احمد المرشد

لم تكن الإدارة الأمريكية تتوقع تلك الثورات العربية التى شهدتها المنطقة بصورة مفاجئة، ومن هنا كانت تلك الثورات والانتفاضات صدمة للإدارة الأمريكية، حيث لم تترك لواشنطن او ايا من مسئوليها سواء كإدارة او مراكز بحثية او كونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ، فرصة مراجعة السياسات الموضوعة للتعامل مع الحالات الطارئة في المنطقة وكل حالة على حدة . فكل هذه الازمات المتتالية والمفاجئة والسريعة فى نفس الوقت، أوقعت البيت الأبيض ورجال الدبلوماسية الأمريكية في فخ سوء التقدير . ولكن اذا كان لكل قاعدة شواذ، فالاستثناء هنا هو أحداث تونس ثم مصر . فتطورات المواقف المتلاحقة والسريعة في البلدين وقدرة المؤسستين العسكريتين في احتواء الموقف وتجنب إراقة الدماء ضد الشعبين التونسي والمصري، أراحت السياسيين الأمريكيين من مضاعفات حادة ، مقارنة بما يجري فى ليبيا وسوريا واليمن. فما يجري في هذه الدول الثلاث، التى شهدت تدخلا من الجيش والداخلية معا مما ادى الى اراقة الدماء فيها، يسبب صداعا للإدارة الأمريكية، وإن كان تعاطي واشنطن يختلف من دولة لاخرى.
ففي سوريا على سبيل المثال ، الموقف لم يتحدد بعد بصورة يمكن معها معرفة التوجه الأمريكي، فوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون رفضت التصريح صراحة بامكانية تدخل الولايات المتحدة في سوريا بالطريقة التي تدخلت بها في ليبيا في الوقت الحالي لدعم احتجاجات السوريين. وكان ردها دبلوماسيا للغاية :raquo; إن كل انتفاضة بدولة عربية لها خصوصيتهاraquo;. بيد أن هيلاري كلينتون وعندما احرجها الصحفيون بأسئلتهم المتلاحقة خاصة بتدخل واشنطن تدخلا يتناسب مع ما يجري فى ليبيا ، لم تجد سوى العودة الى الديباجة المعروفة ، وهى ان بلادها تأسف بشدة للعنف في سوريا وندعو مثلما دعت كل الحكومات العربية فى السابق ، إلى الاستجابة لاحتياجات الشعوب وعدم اللجوء للعنف والسماح بالاحتجاجات السلمية وبدء عملية للإصلاح الاقتصادي والاجتماعيraquo; . مبرر آخر اشارت اليه الوزيرة الأمريكية، مستغلة اختلاف الظروف بين سوريا وليبيا، وركزت فى نفس الوقت على ان مستوى العنف في سوريا والحملة التي شنتها الحكومة على المحتجين هناك لم تولد تنديدا دوليا بعد أو نداءات من الجامعة العربية أو جهات أخرى، بفرض منطقة حظر جوي، كتلك المفروضة فوق ليبيا.
وعلى مستوى ما يجري فى اليمن.. فحدث ولا حرج، فالموقف الأمريكي متخبط للغاية رغم مرور اكثر من شهر ونصف على بداية الاحداث هناك. هذا على المستوى السياسي والدبلوماسي، اما على المستوى العسكري يختلف تماما عن نظيره السياسي. خاصة وان وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس أعلن صراحة وبوضوح أن سقوط الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وتسلم حكومة اخرى مكانه سيمثل مشكلة خطيرة للولايات المتحدة في مكافحة تنظيم القاعدة. ويعد هذا اوضح موقف أمريكي إزاء الأزمة السياسية التي تعصف باليمن حاليا. فقال جيتس :raquo; اذا سقطت الحكومة الحالية فى اليمن ، وإذا حلت محلها حكومة اخرى، فسنواجه تحديات إضافية في اليمن، ما من شك في ذلك. إنها مشكلة فعليةraquo;. ولم يترك الأمور للتخمين او التأويل ، لان رده التالي قدم فيه مذكرة تفسيرية لموقفه المشار اليه. وطبيعي ان يكون تنظيم القاعدة هو الذي يشغل بال وزير الدفاع الأمريكي وادارته فى الوقت الراهن، وليس مصير الشعب اليمني وتمتعه باصلاحات ديمقراطية وسياسية هناك. فروبرت جيتس اعلن ان الجناح الأكثر نشاطا و الأكثر عنفا في القاعدة وهو laquo;تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربيةraquo; ، يتحرك انطلاقا من اليمن، ونحن نتعاون مع الرئيس صالح وأجهزة الأمن اليمنية في مكافحة الإرهابraquo;. والنتيجة الطبيعية لمواقف جيتس وبلاده فى هذا الامر، هو تغليب المصلحة الجيوسياسية لأمريكا على مصلحة الشعب اليمني، خاصة وان واشنطن جعلت من مكافحة تنظيم laquo;القاعدةraquo; في اليمن أساس علاقاتها مع النظام اليمني.
