالد بن سلطان مساعد وزير الدفاع والطيران السعودي وقائد عملية laquo;عاصفة الصحراءraquo;، وإلى جانبه رئيس الأركان الأميركي وزير الخارجية السابق كولن باول.
كان الحضور معبراً في تفاصيله ومعانيه. أمامه سارت الفرق العسكرية بانتظام، مدرعات أميركية تليها فرنسية وبريطانية فسعودية فدبابات مصرية وسورية وفي الختام حضور قوي لكتائب الجيش الكويتي المجهز بأحدث الأسلحة. قال أحد الحضور من المراسلين الأجانب: هذه قوى الممانعة في المنطقة تستعرض قواتها بقيادة أميركا. ورد آخر: لا، هذه هي الكويت بقضيتها الوطنية المحقة، وقد تمكنت من جمع العالم حولها
التعليقات