ومن هنا يأتي القول بان الولايات المتحدة تتخوف من أن يكون لانهيار النظام في اليمن مردود سلبي على جهود الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة، والتي يعد نظام الرئيس اليمني علي عبد الله صالح حليفا فيها. ويعاني اليمن من حرب مفتوحة مع تنظيم القاعدة في البلاد، كما يعاني من موجة عنف تدعو إلى انفصال الجنوب عن دولة الوحدة، في الوقت الذي يعاني فيه اليمن ايضا هدنة هشة مع المتمردين الحوثيين في الشمال.. ومن الطبيعي ان ترهق كل هذه التطورات الدائرة فى اليمن الإدارة الأمريكية. وبالتالي، فان المصلحة الأمريكية هى التى تتحكم فى الامور وليس مصلحة اليمن او شعبه، وإن كان الابقاء على الرئيس على عبد الله صالح هو فى اطار الحرص على تغليب المصلحة الأمريكية.
ثم نأتي الى ليبيا .. وقد نرى ان نشير اولا الى تأريخ العلاقة بين الولايات المتحدة و ليبيا على الاقل خلال التاريخ الحديث ، فهي علاقة تتسم بالتعقيد الشديد لسنوات كثيرة. هذه العلاقة شابها العداء الأمريكي البالغ ليبيا ، وبلغ حده بقصفها (خلال سنوات حكم الرئيس رونالد ريجان). لتأتي أزمة لوكيربي المتعلقة بإسقاط طائرة (بان إم) فوق اسكوتلندا. لتشهد العلاقة تحسنا ما اسفر عن دفع ليبيا تعويضات سخية لعائلات ضحايا إسقاط الطائرة. ثم أصبحت ليبيا محطة مهمة لزيارات أعضاء في الكونجرس، لتشهد اكبر حدث دبلوماسي بزيارة وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس للعاصمة طرابلس ، لتشهد العلاقة نوعا من الدفء والقوة، ثم لتعود الآن عدوانية أكثر مما كانت عليه.
إذا العلاقة بين الدولتين كانت محل تغيير وشد وجذب وتخضع لظروف متغيرة ومتأرجحة توصف غالبا بانها غاية فى التعقيد. من هذه الظروف المعقدة حاليا: خوف الولايات المتحدة من تدخلها العسكري في دولة إسلامية ثالثة، بعد أفغانستان والعراق. وصلة ذلك بمحاولة الرئيس باراك أوباما تحسين سمعة بلاده في العالم الإسلامي، في ضوء الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة عام 2009. كما صار واضحا أن روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي ، لم يكن متحمسا للتدخل العسكري الأمريكي في ليبيا حتى لو كان تحت غطاء حلف الناتو . ثم نأتي لتطور لافت آخر، وهو ان الأمريكيين اعلنوا صراحة انهم سيتركون مهمة قيادة العمليات العسكرية الخاصة بليبيا الى قيادي عسكري أوروبي او كندي.
وكل هذا يقودنا الى تحليل الموقف الأمريكي الذي اختلف تماما عن بقية التوجهات الأمريكية في مصر وتونس وسوريا واليمن. فرغم التدخل العسكري الأمريكي تحت غطاء حلف الناتو، خرج علينا الرئيس الأمريكي باراك أوباما ليقول إن بلاده لم تكن تود أن تقوم بعمل عسكري، لكن سياسة القذافي الدموية ضد شعبه هي التي أجبرتنا على أن نتدخل. وأوباما هنا يحاول اقناعنا بان مجرد رد فعل القذافي هو السبب وراء الدعم الأمريكي لسياسة استخدام القوة العسكرية وفرض حظر الطيران على ليبيا، خاصة ان التدخل الدولي استهدف اولا تنظيف الأجواء فوق ليبيا، وهو التطور اللافت الذي ساعد الثوار الليبيين على تحقيق تقدم على الارض . ويعلم الجميع، ان القذافي لن يسقط بفعل التدخلات العسكرية، لان قوات الحلفاء لا تستطيع إسقاطه عن بعد، لأنها لن تحارب في شوارع طرابلس او سرت، ناهيك عن أنها لن تنزل أي قوات في أي مكان في ليبيا، التزاما بقرار مجلس الأمن. بيد ان الأمريكيين يرون انهم وفروا للشعب الليبي الأرضية الكافية لإسقاط رئيسهم، وهو الهدف الأمريكي والأوروبي وشبه الدولي حتى الآن.
اجمالا.. فان المواقف الأمريكية خاصة تجاه المنطقة العربية ، هى مواقف ممجوجة ولا تتصف بالمصداقية، وتتعلق فقط بالمصلحة الأمريكية وليست مصلحة شعوب المنطقة، فأمريكا ليس لها صديق دائم، وغالبا ما تضحي باصدقائها بدليل ما فعلته مع الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي كان اقرب حلفائها ، وفي لحظة تخلت عنه فى لمح البصر، ومن قبله الرئيس انور السادات وشاه ايران ونظام صدام حسين السابق وغيرهم كثيرون. ونراها تقول تارة انها مع الشعوب، ولكن اذا امعنا النظر فى مواقفها تكون النتائج العكس تماما. والذي يعيش سيرى اكثر من الولايات المتحدة. فقط علينا الانتباه لتغير المواقف الأمريكية. ولكم تحياتي!!